قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
الأمن نعمة من خصائص المؤمن وحده:
أيها الأخوة الكرام، لازلنا في آيات الأمثال، والآية اليوم:
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾
[سورة النحل: 112]
أيها الأخوة، في هذه الآية كلمة آمنة، ونعمة الأمن لا تعدلها نعمة على الإطلاق، حينما تكون آمناً في سربك، لا تتوقع مصيبة، ولا قتلاً، ولا اغتيالاً، ولا قلقاً، ولا افتقاراً، حينما تشعر أنك بنعمة سوف تستمر معك، هذه نعمة لا تعدلها نعمة، لذلك اعتقدوا يقيناً أن هذه النعمة من خصائص المؤمن وحده، والدليل:
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾
[سورة النحل: 112]
أما أن الأمن من خصائص المؤمن وحده، فهناك دليل قطعي:
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
[سورة الأنعام: 81-82]
الفرق بين الأمن و السلامة:
أيها الأخوة الكرام، من أجل أن أوضح لكم قيمة الأمن سأفرق بينه وبين السلامة، أنت مثلاً متجه إلى حمص بسيارتك، عجلة الاحتياط فاسدة، من دمشق إلى حمص أنت قلق جداً، ولو حصل خلل بأحد العجلات الأربعة بركت، لأنه لا يوجد معك احتياط، قد تصل من دمشق إلى حمص سالماً، ولم يحدث معك شيء، لكن أنت بهذه الرحلة فقدت الأمن، لأنه لا يوجد معك عجلة احتياط، لو أن هذه العجلة الاحتياط فرضاً فاسدة لكنك لا تعلم أنت آمن، قد يكون الأمن له مبرر وقد يكون بلا مبرر، الآن لو العجلة فاسدة وابنك بالليل أصلحها لكن ما بلغك، وأنت سافرت إلى حمص طوال الطريق قلق مع أن معك عجلة جاهزة، لكنك لا تعلم، كأن الأمن ليس له علاقة بالواقع، الله عز وجل يخلق في قلبك الأمن فأنت مستريح، وقد يسلب منك نعمة الأمن فأنت في قلق، الأمن من نعم الله الكبرى:
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
[سورة الأنعام: 81-82]
مرة حدثني أخ بالعراق قال: والله ما من يوم أخرج فيه من البيت إلا وأودع أهلي وأولادي واحداً واحداً، لأن احتمال موتي في الطريق خمسون بالمئة، عفواً نحن في هذا البلد الطيب نعيش نعمة والله لا تقدر بثمن، آمن، مطمئن، قد تكون في الطريق الساعة الثانية ليلاً، وامرأة خرجت من بيت أهلها إلى بيتها تمشي وحدها في الطريق، لا يوجد خطر، ولا قلق إطلاقاً، هذه نعمة لا تعدلها نعمة اشكروا الله عليها.
إحساس المؤمن أن الله يحفظه ويدافع عنه هذا شعور لا يقدر بثمن:
حدثني أخ كان في طائرة متوجهة من أمستردام إلى دمشق، سمع رسالة باللغة الإنكليزية في الطائرة أنكم قادمون إلى آمن بلد في العالم، تتمة الرسالة: بإمكانك أن تتجول أنت وزوجتك إلى ساعة متأخرة من الليل دون أن تخشى شيئاً، بينما في أرقى بلاد الغرب ـ هذه حقيقة دقيقة ـ حتى أكون دقيقاً معكم ليس في كل المدينة لكن بالتعبير الأجنبي في مركز المدينة بعد المغرب السير في المدينة خطر، هناك خطف، ونشل، وقتل، فبمدن راقية جداً وتعد قمماً في الحضارة بعد الساعة الخامسة، مركز المدينة فيه قلق كبير، من قتل، أو نشل، أو خطف، لكن في بلاد المسلمين نعمة الأمن لا تعدلها نعمة.
لذلك مرة ثانية:
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾
إيمان مع عدل:
﴿ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ ﴾
باللغة العربية هناك دقة بالغة، لو أن الله قال: أولئك الأمن لهم أي الأمن لهم و لغيرهم، أما عندما قدم الأمن على لهم، أصبح هناك أسلوب القصر والحصر، أي الأمن لهم وحدهم، لذلك أكبر نعمة تتنعم بها أنك تشعر أن الله لا يتخلى عنك، وأن الله لا يسلمك، وأنت في حرز حريز بعناية الله عز وجل، فإحساس المؤمن أن الله يحفظه، أن الله يسدده، أن الله يدافع عنه، أن الله يأخذ بيده، أن الله لا يسلمه لأعدائه، هذا شعور لا يقدر بثمن.
من علامات الإيمان الشعور بالأمان ومن علامات الشرك الشعور بالخوف والقلق:
أيها الأخوة الكرام، الحقيقة المُرّة أن أي إنسان وقع في الشرك يقذف الله في قلبه الخوف:
﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا ﴾
[سورة آل عمران: 151]
حينما يقع الإنسان في الشرك يقذف في قلبه الرعب والخوف، من علامات الإيمان الأمان، من علامات الإيمان الشعور بالأمان، وحينما نسمع في بلاد حولنا اضطرب حبل الأمن فيها، وصار قتل الإنسان لا يكلف إلا رصاصة، وأن المشي في الطريق يعد خطراً كبيراً، لا تعرفون نعمة الأمن في بلادنا إلا إذا فقد الإنسان ـ لا سمح الله ـ هذه النعمة، لذلك قال تعالى:
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ﴾
تعلمون أن هناك بلاداً عربية سياحية من الطراز الأول، دخل كبير، ودخل فلكي، وبلاد جميلة، وجبال خضراء، وتجارة واسعة، فقدوا نعمة الأمن فصارت الحياة في هذا البلد لا تحتمل، لا تعاش.
بالمناسبة هناك حكم شرعي أنك أيها المؤمن لا يجوز أن تقيم في بلد اضطربت فيه نعمة الأمن، منهي عن أن تسكنه، فلذلك الآية الكريمة:
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ﴾
والله أيها الأخوة، الله يحفظ بلادنا حينما أرى التفلت، والاختلاط، والتسيب، والفسق، والفجور، والله أخاف أن يصيبنا ما أصاب غيرنا، لأن الله كبير، فإذا استهان الناس بنعمة الأمن، وتوسعوا في المعاصي والآثام، قد يفقدون هذه النعمة، أي ليس من السهل أن تمشي في الطريق إلى البيت وأنت آمن، ليس من السهل أن ترسل ابنك ليأتيك بحاجات في الليل وأنت آمن، ليس من السهل أن تأتي زوجتك من بيت زوجها إلى بيتك وحدها وأنت آمن، هذه نعم لا تعد ولا تحصى، ولا يعرف قيمتها إلا من فقد الأمن، لذلك:
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ ﴾
من خصائص الكفر أن تترك العبادات.
الله عز وجل لا يعذب أحبابه أبداً:
سيدنا معاذ بن جبل أردفه النبي وراءه قال له: يا معاذ:
(أتدري ما حقُّ الله على العباد؟ فقلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حقَّه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، قال: فتدري ما حقُّهم على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذِّبَهم)
[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن معاذ بن جبل]
صدقوا ولا أبالغ هذه الحديث يملأ قلب كل شاب منكم أمناً:
(ما حقُّهم على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذِّبَهم)
هذا حديث، أما الآية:
﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾
[سورة المائدة: 18]
الله عز وجل لم يقبل دعواهم، بل رفضها:
﴿ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ﴾
[سورة المائدة: 18]
لذلك استنبط الإمام الشافعي أن الله لا يعذب أحبابه أبداً، ولو أنه قبِل دعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه لما عذبهم.
الثقة بالله عز وجل أحد مظاهر الإيمان به:
شيء آخر: أنا أشعر أن المؤمن أو الواحد منكم إن شاء الله حينما يثق أن الله لن يتخلى عنه يحبه الله، عندما يكون الابن واثقاً من والده، ولا يتخلى عنه، الأب يرتاح، أما إذا كان هناك قلق من الابن تجاه الأب فيتألم الأب أشد تألم، أحد مظاهر الإيمان أنك واثق بالله، الصحابة الكرام أعطوا النبي الكريم دواء ذات الجنب فغضب، قال: ذاك مرض ما كان الله ليصيبني به.
أنا لي صديق استيقظت زوجته صباحاً فإذا هي تصرخ بويلها، أمسكت ابنتها فإذا هي مشلولة، بنت كالوردة، في السنة الثانية من حياتها مشلولة، يبدو أن أباها واثق من ربه كثيراً قال لها: الله عز وجل لن يصيبني بهذه المصيبة، قالت له: مشلولة، سبحانك يا رب هناك مرض شلل مؤقت يزول بعد ساعات يشبه الشلل تماماً، فكان مرضها من هذا النوع، وبعد ساعات شفيت، أنا أعجبني بهذه القصة ثقته بالله، وأنت كمؤمن مستقيم، تقيم الصلوات، تغض البصر، بيتك إسلامي، عملك إسلامي، لا تكذب، لا تأكل مالاً حراماً، لا تعتدي على أحد، معقول أن تعامل كما يعامل إنسان عادي؟
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
[سورة الأنعام: 81-82]
عدم استواء المؤمن مع الكافر عند الله تعالى:
هناك آية دقيقة جداً:
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾
[سورة الجاثية: 21]
والله لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآية لكفت، شاب مستقيم، يغض بصره عن محارم الله، يؤدي الصلاة، بار بوالديه، صادق بحديثه، عفيف بحركته، هل تعتقد أن هذا الشاب يعامل كأي شاب:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً ﴾
[سورة السجدة الآية: 18]
الله يعجب معقول؟ لا يستوون:
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾
[سورة الجاثية: 21]
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
[سورة القصص:61]
نعمة الأمن لا يعرفها إلا من فقدها:
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ ﴾
فسق، فجور، زنا، واختلاط، وخمر، وملاه ليلية، ونساء كاسيات عاريات،
﴿ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾
هناك بلاد كثيرة تعرفونها جميعاً، قطعة من الجنة، هذه البلاد فقدت نعمة الأمن، ودخلت في حروب أهلية دامت سنوات طويلة، أزهقت ما يزيد عن ثلاثمئة ألف إنسان، أنا أتمنى إن كنتم في نعمة فحافظوا عليها، هذا البلد الطيب يتمتع بنعمة الأمن، هذه نعمة قد لا نعرف قيمتها إلا إذا عشنا في بلد اضطرب فيه حبل الأمن، فلذلك الآية اليوم:
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾
[سورة النحل: 112]
بسبب معاصيهم والدليل:
﴿ أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾
[سورة قريش:4]
نعمتان لا تقدران بثمن أن تكون آمناً وشبعاناً.
والحمد لله رب العالمين
مختارات