قال تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
حقيقة الإيمان ليس أن يقر الإنسان بوجود الله بل أن يؤمن أنه هو الفعال:
أيها الأخوة الكرام، لا زلنا في أمثال القرآن الكريم، والآية اليوم هي قوله تعالى:
﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾
[سورة الروم]
أيها الأخوة، أن تقول: أنا مؤمن لأنني أُقر بوجود الله، إبليس اللعين قال:
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾
[سورة ص]
وقال:
﴿ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾
[سورة ص]
وقال:
﴿ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
[سورة الأعراف]
لكن حقيقة الإيمان ليس أن تقر بوجود الله، أن تؤمن أنه هو الفعال، هو الرافع، هو الخافض، هو المعطي، هو المانع، هو المعز، هو المذل، الدين توحيد، ألا ترى مع الله أحداً، ألا ترى يداً تعمل عملاً مع الله، أن ترى أن كل شيء بيد الله، أن كل شيء يرجع إلى الله.
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾
[سورة هود الآية:123]
من ازداد إيماناً جاءت مقاييسه مطابقة لمقاييس القرآن الكريم:
الحقيقة التوحيد كفكرة سهل، أما أن تعيش التوحيد فهذا شيء يحتاج إلى جهد كبير، مثلاً: حينما تقرأ قوله تعالى:
﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾
[سورة الأحزاب]
لو أنك ممن يطيع الله مثلاً ولكنك فقير، رأيت صديقاً لك في أعلى درجات الغنى، بيته فخم جداً، مساحات واسعة، عنده مركبتان أو ثلاث، دخله فلكي، طعام، شراب، ثياب، إذا تصورت أنه هو الفائز، وأنت مطيع لله، وهو لا يطيع الله، فإنك لا تعيش هذه الآية، قد تتحدث عن معناها، قد تدرك معناها، أما أن تعيشها فلا، فرقٌ كبير بين أن تفهم معنى الآية وبين أن تعيشها.
مرة ثانية أنت مطيع لله، والله عز وجل يقول:
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾
المعنى واضح، سهل جداً، سهل الإلقاء و سهل الفهم، لكن حينما ترى أن هذا الصديق الفاسق، الفاجر، الذي يملك هذه البيوت، وتلك المركبات، وهذه المكانة، وهذا الدخل الفلكي، أن تراه هو الفائز، ولست أنت، أنت لا تعيش الآية، فالبطولة لا أن تفهم معنى الآية أن تعيشها، أعلى درجات الفهم لكتاب الله أن تعيش الآيات، لذلك قال تعالى:
﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾
[سورة آل عمران]
يا ترى أنت في حياتك اليومية، في علاقاتك ببني البشر، هل ترى أن تزحزح عن النار وأن يتاح لك دخول الجنة هذا هو الفوز العظيم؟ هذا هو الفوز، فكلما ازداد إيمانك تأتي مقاييسك مطابقة لمقاييس القرآن الكريم، فإذا ضعف الإيمان تستخدم مقاييس أرضية، والآن الناس يُعظمون الأغنياء والأقوياء، ومن له وسامة فائقة، ومن له دخل كبير، ومن له منصب رفيع، هذه مقاييس البشر، لكن عند خالق البشر الإنسان الفائز هو المطيع ولو كان ضعيفاً أو فقيراً، فكلما ازددت إيماناً تأتي مقاييسك مطابقة لمقاييس القرآن الكريم.
الله عز وجل ما أمر الإنسان أن يعبده إلا بعد أن طمأنه:
لذلك الله عز وجل يضرب الأمثال، أنت إنسان صاحب مؤسسة تجارية كبيرة لو عندك بعملك التجاري موظفون، ولك شريك، هل يعقل أن تخاف من هذا الموظف؟ بكلمة واحدة تصرفه من العمل، بكلمة واحدة، هذا موظف، يمكن أن يطالبك بالتأمينات، أو يطالبك بالتعويض، لكن هل يستطيع هذا الموظف الذي جئت به وعينته في المؤسسة أن يزيحك من هذه المؤسسة؟ هل يستطيع أن ينافسك في القرار؟ أن يملي عليك أمراً؟ مستحيل، هو موظف، له حق عندك، تعطيه حقه وانتهى الأمر، أما الشريك، الشريك آمر، الشريك يحاسب، الشريك يسأل، أنت لم تداوم هذه السنة، أنا داومت، أنت لم تبذل جهداً، أنا بذلت، أنت لم تدفع، أنا دفعت، فالشريك يسأل، أما الأجير لا يسأل، فالله عز وجل قال: أنتم لا ترضون لأنفسكم أن يكون عندكم أجير أن يكون شريكاً لكم في العمل، يملي عليكم، ويتدخل في شؤونكم، ويأخذ قراراً، وهو أجير وليس شريكاً، أما الشريك فممكن.
فالله عز وجل يقول: ضرب الله مثلاً من حياتكم، من أنفسكم، من معطياتكم، مما تعيشون،
﴿ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾
أي ملكت أيمانكم من كان يعمل معكم بالمعنى المعاصر،
﴿ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ﴾
هل يعقل أن
﴿ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾
أن تخاف هذا الأجير كما تخاف الشريك، الشريك يحاسب، والذي له شريك له معلم، هل يعقل أن تخاف هذا الأجير على أنه شريك؟ مستحيل، أنت لا ترضى هذا لنفسك فكيف رضيته لربك، كيف تقول هؤلاء آلهة اللات والعزة، حجر إله؟! أساساً هناك قبيلة صنعت لها إلهاً صنماً من تمر، فلما جاعت أكلته، قالوا: أكلت ودٌ ربها، أي هل من الممكن أن ترى أن قطعة حجر إله، الآن الناس لا يعبدون حجراً، لكن يعبدون بعضهم بعضاً، أنت لمجرد أن تعصي خالقك، وأن تطيع مخلوقاً خوفاً من هذا المخلوق فأنت لا تعرف الله، وأنت لا تعبده عباده حق، القضية خطيرة أيها الأخوة، ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.
لذلك الله عز وجل، قبل أن يأمرك أن تعبده طمأنك، قال لك:
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾
فاعبده، متى أمرك أن تعبده بعد أن طمأنك.
علاقة المؤمن مع جهة واحدة هي الله عز وجل:
لذلك أخواننا الكرام، أنت تصور موظفاًً بشركة لها صاحب، توفي هذا الصاحب وله خمسة أولاد، فاستلموا العمل مكان أبيهم، لكن هؤلاء الأولاد متشاكسون، متخاصمون، وأنت موظف عندهم جميعاً، هذا يعطيك أمراً أن اذهب إلى هذا المكان، الثاني يسأل عنك لا يجدك يعنفك، حياة لا تطاق، خمسة مدراء متشاكسون وأنت تابع لهم، شيء فوق طاقة البشر، أما تصور لهذه المؤسسة مديراً واحداً، فأنت إذا حسنت تعاملك معه فهذه قضية سهلة.
ميزة المؤمن علاقته مع جهة واحدة، مع الله، اجعل الهموم هماً واحداً يكفك الهموم كلها، من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله الهموم كلها، اعمل لوجه واحد يكفك الوجه كلها، أنت حينما تؤمن أن وجودك، وسلامة وجودك، وكمال وجودك، واستمرار وجودك، بيد الله، وأن رزقك بيد الله، وأن الخير من الله، وأن الذي يزعجك من الله، وأنك في قبضة الله، لا تعبد إلا الله، ولا تعبأ بغيره، الآية الكريمة فيها تحدٍّ كبير قال:
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ﴾
[سورة هود الآية:55]
كيدوني، أي افعلوا ما بدا لكم:
﴿ ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ﴾
[سورة هود]
لا ترتدوا:
﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
[سورة هود]
مثل للتقريب: وحوش كاسرة، ضباع، ذئاب، أسود، لكنها مربوطة بحبال وأزمة محكمة، أنت علاقتك مع من؟ مع الوحوش أم مع من يقبض زمامها؟ هذه قصة لك، الناس ضعيفو الإيمان، الواقعون في الشرك الخفي، علاقتهم مع الوحوش يخافونه، فإذا اقترب بعض الوحوش منهم انهاروا من الخوف، لكن هناك إنساناً علاقته مع من يملكها، يرضيه، فإذا أرضاه أبعدها عنه.
لا يخافن العبد إلا ذنبه ولا يرجون إلا ربه:
لذلك ما من حديث جامع مانع كهذا النص: " لا يخافن العبد إلا ذنبه، ولا يرجون إلا ربه "، هناك أمراض وبيلة، وحوش كاسرة، أنت في خيمة هناك عقارب، وأفاع، وثعابين، و لصوص، و قطاع طريق، والله الحياة تصور مليون سيف فوق رأس كل إنسان، أي ورم خبث يجعل حياة الإنسان جحيماً لا يطاق.
لي صديق يحمل أعلى شهادة في الجيولوجيا، وقدم إلى بلده، وعين بمنصب رفيع جداً، بعد حين فقد بصره، زاره صديق له قال له: والله أتمنى أن أجلس على الرصيف أتكفف الناس وأن يرد لي بصري.
بصرك بيد الله، سمعك بيده، حركتك بيده، عقلك بيده، زوجتك بيده، أولادك بيده، حرفتك بيده، دخلك بيده، مكانتك بيده،
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾
كل شيء بيد الله عز وجل، والله له منهج، والتعامل معه وفق قوانين، فأنت إذا أرضيت الله وحده رضي الله عنك وأرضى عنك الناس، ودقق في هذا الحديث حيث لا يوجد أدق منه:
(من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أسخط برضا الناس سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)
[أخرجه الترمذي والإمام أحمد وابن حبان عن عائشة أم المؤمنين]
ومن ابتغى أمراً بمعصية، كان أبعد ممن رجا، وأقرب ممن اتقى، لذلك
﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾
عندك أجير أخذ قراراً ببيع المحل، المحل ليس له، من صلاحيات الأجير يبع المحل؟ يطلب منك تعويضاً، يطلب منك زيادة راتب، أما يبيع المحل وأنت لا علم لك فهذا لم يعد أجيراً صار شريكاً، القصة كلها كل ما سوى الله أجير، فإذا أنت عاملتهم كشركاء تكون وقعت في الشرك الخفي، هذا الشرك الخفي خطير جداً، لذلك:
(إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي ـ أما إني لست أقول أنكم تعبدون صنما ولا حجراً ـ ولكن شهوة خفية وأعمال لغير الله)
[أخرجه البزار عن عبد الرحمن بن غنم]
أريد أن أقول لكم: هل يمكن أن يضغط الدين كله بكلمة واحدة؟ نعم إنها التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.
والحمد لله رب العالمين
مختارات