الآفة الثانية والعشرون - المراء أو الجدال
الآفة الثانية والعشرون التي قد يبتلى بها نفر من العاملين، بل لقد ابتلوا بها بالفعل، وكانت وراء كثير مما نعاني نحن المسلمين العاملين لدين الله اليوم إنما هي: " المراء أو الجدال ". وحتى يتخلص من هذه الآفة من ابتلي بها، ويتوقاها من سلمه الله - عز وجل - منها، فإنه لابد من الوقوف على حقيقة أبعادها ومعالمها، وذلك من خلال الجوانب الآتية: أولا: تعريف المراء أو الجدال: لغة يطلق المراء في لغة العرب على معان عدة، أهمها: 1 - الشك، تقول: امترى في الشيء: تعني شك فيه، ومنه قوله سبحانه في التنزيل: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ} (البقرة 147). 2 - مخالفة الغير والتَّلوِّي عليه أو عدم الوضوح معه، تقول: مارى فلان فلانا، أي خالفه وتلوى عليه، أو لم يكن واضحا معه. 3 - المناظرة والجدل، تقول: مارى فلان فلانا، أي ناظره وجادله، ومنه قوله سبحانه: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا} (الكهف: 22). 4 - استخراج الشيء من مكمنه، تقول: امترى الشيء، أي استخرجه من مكمنه، وامترى الناقة، أي حلبها واستخرج اللبن من ضرعها. 5 - التزين والتجمل، تقول: تمرى بالشيء، أي تجمل وتزين. () ولا تعارض بين هذه المعاني جميعا، فإن المناظرة أو المجادلة قد تكون في ظاهرها قائمة على التجمل والتزين، ولكنهها في باطنها تقوم على أساس استخراج ما عند الغير ومخالفته، بل والشك فيما يصدر عنه. والجدل لغة: يطلق على معان عدة وأهمها: 1 - الصرع والغلبة، تقول: جدل الرجل، أي صرعه، وغلبه في الجدل. 2 - الإتقان والحسن،تقول: جدل الحبل جدلا، أي أحكم فتله وأتقن، وجارية مجدولة الخلق، أي حسنته. 3 - شدة الخصومة والمناقشة، تقول: جادله مجادلة وجدالا: ناقشه، وخاصمه، ومنه قوله سبحانه في التنزيل: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125). {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت). {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (المجادلة). 4 - مقابلة الحجة بالحجة، تقول: جادل فلان فلانا: قابل حجته بحجة من عنده. () ولا تعارض بين هذه المعاني جميعا، فإن إتقان وحسن الخصومة والمناقشة ينتهي إلى الصرع والغلبة غالبا. اصطلاحا: أما معنى المراء في اصطلاح الدعاة، فقد عرفه الغزالي في إحياء علوم الدين بقوله: " كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه إما في اللفظ وإما في المعنى، وإما في قصد المتكلم ". () كما عرف الجدل بقوله: " قصد إفحام الغير، وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في كلامه، ونسبته إلى القصور والجهل فيه "، وهو غالبا ما يكون في المسائل العلمية، أما المراء فهو عام في المسائل العلمية وغيرها. () ثانيا: صور المراء أو الجدال، ووضعهما في ميزان الإسلام: وللمراء أو الجدل صور أو أمارات يعرف بها كل واحد منهما وأهمها: 1 - الطعن في كلام الغير من حيث اللفظ، بإظهار خلل فيه من جهة النحو، أو من جهة اللغة، أو من جهة العربية، أو من جهة النظم والترتيب بسوء تقديم أو تأخير. 2 - الطعن في كلام الغير من حيث المعنى، بأن يقول المماري: ليس الكلام كما تقول، وقد أخطأت فيه من وجه كذا، وكذا. 3 - الطعن في كلام الغير من حيث القصد، بأن يقول المماري لخصمه: هذا الكلام حق، ولكن ليس قصدك منه الحق، وإنما أنت فيه صاحب غرض، وما يجري مجراه. () والمراء أو الجدال على هذا النحو مذمومان، وذلك للنصوص الكثيرة الدالة على هذا، ومنها قوله تعالى: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (الكهف). {إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} (الشورى). {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} (النجم). {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ}. {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} (مريم). {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} (النجم). {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} (غافر). {وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} (النساء). {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (الأنعام). {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} (غافر: 35). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وان كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه "، () " ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل "، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف) "، () " أبغض الرجال الألذ الخصم "، () إلى غير ذلك من النصوص الدالة بصراحة ووضوح على ذم المراء أو الجدل. " وهذا لا يمنع أن هناك نوعا من الجدل محمود، وهو ما كان دعوة إلى حق أو إيضاحا وبيانا ودفاعا عن حق، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَـن} (النحل: 125). {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم} (العنكبوت: 46). {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (النحل). {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} (هود). ثالثا: أسباب الوقوع في المراء أو الجدال: وهناك أسباب أو بواعث توقع في المراء أو الجدل ونذكر منها: 1 - عدم رعاية آداب النصيحة: وذلك أن للنصيحة في الإسلام آدابا، وأهمها: أن تكون في السر ما لم يجاهر بها صاحبها، وأن تكون بالأسلوب المناسب وفي اللحظة المناسبة، وأن تكون بنية الإصلاح والتغيير إلى ما هو أحسن، وأن تكون خالصة لوجه الله تعالى، وأن يتجرد الناصح من حوله وقوته إلى حول الله وقوته. وعدم رعايته هذه الآداب قد يولد في نفس المنصوح نوعا من العزة بالإثم، ويحاول التعبير عنها في شكل مراء أو جدل ليبرر به ما هو عليه من خطأ، ولا يقبل النصيحة. 2 - عدم الحظوة بثقة واحترام الآخرين: وذلك أن المرء قد لا يحظى لسبب أو لآخر بثقة واحترام الآخرين سواء كان ذلك في البيئة القريبة - ونعني بها البيت - أم في البيئة البعيدة - ونعني بها المجتمع - ويكون هذا منزلقا أو مدخلا خطيرا للوقوع في المراء أو الجدل، كرد فعل يحاول به إثبات وجوده، وحمل الآخرين على الثقة به واحترامه. ولعل هذا هو السر في منع الإسلام الكذب ولا سيما على الصغار ؛ لأنه يؤدي إلى سحب الثقة، أو نزع الهيبة والاحترام من نفوس الآخرين، يقول صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وان البر يهدي إلى الجنة، وما زال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ". () " من قال لصبي: تعال هاك، ثم لم يعطه فهي كذبة ". () وعن رجل من موالي عبد الله بن عامر بن ربيعة العدوي، أن عبد الله بن عامر حدثه فقال: دعتني أمي يوما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وما أردت أن تعطيه؟ " قالت: أعطيه تمرا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة ". () 3 - الميل إلى الغلبة وعدم قبول الهزيمة: وقد يكون الميل إلى الغلبة، وعدم قبول الهزيمة سببا من أسباب الوقوع في المراء أو الجدل؛ ذلك أن المرء قد يكون ميالا بطبعه إلى الغلبة، ولا يقبل الهزيمة، ويستخدم في سبيل تحقيق هذا الميل كل ما يتاح له من أسباب ووسائل، ويكون المراء أو الجدل واحدا من هذه الأساليب، وتلك الوسائل. ولعل هذا هو السر في دعوة الإسلام إلى الإنصاف من النفس، إذ يقول الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء). {ياَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار ". () 4 - البيئة المحيطة بالمرء: وقد تكون البيئة التي ينشأ فيها المرء، قريبة كانت هذه البيئة - ونعني بها البيت - أو بعيدة - ونعني بها المجتمع - هي السبب في الوقوع في المراء أو الجدل ؛ ذلك أن المرء كثير ما يتأثر بالجو المحيط به، ولا سيما إذا لم يكن قد أخذ حظه من التربية على كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وتشيع هذه الآفة في هذا الجو، وحينئذ يقع فريسة لها، ويصير من أخلاقه: المراء أو الجدل. 5 - التشويش على الحق والصواب: وقد يكون التشويش على الحق والصواب، هو السبب في الوقوع في المراء أو الجدل، ذلك أن المرء قد يكون على باطل أو خطأ، ويرى شمس الحق ونور الصواب يغزوان هذا الباطل وذلك الخطأ، ويحاولان اقتحام العقل والقلب معا، وهو لا يريد ذلك لسبب أو لآخر، وحينئذ يجعل من المراء أو الجدل سبيلا للتشويش على الحق والصواب، على نحو ما قال المشركون لبعضهم البعض، وهم يتشاورون على كيفية مواجهة الوحي الذي أوحاه الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقد حكاه القرآن عنهم فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}(فصلت). وعلى نحو ما يصنعه الملحدون والعلمانيون والمشركون في مواجهتهم للإسلام في العصر الحاضر من استخدام المراء أو الجدل سبيلا لقلب الحقائق وإدانة الأبرياء، وتبرئة المتهمين، انطلاقا من قاعدتهم المعروفة: " واجه خصمك بالتشويش والتهويش تصب منه ولو إلى حين ". 6 - الاشتغال بعلوم الجدل والمناظرة قبل التحصن بالكتاب والسنة: وقد يكون الاشتغال بعلوم الجدل والمناظرة من المنطق والفلسفة، هو السبب في الوقوع في المراء أو الجدل ولا سيما قبل التحصن بالكتاب والسنة، ذلك أن هذه العلوم قائمة على الجدل، وتضييع الأوقات بغير طائل، أو بغير جهد يذكر، ومن اشتغل بها قبل أن يحصن نفسه بكتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، يبتلى لا محالة بداء المراء أو الجدل. ولعل هذا هو سر اختلاف علماء المسلمين في حكم تعلم الفلسفة، والمنطق، فمن قائل بالجواز، وهو سيف الدين الآدمي، انطلاقا من أن الإنسان لديه عقل منحه الله إياه، يستطيع أن يزن به الأمور، وأن يميز به بين الحق والباطل، النافع والضار، ومن قائل بالمنع، وهو الحافظ أبو عمر؛ المعروف بابن الصلاح، انطلاقا من أن هذه العلوم تُعلّم المراء أو الجدل، وتنتهي بالإنسان إلى الشك وربما إلى الإلحاد والعياذ بالله، ومن متوسط يجيزها إذا صارت لدى المسلم حصانة من كتاب الله، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويمنعها إذا لم تتحقق هذه الحصانة حيث يخشى على المسلم حينئذ الشطط والفتنة في الدين، وهو قول الإمام النووي - رحمه الله تعالى. 7 - الإعجاب بالنفس بل الغرور: وقد يكون الإعجاب بالنفس بل الغرور والتكبر، هو السبب في الوقوع في المراء أو الجدل؛ ذلك أن من كان معجبا بنفسه، بل مغرورا متكبرا يلجأ إلى كثير من الأساليب والوسائل ليحتفظ بما ارتضاه لنفسه من هذه الأمراض والآفات. ويعد المراء أو الجدل من أهم هذه الأساليب وتلك الوسائل، وهذا هو الذي صنعه إبليس - لعنه الله - عندما أمر مع الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام، وامتنع، وقال له ربه: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ} (ص). عند ذلك رد على ربه في مراء وجدل قائلا: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (ص). ولعل ذلك هو ما أشار إليه رب العزة حين قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ}(غافر: 56). 8 - فراغ القلب من معرفة الله وتقواه: وذلك أن القلب إذا فرغ من معرفة الله وتقواه، بمعنى مراقبته وخوفه ورجائه، بصورة تحمل على الاستقامة، دخلت الدنيا هذا القلب، وتربعت على عرشه، ووسوس الشيطان، وبرزت النفس الأمارة بالسوء، وهنا يكون الاشتغال بما لا يسمن ولا يغنى من جوع من المراء أو الجدل، ومن الخصومة بالباطل وهكذا، ولهذا دعا رب العزة عباده إلى مقاومة الفراغ بتنويع العبادة لئلا تسأم النفس أو تمل، ويكون الفتور أو القعود، الأمر الذي ينتهي بالوقوع في حبائل المراء أو الجدل فقال سبحانه: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (الشرح). يقول الحافظ ابن كثير- تعليقا على هاتين الآيتين وتفسيرا لهما بما أثر عن السلف: " أي إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها، وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة وقم إليها نشيطا فارغ البال، واخلص لربك النية والرغبة، وقال مجاهد في هذه الآية: إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة فانصب لربك، وعن ابن مسعود: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل،، وفي رواية عنه: فانصب بعد فراغك من الصلاة وأنت جالس، وقال ابن عباس: فإذا فرغت فانصب في الدعاء، وقال الضحاك: فإذا فرغت، أي من الجهاد، فانصب، أي في العبادة. وإلى ربك فارغب: قال الثوري: اجعل نيتك، ورغبتك إلى الله عز وجل ". () ويقول العلامة الألوسي - رحمه الله: " وأشعرت الآية بأن اللائق بحال العبد أن يستغرق أوقاته بالعبادة... وذكروا أن قعود الرجل فارغا من غير شغل، أو اشتغاله بما لا يعنيه في دينه أو دنياه من سفه الرأي وسخافة العقل، واستيلاء الغفلة. وعن عمر رضي الله عنه: إني لأكره أن أرى أحدكم فارغا سبهللا لا في عمل دنياه ولا في عمل آخرته. وروي أن شريكا مر برجلين يصطرعان، فقال: ما بهذا أمر الفارغ ". () 9 - عدم وجود برنامج يواكب ويمتص الطاقات: وقد يكون عدم وجود برنامج يواكب ويمتص الطاقات لدى المرء، هو السبب في الوقوع في المراء أو الجدل؛ ذلك أن نفس المرء إن لم يشغلها بالنافع شغلته بالضار. وقد حدد الإسلام برنامجا يستوعب حياة المسلم في اليوم والليلة، وفي الأسبوع، وفي الشهر، وفي السنة، وفي العمر كله بحيث إذا حافظ عليه لم تبق لديه دقيقة تستغل في مراء أو جدل، كما شدد الإسلام على الأئمة أن يستفرغوا كل ما في وسعهم وكل ما في طاقتهم، من أجل أن يستنبطوا ما يملأ على المسلم حياته بالعمل الجاد المثمر وإلا حرموا الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة ". () 10 - الغفلة عن الآثار والعواقب المترتبة على المراء أو الجدل: وأخيرا، قد تكون الغفلة عن الآثار والعواقب المترتبة على المراء أو الجدل هي السبب في الوقوع في المراء أو الجدل، فإن من غفل عن الآثار الضارة، والعواقب المهلكة لأي أمر من الأمور أدت به هذه الغفلة إلى الوقوع في هذا الأمر. ولعل هذا من بين الأسرار التي من أجلها تأتي أحكام كثيرة في التشريع الإسلامي مقرونة بحكمة التشريع، ولعل هذا هو السر كذلك في كثرة التكرار ودوام التذكير، بل الأمر به في قوله سبحانه:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات). {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى} (الأعلى). رابعا: آثار المراء أو الجدل: وللمراء أو الجدل آثار ضارة وعواقب مهلكة سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي، ودونك طرفا من هذه الآثار وتلك العواقب: أ - على العاملين: فمن آثار المراء أو الجدل على العاملين: 1 - قسوة القلب: ذلك أن المراء أو الجدل مبني على الكلام الكثير الذي لا فائدة ترجى من ورائه، ولا طائل تحته سوى إفحام الخصم، والغلبة عليه ولو بالباطل. وكثرة الكلام بغير ذكر الله فيها قسوة للقلب، فكيف لو كانت بالباطل، وقد جاء في الحديث: " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله تعالى القلب القاسي ". () وقال مالك بن أنس - رحمه الله - إمام دار الهجرة: " المراء يقسِّي القلوب... ". () 2 - إغضاب الآخرين، الأمر الذي يؤدى إلى البغض والقطيعة والتآمر: وذلك أن من يشتغل بالمراء أو الجدل ينسى العمل ويركز على القول، ولا بركة في قول لا يصحبه عمل، كما قال الله عز وجل: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف). إذ في ذلك قطع للعبد عن ربه، فيقسو القلب، ويكون الغضب، بل البغض والقطيعة والتآمر من الآخرين. وقد وعى هذا الأثر لقمان الحكيم فقال يوصي ولده: " يا بني، لا تجادل العلماء فيمقتوك... ". () كما وعاه الإمام مالك فقال: " المراء يقسي القلب، ويورث الضغائن ". ووعاه سفيان الثوري فقال: " لو خالفت أخي في رمانة، فقال: حلوة، وقلت: حامضة لسعي بي إلى السلطان "، () وقال أيضا: " صاف من شئت ثم أغضبه بالمراء، فليرمينَّك بداهية تمنعك العيش ". () 3 - ضياع الهيبة وسقوط المروءة: وذلك أن المراء أو الجدل يحمل صاحبه على أن يكشف عن كل أوراقه، ويرمي خصمه بكل ما يستطيع، وإذا كشف المرء عن كل أوراقه، ورمى خصمه بكل ما يستطيع ضاعت هيبته، وسقطت مروءته لا محالة، إذ المرء كما قيل: مخبوء تحت لسانه، وفي هذا يقول عيسى عليه السلام: " من كثر كذبه ذهب جماله، ومن لاحى الرجال سقطت مروءته... ". () 4 - عدم أمن الفتنة في الدين: وذلك أنه كثير ما تعترض الشبهات طريق المرائي أو المجادل وقد لا يتمكن من الرد على هذه الشبهات، وحينئذ يتسرب الشك إلى نفسه، وقد يقوى هذا الشك إلى حد الفتنة وترك الدين والعياذ بالله، وماذا بقى للمرء بعد الفتنة وضياع الدين؟! وقد وعى هذا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود فقال: " ذروا المراء، فإنه لا تفهم حكمته، ولا تؤمن فتنته... ". () كما وعاه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز قال: " من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل ". () ب - على العمل الإسلامي: ومن آثاره على العمل الإسلامي: 1 - الفرقة والتمزق: وذلك أن من أورثه المراء أو الجدل: قسوة القلب، وإغضاب الآخرين إلى حدّ البغض والقطيعة، والتآمر، وضياع الهيبة، وسقوط المروءة، وعدم أمن الفتنة في الدين، لا يمكن أن يتآلف قلبه مع قلوب العاملين لدين الله ممن سلمهم الله من هذه الآفة فتكون القطيعة والفرقة. 2 - تمكن العدو مع طول الطريق وكثرة التكاليف: وحين تكون القطيعة والفرقة يتمكن العدو منا، وتطول الطريق، وتكثر التكاليف، سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا، وواقع العاملين اليوم يشهد بذلك، إذ الاختلاف حول أسلوب العمل إلى حد المراء أو الجدل هو الذي أدى إلى القطيعة والفرقة، ومن ثم تمكن الأشرار، وطالت الطريق، وكثرت التكاليف. خامسا: طريق العلاج بل الوقاية من المراء أو الجدل: وعلى ضوء ما قدمنا يمكن رسم طريق العلاج بل الوقاية من المراء أو الجدل على النحو التالي: 1 - ملء القلب بمعرفة الله وتوحيده وتقواه، فإن ذلك من شأنه أن يقضي بل يقي النفس من الوقوع في سائر الآفات، ومنها هذه الآفة، ويعين على ذلك التدبر في نعم الله التي تغمرنا من أعلى إلى أدنى، ظاهرة كانت أو باطنة، وذلك من خلال القرآن الكريم، والسنة النبوية، وكذلك من خلال النظر في الكون. وفي القرآن الكريم ما يؤكد هذه الوسيلة إذ يقول - سبحانه: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} (النحل).{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذاريات)، كما يعين على ذلك الاستقامة المتمثلة في ترك المعاصي والسيئات صغيرها وكبيرها، ثم المحافظة على الفرائض، والمواظبة على النوافل. 2 - رعاية الآداب الإسلامية التي لابد منها في النصيحة من ضرورة أن تكون في السر لمن لم يجاهر بها، وأن تكون بالأسلوب المناسب وفي اللحظة المناسبة، وأن تكون بنية الإصلاح والتغيير لما هو أحسن، وأن تكون خالصة لوجه الله تعالى، وأن يتجرد الناصح من حوله وقوته إلى حول الله وقوته، إلى غير ذلك من الآداب التي يجمعها قوله سبحانه:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَـنُ}(النحل: 125). {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي}(يوسف: 108) {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه). فإن رعاية هذه الآداب من شأنها أن تقضي على المراء أو الجدل، والقصة التالية خير ما يشرح ذلك: " أصاب المأمون بخراسان كانونا من ذهب مرصعا بجواهر كثيرة، قيل: إنه كان ليزدجر بن شهريار الفارسي، لا تعرف قيمته لكثرتها، فقال ذو الرياستين: الفضل بن سهل الصولت - وكان من دعاة الشعوبية: يا أمير المؤمنين، الرأي أن تجعله في الكعبة يوقد عليه العود، والند بالليل والنهار، فقال المأمون: أفعل، وأمر بحمله إلى مكة، واتصل الخبر بيزيد بن هارون المحدث، فأمر مستمليه أن يقف يوم الخميس عند اجتماع الناس، وأصحاب الحديث فيشكر المأمون، ويدعو له، ويخبر بخبر الكانون، ففعل المستملي ذلك، فلما سمع يزيد كلامه، صاح وانتهره، وقال له: ويلك، اسكت، إن أمير المؤمنين أجل قدرا، وأعلم بالله - عز وجل - من أن يجعل بيته بيت نار، فكب أصحاب البريد إلى المأمون، فأمر بكسر الكانون، وبطل ما دبره ذو الرياستين ". () 3 - إشعار الغير بالاحترام والتوقير حتى مع اختلاف الفكر وتعارض الرأي، فإن ذلك من شأنه أن يقضي على الإصرار أو العناد المتمثل في المراء أو الجدل، وحسبنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على عتبة بن ربيعة لما جاء رسولا من قبل قريش يريد إثناءه صلى الله عليه وسلم عن دعوته، عن طريق الاحتواء بواسطة الدنيا ممثلة في الشرف والسؤدد، والوجاهة والملك، والمال، والمداوا ة من الأمراض والعلل إن كانت هي مصدر ما يحدثهم به من شئون الوحي، رد عليه صلى الله عليه وسلم في أدب واحترام وتوقير، مع اختلاف فكر، ورأى كل واحد منهما على الآخر بقوله: " قل أبا الوليد أسمع لك "، " أفرغت أبا الوليد؟ " الأمر الذي كان سببا في امتصاص ما عند عتبة من إصرار أو عناد أو ما نسميه بالمراء أو الجدل حتى إذا سمع آيات من كتاب الله، وفي آخرها إنذار بالعذاب على نحو ما وقع لعاد وثمود خاف وأمسك بفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ناشدتك الله والرحم إلا ما أمسكت، فإني أخشى أن تنزل علي هذه الصاعقة. () ثم عاد إلى قومه يطلب منهم أن يخلوا بين النبي وبين ما يقول، إذ لا يمكن أن يكون ما سمع من قول البشر. وحسبنا أيضا موقف الشيخ حسن البنا - رحمه الله - من كثير من مخالفيه ومعارضيه من أبناء عصره، ولا سيما الدكتور طه حسين، حيث كان يمنحهم مع اختلافه معهم حقهم من الاحترام والتقدير، الأمر الذي قطع عليهم طريق المراء أو الجدل. إذ يذكر المعاصرون للشيخ حسن البنا: أنه لما نشر طه حسين كتابه: " مستقبل الثقافة في مصر "، وضمَّنه ما يجب أن تتجه إليه الثقافة في مصر من ضرورة الأخذ بالحضارة الغريبة: خيرها وشرها، حلوها ومرها، هاجت الدنيا وماجت، وتناولت أقلام النقاد الكاتب بين قادح ومادح، ولم يكترث طه حسين بكل ما كتب وصمم على وضع آرائه في الكتاب موضع التنفيذ باعتباره مستشار وزارة المعارف (التربية والتعليم ا لآن)، وهنا اتصل بعض الغيورين من أصدقاء الشيخ حسن البنا به، وطلبوا إليه أن يكتب نقدا للكتاب، ورد الشيخ حسن البنا بأنه لم يطلع على الكتاب لضيق وقته وكثرة الصوارف، وألحوا عليه في ضرورة قراءة الكتاب، وبيان كلمة الإخوان قبل أن يوضع الكتاب موضع التنفيذ، لا سيما وأنه سيؤدي إلى تغيير جذري في سياسة البلد الثقافية، ولم يكتفوا بذلك، بل أخبروه أنهم حددوا موعدا لبيان ذلك في دار الشبان المسلمين وطبعوا الدعوات، وكان الموعد بعد خمسة أيام، يقول الشيخ حسن البنا: ولم أكن أستطيع التحلل من مواعيد كنت مرتبطا بها في خلال هذه الأيام الخمسة، وعليه فما كنت أجد وقتا لقراءة هذا الكتاب إلا فترة ركوبي الترام في الصباح إلى مدرستي، وفترة رجوعي منها في الترام - وكان يعمل في مهنة التدريس - وقدر الله، وأتيت عل الكتاب من أوله إلى آخره؟ لأنه لم يكن كبير الحجم، وكنت أضع علامات بالقلم الرصاص على فقرات معينة، ولم تمض الأيام الخمسة حتى كنت قد استوعبت الكتاب كله، وفي الموعد المحدد ذهبت إلى دار الشبان، فوجدتها على غير عادتها غاصة، والحاضرون هم رجالات العلم، والأدب، والتربية في مصر، ووقفت على المنصة، واستفتحت بحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبجانبي الدكتور يحيى الدرديري السكرتير العام للشبان المسلمين، ورأيت الكتاب كله منطبعا في خاطري بعلاماتي التي كنت علمتها بالقلم الرصاص. قال: وبدأت أول ما بدأت، فقلت: إنني لن أنقد هذا الكلام من عندي وإنما سأنقد بعضه ببعض، وأخذت - ملتزما بهذا الشرط - أذكر العبارة من الكتاب، وأعارضها بعبارة أخرى من نفس الكتاب، ولاحظ الدكتور الدرديري أنني في كل مرة أقول: يقول الدكتور طه في الكتاب في صفحة كذا، وأقرأ العبارة بنصها من خاطري، ثم أقول: ويناقض الدكتور طه نفسه فيقول في صفحة كذا، وأقرأ العبارة بنصها أيضا من خاطري، فاستوقفني الدكتور الدرديري، وطلب إلي أن أمهله حتى يحضر نسخة من الكتاب ليراجع معي النصوص والصفحات لأنه قرأ الكتاب، ولم يلاحظ فيه هذا التناقض، وكأنه لم يقرأ العبارات التي يسمعها الآن، وجيء له بالكتاب وظل يتابعني، فيجد العبارات لا تنقص حرفا ولا تزيد حرفا، ويجد الصفحات كما أحددها تماما، فكاد الدكتور الدرديري يجن، كما ساد الحاضرين جو من الدهشة والذهول، والكل يتجه -كلما قرأت من خاطري عبارتين متناقضتين - إلى الدكتور الدرديري، كأنهم يسألونه: أحقا هذه العبارات في الكتاب؟ فيقول الدكتور الدرديري في كل مرة: بالنصوص والصفحات. وهكذا حتى انتهى الكتاب وانتهت المحاضرة، وقام الجميع وفي مقدمتهم الدكتور: الدرديري بين معانق ومقبل، يقول الشيخ حسن البنا: ولما هممت بالانصراف رجاني الدكتور الدرديري أن أنتظر برهة؟ لأنه يريد أن يسرَّ حديثا، واقترب مني وأسر في أذني سرا تعجبت له. قال: لما نشرنا عن موضوع محاضرتك وموعدها اتصل بي الدكتور: طه حسين، وطلب إلي أن أعد له مكانا في هذه الدار يستطيع فيه أن يسمع كل كلمة تقولها دون أن يراه أو يعلم بوجوده أحد، فأعددنا له المكان، وحضر المحاضرة من أولها إلى آخرها ثم خرج دون أن يراه أو يعلم به أحد. وفي اليوم التالي: طلب الدكتور طه حسين من أحد موظفي وزارة ا المعارف، وكان على صلة وثيقة بالشيخ حسن البنا، أن يرتب له اجتماعا مع الشيخ حسن البنا في أي مكان بحيث لا يكون معهما أحد، وبحيث لا يعلم بهما أحد، وليكن هذا المكان في بيته أو بيتي، أو في مكتبي هنا، ووافق الشيخ حسن البنا ورأى أن يكون الاجتماع في مكتبه بالوزارة، وتم الاجتماع، وبدأه الدكتور طه حسين بقوله: لعلك يا أستاذ حسن لا تعلم بأنني حضرت محاضرتك، وبأنني كنت حريصا على حضورها، وعلى الاستماع إلى كل كلمة تقولها، لأنني أعرف من هو حسن البنا، وأقسم لك لو أن أعظم عظيم في مصر كان في مكانك ما أعرته اهتماما، قال الشيخ حسن البنا: فشكرته ثم سألته عن رأيه في المواضع التي وجهت النقد إليها في الكتاب، وهل لديه من ردّ عليها؟ قال الدكتور طه حسين: ليس لي ردّ على شيء منها، وهذا نوع من النقد لا يستطيعه غيرك، وهذا هو ما عناني مشقة الاستماع إليك، ولقد كنت أستمع إلى نقدك لي، وأطرب... وأقسم يا أستاذ حسن لو كان أعدائي شرفاء مثلك لطأطأت رأسي لهم، لكن أعدائي أخسَّاء، لا يتقيدون بمبدأ ولا بشرف، إن أعدائه هم الأزهريون وقد ظنوا أنهم يستطيعون أن يمحوا اسمي من التاريخ، وقد كرست حياتي لإحباط مكايدهم، وهأنذا بحمد الله في الموضع الذي تقطع أعناقهم دونه... ليت أعدائي مثل حسن البنا؟ إذن لمددت لهم يدي من أول يوم ". () أرأيت كيف يصنع الاحترام والتقدير للآخرين حتى مع اختلاف الفكر، وتباين الرأي؟ إنه يمتص من نفوسهم المراء أو الجدل على النحو الذي نطق به هذا المقال. 4 - تدبر نظرة الإسلام إلى المراء أو الجدل، وذلك بدوام النظر في الآيات والأحاديث الواردة في كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم حول هذه الآفة، فإن لذلك دورا كبيرا في علاج النفس بل حمايتها من المراء أو الجدل. 5 - تحري العيش في وسط سليم من المراء أو الجدل، فإن ذلك يعين النفس بل يحفظها من الوقوع في غوائل هذه الآفة. 6 - قيام الأمة وولي الأمر بواجبهما نحو هذا الصنف من الناس، كل بما يتناسب مع طاقاته وإمكاناته، فالجميع ينصحون، وينكرون بألسنتهم، وولي الأمر يتولى التعزير إن اقتضى المقام ذلك، والأمة تعتزل وتقاطع، حتى تستقيم حال هؤلاء، وقصة عمر من صبيغ بن عسل برهان عملي على صحة ما نقول، إذ تحكي كتب التاريخ: أن صبيغ بن عسل جعل يسأل عن متشابه القرآن في أجناد المسلمين حتى قدم مصر، فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه، فقال: أين الرجل؟ أبصر لا يكون ذهب فتصيبك مني العقوبة الوجيعة. فأتي به، فقال عمر: " سبيل مُحْدَثة " أي بدعة جديدة، فأرسل إلي رطائب من جريد، فضربه بها حتى ترك ظهره دبرة (أي قرحة)، ثم تركه حتى برئ ثم عاد له، ثم تركه حتى برئ، فدعا به ليعود. فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت، فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري: ألا يجالسه أحد من المسلمين. قال أبو عثمان النهدي: فلو جاءنا ونحن مائة لتفرقنا عنه. وقال زرعة: رأيت صبيغا كأنه أجرب، يجيء إلى الحلقة ويجلس وهم لا يعرفونه، فتناديهم الحلقة الأخرى: عزمة أمير المؤمنين عمر، فيقومون، ويدعونه، فاشتد ذلك على الرجل، فكتب أبو موسى إلى عمر، أنه قد حسن أمره، فكتب إليه عمر: أن ائذن للناس بمجالسته. () 7 - مجاهدة الآباء والأمهات أنفسهم كي يتطهروا من هذه الآفة إن كانوا مصابين بها، فإن عجزوا مع أنفسهم، فليكن ظهورها في أضيق الحدود وبعيدا عن أعين الأبناء لئلا تتسرب العدوى إليهم، فيكونون من الدعاة إلى الشر والضلالة، يحملون إثم أنفسهم وإثم من اقتدى بهم، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: (... ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا ". () 8 - علاج أو مداواة النفس من الإعجاب، بل الغرور، بل التكبر على نحو ما جاء في طريق الخلاص من هذه الآفات في الجزء الأول، فإن النفس إذا سلمت من هذه الآفات، تداوت أو عولجت من كل ما يترتب عليها من آثار ولا سيما المراء أو الجدل. 9 - البعد عن الاشتغال بعلوم الجدل والمناظرة، وإذا كان ولابد من الاشتغال بهذه العلوم، فليكن بعد التحصُّن، والتحصن الشديد بكتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهما عصمة وأمان من كل شر أو فتنة. 10 - التحرك من خلال منهج يسد الفراغ، ويعمل الطاقات، ويربط النفس بربها: باريها، ومالكها، والمتصرف فيها حتى لا توجد لحظة فراغ تستغل من قبل شياطين الجن والإنس في تدنيس النفس بهذه الآفة، ولا سبيل لذلك بصورة تامة دقيقة إلا في حضن جماعة مسلمة جامعة لصفات وضوابط الجماعة المسلمة حقا. 11 - مجاهدة النفس، وتعويدها على الجرأة والشجاعة في الاعتراف بالخطأ وقبول الحق من الغير وإن كان مرا، إذ الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، والمهم هو ظهور الحق بغض النظر: على لسان من ظهر هذا الحق؟ فإن مثل هذه المجاهدة تساعد كثيرا في علاج بل سلامة النفس من هذه الآفة. 12 - تذكر العواقب والآثار المترتبة على المراء أو الجدل، فإن المرء إذا أدرك العواقب الضارة والآثار المهلكة لأي عمل من الأعمال امتنع عن الإتيان بهذا العمل، خشية أن تصيبه هذه العواقب وتلك الآثار. 13 - الاستعانة التامة بالله عز وجل عن طريق ذكره الدائم المستمر، بالعقل، وباللسان، وبالقلب، وبالجوارح وبالسلوك، فإن الله بيده مقاليد السموات والأرض، وهو سبحانه يعين من استعان به ولجأ إليه إن كان صادقا في هذه الاستعانة وفي هذا اللجوء. قال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سيقولون لله...} (المؤمنون). {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ...}(البقرة: 152). 14 - دوام النظر في سير السلف، وكيف كان بعدهم عن المراء أو الجدل، بل كراهيتهم، ومقاطعتهم لمن ابتلوا بذلك، ولكن بعد الإرشاد وبذل النصيحة. 15 - معاملة من يخالفوننا في الرأي على أن رأينا صواب يحتمل الخطأ، وأن رأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، فإن المعاملة بهذه الصورة من شأنها أن تستل الأحقاد من الصدور، وأن تقضي على المراء أو الجدل. 16 - رؤية الكلام على أنه من العمل، فإن من يرى كلامه من عمله يقل كلامه إلا فيما يعنيه، وبذلك يغلق باب واسع من أبواب المراء أو الجدل.
مختارات