الآفة الحادية والعشرون - التنطع أو الغلو في الدين
والآفة الحادية والعشرون التي أصابت، وتصيب نفرا من العاملين لدين الله، وتكاد تهوي بأصحابها في أودية الهلاك، ومهاوي الضلال إنما هي: " التنطع أو الغلو في الدين ". وحتى يكون لدينا تصور واضح، أو قريب من الواضح عن أبعاد ومعالم هذه الآفة، فإننا سنعرض لها على النحو التالي: أولا: ماهية التنطع أو الغلو في الدين: لغة التنطع في أصل وضعه اللغوي، مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى في الفم، أو الجلدة الملتزقة بآخر الفك العلوي من الفم، وبها آثار كالتحزيز، وعندها موقع اللسان في الحنك. ثم استعمل في كل تعمق قولاً، وفعلاً، يقال: تنطع في الكلام وتنطع، إذا تأنق فيه، وتشدق، وتعمق، وتنطع في الفعل إذا تكلف فيه، وأتى بما يشق به على نفسه، وعلى غيره. () والغلو لغة: هو الارتفاع، أو الإفراط، ومجاوزة الحد أو القدر في كل شيء، تقول: غلا في الدين، وغلا في الأمر غلوا، جاوز حده، وفي التنزيل: {لا تغلوا في دينكم} (النساء: 171) أي لا تفرطوا فيه، ولا تتجاوزوا حد ا لاعتدال، أو حد التوسط. () اصطلاحا: أما معنى التنطع أو الغلو في الدين في الاصطلاح الإسلامي فإنما هو: التعمق، أو الإفراط، أو مجاوزة الحد في الأقوال والأعمال، () وبعبارة أخرى: هو تحميل الأقوال، أو الكلمات والأعمال فوق ما تحتمل، والتنطع بهذا المعنى يساوي الغلو، كما يساوي التشدد في الدين، وقد جاء التحذير من هذا كله في كتاب الله، وعلى لسان النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، وسائر السلف، يقول الله - تبارك وتعالى - محذرا أهل الكتاب من الغلو في الدين: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا}(النساء:171)، {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} (المائدة: 77). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: " هلك المتنطعون "، () قالها: ثلاثا. ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: والذي لا إله إلا هو، ما رأيت أحدا كان أشد على المتنطعين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت أحدا كان أشد عليهم من أبي بكر، وإني لأرى عمر كان أشد خوفاً عليهم، أو لهم. () ويقول أيضاً: عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب بأصحابه، عليكم بالعلم، فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه، أو يفتقر إلى ما عنده، إنكم ستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، وإياكم والتنطع، وإياكم والتعمق، وعليكم بالعتيق. () ويقول نافع مولى عبد الله: إن صبيغا العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين، حتى قدم مصر، فبعث به عمرو بن العاص، إلى عمر بن الخطاب، فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه، فقال: أين الرجل؟ فقال: في الرحل، قال عمر: أبصر أن يكون ذهب، فتصيبك مني العقوبة الموجعة، فأتاه به، فقال عمر: تسأل محدثة؟ فأرسل إلى رطائب من جريد، فضربه بها حتى ترك ظهره دبره، () ثم تركه حتى برأ، ثم عاد له، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود له، قال: فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا، وإن كنت تريد أن تداويني، فقد والله برئت، فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين، فاشتد ذلك على الرجل، فكتب أبو موسى إلى عمر أن قد حسنت توبته، فكتب عمر أن يأذن للناس بمجالسته. () ويقول مسروق: كنت أمشي مع أبي بن كعب، فقال فتى: ما تقول يا عماه، كذا، وكذا، فقال: يا ابن أخي، أكان هذا؟ قال: لا، قال: فاعفنا حتى يكون. () ويقول الصلت بن راشد: سألت طاووسا عن مسألة، فقال لي: كان هذا؟ قلت: نعم، قال: آلله؟ قلت: الله، ثم قال: إن أصحابنا أخبرونا عن معاذ بن جبل، أنه قال: أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزولـه، فيذهب بكم هنا وهنا، فإنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد، وإذا قالع وفق. () ويقول إسماعيل بن أبي خالد، سمعت عامراً يقول: استفتي رجل أبي ابن كعب فقال: يا أبا المنذر، ما تقول في كذا وكذا؟ قال: يا بني أكان الذي سألتني عنه؟ قال: لا، قال: أما لا، فأجلني حتى يكون، فنعالج أنفسنا، حتى نخبرك. () ويقول حماد بن يزيد المقرئ: حدثني أبي، قال: جاء رجل يوما إلى ابن عمر، فسأله عن شيء لا أدري ما هو، فقال ابن عمر: لا تسأل عما لم يكن، فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من يسأل عما لم يكن () وغير هذا كثير. ثانيا: مظاهر التنطع أو الغلو في الدين: ومظاهر التنطع أو الغلو في الدين كثيرة، نذكر منها: 1 - كثرة الافتراضات، والسؤالات عما لم يقع، أو عما عفا الله - عز وجل - عنه، وسكت، حيث يقول سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} (المائدة: 101-102). 2 - المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو تضييع الواجب، كمن بات يصلي الليل كله، ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل قام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة. 3 - العدول عن الرخصة في موضعها إلى العزيمة، كمن يباح له التيمم عند العجز عن استعمال الماء، فيترك التيمم، ويصر على استعمال الماء فيفضي به ذلك إلى ضرر في بدنه. 4 - الاشتغال بمسائل الفروع على حساب الأصول، أو استفراغ الجهد في المختلف فيه، مع إهمال المجمع، أو المتفق عليه، كمن يركز على مسائل السواك، أو قصر الثوب، والعذبة ونحوها، ويهمل قضية تعطيل شرع الله في الأرض، أو كمن يقضي وقته في قضية الجهر بالبسملة، أو الإسرار بها، وكذلك قضية وضع اليدين في الصلاة: هل على السرة، أو فوقها، أو تحتها؛ ويهمل الحديث عن انتشار الخمور، وتفشي البغاء، وسفك الدماء، وتتبع العورات، والإفساد في الأرض. 5 - التكفير بالمعصية، أو بالكبيرة، بل تكفير من لم يكفر الكافر، وكذلك جعل الأصل في الأشياء الحظر، أو الحرمة، مع أن القاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة، أو الحل، إلا ما جاء النص بخلافه. 6 - إحياء الكلام في المسائل التي فرضتها ظروف معينة، ثم انتهت بانتهاء هذه الظروف، مثل الكلام في مسائل الصفات، وخلق القرآن، والخلاف الذي نجم بين الصحابة، ونحو ذلك. () ثالثا: أسباب التنطع، أو الغلو في الدين: ويوقع في التنطع أو الغلو في الدين أسباب عدة، وبواعث كثيرة نذكر منها: 1 - البيئة: فقد ينشأ الإنسان في بيئة شأنها الغلو، أو التنطع سواء أكانت بيئة قريبة، ونعني بها البيت، أم بيئة بعيدة، ونعني بها مجتمع الأصحاب، والأصدقاء، وليست لديه حصانة فكرية، فيحاول الاقتداء، والتأسي، أو على الأقل المحاكاة والتشبه، وحينئذ يقع في آفة التنطع أو الغلو. 2 - التكوين النفسي والفكري: وقد يكون التكوين النفسي والفكري لنفر من الناس من وراء الوقوع في آفة التنطع أو الغلو، كأن يحرم هؤلاء من المربي أو الموجه الذي يرشدهم، ويوجههم إلى بعد النظر، واتساع الأفق، فينشئون على الوقوف عند الشكليات والقشور، مهملين اللباب والجوهر، وذلك هو عين التنطع، أو الغلو. 3 - الذكاء مع الفراغ، وعدم البصيرة بالأولويات: وقد يمن الله - عز وجل - على إنسان ما، بقدر من الذكاء الفطري ولكنه يعيش في فراغ، مع عدم البصيرة بالأولويات، ويحاول - شأنه شأن أي إنسان آخر - توظيف هذا الذكاء، وشغل ذلك الفراغ، وحينئذ يكون فريسة آفة التنطع، أو الغلو، إذ أن من سمات النفس البشرية أن صاحبها إن لم يشغلها بالحق، شغلته بالباطل. 4 - الاعتماد على النفس من أول الأمر في تحصيل العلم، أو المعرفة: وقد تكون لدى المسلم الرغبة في تحصيل العلم، أو المعرفة، ولا دراية له بالطريق فيأخذ في الاعتماد على نفسه من أول الأمر في تحصل هذا العلم، أو هذه المعرفة، ويجعل جل اهتمامه الكتب، فتجنح به هذه الكتب نحو التنطع أو الغلو، نظرا لأن الكتاب وجهة، أو وجهات نظر صامتة، لا تمد لك القدرة على رد التساؤلات التي تثيرها قراءة هذا الكتاب أو الاطلاع عليه، أو التي يثيرها الواقع نفسه. بينما لو كان تحصل هذا العلم، أو هذه المعرفة بواسطة مربي أو موجه فإن هذا المربي، أو هذا الموجه لسعة اطلاعه، وتجربته، وبصيرته النافذة يمكنه الرد على كل هذه التساؤلات، بل حتى على الشبهات إن وجدت. 5 - الأخذ أو التلقي عن الجاهلين: وقد تكون لدى المسلم الرغبة في تحصيل العلم أو المعرفة، ولا يعرف على يد من يكون الأخذ، أو التلقي، وتلقي به المقادير في أيد الجاهلين وتصير العاقبة الوقوع في آفة التنطع أو الغلو. ولعل هذا هو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رءوسا جهالا فأفتوا بغير علم، فضلوا، وأضلوا ". () ولا جرم أن نشير هنا إلى أن المراد بالجهل بالدين ليس هو الجهل المطلق، إذ هذا الجهل المطلق يفضي بصاحبه عادة إلى الانحلال والتسيب لا إلى التنطع أو الغلو، وإنما المراد به الجهل بالاجتهاد وأسلوبه أو طريقته، إذ هو المفضي إلى التنطع أو الغلو. 6 - خلو الساحة أو الميدان من العلماء الذين يضبطون الفكر والتصور بل والسلوك: وقد يكون خلو الساحة أو الميدان من العلماء الذين يضبطون الفكر والتصور بل والسلوك، هو السبب في الوقوع في آفة التنطع، أو الغلو، ولا سيما إذا كانت هناك حماسة أو قوة إيمان وعاطفة تدفع إلى العلم لدين الله، والتمكين له في الأرض، على نحو ما وقع لنفر من شباب الصحوة الإسلامية اليوم، فقد شاهدوا انكماش العلماء، وغيابهم من الميدان أو الساحة إيثارا للعافية، والسلامة، وتقدموا هم لحمل الراية، واعتمدوا على أنفسهم في الفقه أو الاستنباط، فكان الوقوع في آفة التنطع أو الغلو. 7 - تعطيل شرع الله في الأرض: وقد يكون تعطيل شرع الله في الأرض، وما نتج عنه من انتشار أو ذيوع الشر والفساد وراء الوقوع في آفة التنطع أو الغلو، كرد فعل مضاد لذلك، على نحو ما وقع لنفر من أبناء أمتنا المسلمة في هذا العصر، فقد رأى شرع الله معطلا، والشر والفساد على أشده، فحمله حبه لدينه، وحرصه على مرضاة ربه، أن ينبري وحده للعمل دون أن يكون معه موجه أو مرب، فتردى في آفة التنطع أو الغلو. 8 - الحظوظ النفسية: وقد تكون الحظوظ النفسية من حب الذيوع والشهرة، أو الثناء والمحمدة، أو المغنم والجاه، من وراء الوقوع في آفة التنطع أو الغلو، من منطلق أن التنطع أو الغلو يحمل في طياته غالبا كل شاذ وغريب، والشواذ والغرائب من بين ما يكسب الذيوع والشهرة، أو الثناء والمحمدة، بل ربما توصل، إلى المغنم والجاه، تطبيقا لمبدأ: " خالف تعرف، وتغنم ". 9 - الرغبة في تحقيق مزيد من القرب من الله مع الغفلة عن أبعاد ومعالم الطريق: وقد تكون الرغبة في تحقيق مزيد من القرب من الله مع الغفلة عن أبعاد ومعالم الطريق، من وراء الوقوع في آفة التنطع أو الغلو. وقد نقل عن نفر من الصحابة ما يؤكد ذلك، إذ جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم في السر، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه، ومما تأخر؛ قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر لا أفطر، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: " أنتم الذين قلتم كذا، وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي، وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ". () 10 - الإغراء بالدنيا: وقد يكون الإغراء بالدنيا ممثلة في الجاه، والمركز، والمنصب، أو في المال، أو في تذليل صعوبة من الصعوبات، أو تخطي عقبة من العقبات، أو نحو ذلك، قد يكون ذلك كله من العوامل التي توقع في آفة التنطع أو الغلو، ولا سيما إذا كان هذا الإغراء لأناس ليست لديهم الحصانة الفكرية، والنفسية، على نحو ما ذكر الأستاذ المرحوم عمر التلمساني في بعض أحاديثه من أن السلطات في بعض البلاد الإسلامية والعربية قد أقطعت بعض الجماعات الغالية أو التي لديها استعداد للغلو، أقطعتها أرضا لفلحها، وزراعتها، والانتفاع بخيرها بهدف تشجيع التنطع أو الغلو، في مواجهة التوسط والاعتدال الذي عرفت به الجماعة التي هي كبرى الحركات الإسلامية في العصر الحديث. 11 - الكراهية للإسلام مع التظاهر بحبه: وقد تكون الكراهية للإسلام مع التظاهر بحبه وراء الوقوع في آفة التنطع أو الغلو، على نحو ما وقع من عبد الله بن سبأ اليهودي، ومغالاته في شأن سيدنا علي رضي الله عنه من أنه حل في الإله، أو هو الإله، وأنه لم يمت، وإنما رفع إلى السماء، وأن الرعد صوته، والبرق نوره وسناؤه، وما تبع ذلك من الغلو في شأن الأئمة، وادعاء العصمة لهم. 12 - الشد ة أو الإكراه والضغط: وقد تكون الشدة، أو الإكراه، والضغط - سواء من البيت، أو المجتمع، أو الدولة - من بين العوامل، أو البواعث التي تدفع إلى الوقوع في آفة التنطع أو الغلو، على نحو ما وقع لنفر من أبناء الحركة الإسلامية اليوم، فقد رأوا الجلادين يصنعون بهم ما يجلّ عن الوصف، وما جعل الكلاب البوليسية، تتحول إلى عض، وإيذاء هؤلاء الجلادين لأولئك الأبرياء، لا لشيء إلا لأنهم قالوا: ربنا الله، فانقلبوا يحكمون على هؤلاء، بل على المجتمع كله لسكوته على هذا المنكر، أو هذا الصنيع بالكفر، فوقعوا في آفة التنطع أو الغلو. 13 - الهجوم العلني والتآمر الخفي على الأمة الإسلامية: ذلك أن الأمة الإسلامية في كل أقطار الأرض لقيت، وما زالت تلقي هجوما شرسا عليها، وعلى حرماتها، ومقدساتها، مرة في صورة علنية، وأخرى في صورة سرية أو خفية، ويشارك في هذا الهجوم كل القوى غير المسلمة من يهودية وصليبية، وشيوعية، ووثنية، وذيول هؤلاء وأذنابهم من أبنائنا نحن المسلمين من كل من غرهم بريق المادية في الشرق أو في الغرب، ولا يسع مسلما يؤمن بالله والدار الآخرة، ويوقن بالأخوة الإسلامية، ويعتز بالانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس، ويفهم أن المسلمين على اختلاف ألسنتهم وألوانهم أمة واحدة يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، وأن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم -أقول: لا يسعه أن يسمع، ويرى مآسي أمته في كل مكان، وما يلقاه إخوانه هنا وهناك من إبادة مادية تتمثل في التقتيل والتنكيل، أو معنوية تتمثل في التنصير أو على الأقل: التجهيل والتضليل، ثم يمسي، ويصبح قرير العين، ضاحكا ملء سنه، نائما ملء جفنيه، بل لا بد أن يخامره شعور قوي وأكيد بضرورة التصدي، والمواجهة، وحين يأخذ في التصدي، والمواجهة يصيبه ما يصيب أي إنسان يبصر أمته وقد تكالب عليها الأعداء من كل مكان تكالب الأكلة على القصعة، من التنطع أو الغلو. 14 - التصدر للفتوى والاجتهاد قبل الاستواء وكمال النضج: وقد يكون التصدر للفتوى والاجتهاد قبل الاستواء وكمال النضج: من ضرورة ربط الجزئيات بالكليات، ورد المتشابهات إلى المحكمات، وتحاكم الظنيات إلى القطعيات، والقدرة على الجمع بين المختلفات عند التعارض أو الترجيح، وعدم الأخذ بظاهر النص، إلا بعد التغلغل في فهم فحواه، ومعرفة أهدافه ومقاصده، قد يكون ذلك من أسباب الوقوع في آفة التنطع أو الغلو في الدين. 15 - نسيان العواقب المترتبة على الوقوع في آفة التنطع أو الغلو في الدين: وقد يكون نسيان العواقب المترتبة على الوقوع في آفة التنطع أو الغلو في الدين من بين الأسباب التي توقع في هذا التنطع أو الغلو، إذ الإنسان إذا نسي عاقبة الشيء تجرأ على فعله، وتعاطيه، وان كان فيه حتفه وهلاكه، قال تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما} (طه: 115). رابعا: آثار التنطع أو الغلو في الدين: وللتنطع أو الغلو في الدين آثار ضارة، وعواقب مهلكة، سواء على العاملين أو العمل الإسلامي، ودونك طرفا من هذه الآثار، وتلك العواقب: أ - على العاملين: أما آثار التنطع أو الغلو في الدين على العاملين، فكثيرة، نذكر منها: 1 -كراهية الناس، ونفورهم من المتنطع أو المغالي في الدين: ذلك أن المتنطع أو المغالي في الدين، إنما هو واقف في الطرف بعيدا عن الوسط، فكرا كان ذلك أو سلوكا، ومثل هذا لا تحتمله طبيعة البشر العادية، ولا تصبر عليه، ولو صبر عليه قليل منهم، لم يصبر عليه جمهورهم، وحينئذ يكون النفور، وتكون الكراهية. ولعل هذا الأثر هو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في حـديث أبي مسعود إذ قال: إن رجـلا قال: يا رسول الله، إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان، مما يطيل بنا، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشـد غضـبا منه يومئذ، ثم قـال: " إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجـوز، فإن فيهـم الضيـف، والكبير وذا الحاجـة "، () وما أشار إليه عمر رضي الله عنه بقوله: " لا تبغضوا الله إلى عباده، فيكون أحدهم إماماً، فيطول على القوم الصلاة حتى يُبغض إليهم ما هم فيه ". () 2 - الفتور أو الانقطاع: ذلك أن التنطع، أو الغلو قصير العمر، والاستمرار عليه في العادة غير متيسر إذ الإنسان ملول، وطاقته محدودة، فإن صبر يوما على التشدد والتعسر فسرعان ما تكل دابته، أو تحرن عليه مطيته، في السير، ونعني بها جهده البدني، والنفسي، فيسأم، ويدع العمل حتى القليل منه أو يأخذ طريقا آخر، على عكس الطريق الذي كان عليه، أي ينتقل من الإفراط إلى التفريط، ومن التشدد إلى التسيب. ولعل هذا هو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وان أحب العمل إلى الله أدومه، وإن قل ". () وحديث ابن عباس: قال: كانت مولاة للنبي صلى الله عليه وسلم تصوم النهار، وتقوم الليل، فقيل له: إنها تصوم النهار، وتقوم الليل فقال صلى الله عليه وسلم: " إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ". () 3 - تضييع العمر، وتبديد الجهد في غير ما طائل ولا فائدة: وذلك أن جهد المتنطع أو المغالي إنما هو مصروف إلى ثانويات الأمور فكراً أو سلوكاً، دون أصولها، وهو بهذا يضيع عمره، ويبدد جهده في غير ما طائل ولا فائدة، وصدق الله الذي يقول: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} (الكهف: 104)، إذ يفسر الحافظ ابن كثير هذه الآية، فيسوق طائفة من الأخبار عن السلف حول معناها قائلاً: " قال البخاري: حدثنا مجمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو، عن مصعب، قال: سألت أبي - يعني: سعد بن أبي وقاص -عن قول الله: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا} أهم الحرورية؟ قال: لا، هم: اليهود، والنصارى، أما اليهود، فكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم وأما النصارى، فكفروا بالجنة، وقالوا: لا طعام فيها، ولا شراب، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، فكان سعد رضي الله عنه يسميهم الفاسقين، وقال علي بن أبي طالب، والضحاك، وغير واحد هم ا لحر ورية ". () ثم يبدي رأيه فيها بعد ذلك، فيقول: " ومعنى هذا عن علي رضي الله عنه أن هذه ا لآية الكريمة تشمل الحرورية، كما تشمل اليهود، والنصارى، وغيرهم، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء، بل هي أعم من هذا، فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى، وقبل وجود الخوارج بالكلية، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية، يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول، وهو مخطئ، وعمله مردود... ". () 4 - التقصير في حقوق الآخرين: وذلك أن المتنطع أو المغالي إنما يدور في فلك معين من الفكر والسلوك الأمر الذي ينتهي به إلى التقصير في حقوق يجب أن تراعى، وواجبات ينبغي أن تؤدى. ولعل ذلك هو ما حدا برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لعبد الله بن عمرو بن العاص - وقد بلغه انهماكه في العبادة، انهماكا أنساه حق أهله عليه: " ألم أخبر أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟ "، ويجيبه عبد الله بقوله: بلى يا رسول الله، ويرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ناصحا، وموجهاً: " لا تفعل: صم، وأفطر، وقم، ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينيك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا ". () 5 - القلق والاضطراب النفسي: وذلك أن المتنطع أو المغالي إنما يريد حمل الآخرين على ما يوافق هواه وما يريد، وما الآخرون بمستجيبين له، ولا بموافقيه فيما يهوى، وفيما يريد، وتكون العاقبة حينئذ القلق، والاضطراب النفسي، بل العدوان على الآخرين، حيث لم تتحقق رغبته، ولم تجب طلبته. وإن الواقع المعاش ليشهد بذلك، حتى إنا لنرى المتنطعين أو المغالين أضيق الناس صدراً، وأشدهم قلقا واضطرابا، وأكثرهم فورانا وغضبا، بل ربما استخداما للقوة، لحمل الآخرين على ما يريدون. ب - على العمل الإسلامي: وأما آثاره على العمل الإسلامي فكثيرة، نذكر منها: 1 - الفرقة والتمزق: ذلك أن المغالين أو المتنطعين؛ لقصور الفهم لديهم، لا يلتقون على رأي واحد، ولا يقبل الآخرون رأيهم، وحينئذ تكون الفرقة، ويكون التمزق، ولعل ذلك هو ما أشار إليه ابن عباس رضي الله عنهما إذ خلا عمر رضي الله عنه ذات يوم، فجعل يحدث نفسه، كيف تختلف هذه الأمة، ونبيها واحد؟ فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: كيف تختلف هذه الأمة، ونبيها واحد، وقبلتها واحدة، وكتابها واحد؟ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، إنما أنزل علينا القرآن، فقرأناه وعلمنا فيما أنزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن، ولا يدرون فيما نزل، فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان كذلك اختلفوا. وفي رواية: فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا. فزجره عمر، وانتهره على... فانصرف ابن عباس، ونظر عمر فيما قال، فعرفه، فأرسل إليه وقال: أعد علي ما قلته، فأعاد عليه، فعرف قوله: وأعجبه. () 2 - كثرة التكاليف، وطول الطريق: ذلك أن التنطع أو الغلو مكروه منفر، الأمر الذي يعطي المتربصين بالعمل الإسلامي الفرصة لتوجيه الضربة بعد الضربة من أجل القضاء على هذا العمل أو على الأقل إجهاضه بحجة التشدد، أو التزمت، وحينئذ تكثر التكاليف وتطول الطريق. 3 - الحيلولة دون كسب الأنصار: ذلك أن العنف أو الشدة التي هي من لوازم التنطع أو الغلو، تحول دون كسب الأنصار، فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، ورفق بها، وعلى بغض من أساء إليها، وقسا عليها، وحسبنا أن نجاحه صلى الله عليه وسلم في دعوته، ما كان إلا بالرفق، واللين: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران: 159). خامسا: علاج التنطع أو الغلو في الدين: وعلى ضوء ما قدمنا من أسباب للتنطع، أو الغلو في الدين ندرك طريق العلاج وتتلخص في الخطوات التالية: 1 - تطبيق حكم الله في الأرض: عقيدة، وعبادة، أخلاقاً، وتظيماً، أو تشريعات، فكراً وسلوكا، وعلى كل المستويات: الفردية، والجماعية، الشعبية والقيادية، فإن هذا من شأنه أن يشجع الميول الفطرية الكامنة عند هؤلاء، فيستريحوا من القلق والاضطراب النفسي، بل من محاولة التنفيس عن هذا القلق وذلك الاضطراب بواسطة العنف والقوة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه سيقضي على كل مظاهر الشر والفساد التي تثير هؤلاء، وتميل بهم نحو التنطع أو الغلو: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمـون} (الروم: 30)، {ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}(المائدة: 50)، {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} (الأعراف: 3)، {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} (طه: 132)، {فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (البقرة: 37). 2 - تشجيع العلماء العاملين، والدعاة المجاهدين، على أداء دورهم، والقيام بواجبهم نحو ا لإسلام، والمسلمين بعامة، والمعروفين بالتنطع أو الغلو، وذلك برفع سوط الملاحقة، والمتابعة من فوق ظهور هؤلاء ومنحهم حرية التعبير عما تفرضه عليهم الأمانة التي كلفهم الله - عز وجل - بها، وحملهم إياها، فإن ذلك له دور كبير في القضاء على التنطع أو الغلو في الدين. 3 - التبصير بفقه العبودية، والدعوة إلى الله، والفتوى، من ترتيب الأولويات، ومن معرفة بمقاصد الشريعة، وكلياتها، ومن فهم للنصوص في ضوء بعضها البعض، ومن إلمام بمراتب الأحكام، وطريق ثبوتها، والعلاقة بينها عند التعارض، ومن رعاية لأدب الخلاف، وعن العلم بقيم الأعمال، ومراتبها، ومراتب المأمورات، والمنهيات، بل مراتب الناس مع الأعمال، وتقدير ظروف الناس، وأعذارهم، ومن الإلمام بسنن الله في خلقه: الكونية منها، والشرعية، ولا سيما سنن وشروط النصر، فإن هذا التبصير كافي في القضاء على التنطع، أو الغلو، وقد أمر الله - عز وجل - بهذا فقال: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي أحسن} (النحل: 125)، {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} (يوسف: 108). 4 - دوام النظر في التاريخ البشري بعامة، والإسلامي بخاصة، فإن هذا التاريخ حافل بالنماذج الحية من المتنطعين أو المغالين في الدين والآثار السيئة التي جناها هؤلاء من وراء التنطع أو الغلو، وهي حافلة كذلك بكيفية التعامل مع هذه الظاهرة والقضاء عليها ومن أبرز هذه النماذج: أهل الكتاب، الحركة السبئية، الحركة الشيعية. 5 - معاملة هؤلاء المتنطعين أو المغالين في الدين بروح الأبوة، والأخوة من الحنو، والرحمة، والحب، والشفقة، فنخالطهم، ونتعرف عليهم من قرب: كيف يفكرون، وكيف يشعرون، وكيف يسلكون، وكيف يتعاملون، ولا نحكم على الكثرة بحكم القلة، ولا على الواحد بما يقع منه من تصرف، أو تصرفين، وإنما بمجموع تصرفاته، فمن رجحت كفة حسناته على كفة سيئاته، فهو من أهل الخير، كما يعامل الله سبحانه عباده: {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون} (المؤمنون:102). وألا نبالغ في تصوير، أو مخالفات هؤلاء، على حين نسكت عن أخطاء غيرهم من كل ما يعرف بالتفريط، أو بالتطرف اللاديني، وأن نشيع جو الحرية، ونرحب بالنقد، ونحيي روح النصيحة في الدين، ونقول ما قال عمر رضي الله عنه: مرحباً بالناصح أبد الدهر، مرحبا بالناصح غدواً وعشيا.. رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي. ونحاكيه عمليا، إذ قال له رجل: اتق الله يا أمير المؤمنين، فأنكر عليه بعض الحاضرين، ورد عليه عمر بقوله: " دعه، فلا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها ". وأن نتجنب اللجوء إلى القوة، والبطش لتصفية هذا الفكر، ومطاردة أهله، فإنه يختفي بالاضطهاد، ولا يموت، ويكمن كمون النار في الكبريت، ولا يزول. 6 - لفت النظر إلى الآثار والعواقب المترتبة على التنطع أو الغلو، سواء منها على العاملين، أو على العمل الإسلامي، فلعل ذلك يساعد في التخلص من هذه الآفة، ومجاهدة النفس لئلا تبتلى بها مرة أخرى. 7 - شغل أوقات الفراغ بالنافع المفيد من خلال وضع وتنفيذ برامج تعليمية وإعلامية، وترفيهية، وتدريبية، بحيث تتجاوب هذه مع الفطرة ولا تتعارض مع شرع الله - تبارك وتعالى - فإن هذا من شأنه أن يمتص الطاقات الكامنة عند هؤلاء، فلا يبقى هناك مجال لتنطع أو غلو.
مختارات