شهوة حب الرئاسة
شهوة حب الرئاسة
وهي شهوة مرتبطة ارتباطا وثيقا بحب الظهور، وهي التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: « إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئس الفاطمة ».
وقوله: « نعم المرضعة » وذلك أولها لأن معها المال والجاه والسلطة، وقوله: « بئس الفاطمة » أي: آخرها لأن معه القتل والعزل في الدنيا والحسرة والتبعات يوم القيامة، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم عواقب الرئاسة ومراحلها الثلاث في قوله: « إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي: أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل ».
والرئاسة التي نقصدها هنا ليست دنيوية فحسب بل قد تكون دينية كذلك لمن يتبوأ مراكز الإرشاد والتوجيه والنصح والتربية، ولو كان يدفع إلى التطلع للرئاسة: القيام بالواجب وتحمل التبعة الثقيلة في وقت لا يسد الثغرة فيه من هو أفضل بذلا وعملا لكان الأمر محمودا، أما إذا كان الدافع: رغبة جامحة في الزعامة ونفرة من قبول التوجيه من غيره واستئثار بمركز الأمر والنهي ؛ فيا خطورة ما أصاب من مرض.
وقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلام من ابتلي بهذا المرض وردَّه ولم يقبله، واسمعوا ما رواه الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له بحيرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من يخالفك ؛ أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: « الأمر لله يضعه حيث يشاء ». قال: فقال له: " أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بك ".
بل قال صلى الله عليه وسلم لرجلين سألاه الإمارة: « إنا لا نولّي هذا مَنْ سأله، ولا من حرص عليه ».
يسن بذلك أحد قوانين الإدارة الإيمانية ويميِّزها عن إدارة اليوم الحديثة، ويمدح صلى الله عليه وسلم هذا الصنف من الدعاة، الذين ليس يعنيهم ويشغل فكرهم سوى رضا الله سبحانه وتعالى بارزين كانوا أو مستترين، في المقدمة أو في المؤخِّرة، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: « طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشفَّع ».
وتأمل أنه ذكر هنا الساقة والحراسة وكلاهما ليس من أماكن الصدارة أو مراكز القيادة، فكأنه أراد ترسيخ معنى الجندية ومعالجة حب الرئاسة في قلوب السامعين معالجة جذرية، فلا يذكر الرئاسة ولو بكلمة لتغيب حتى حروفها عن عينك وتتوارى عن قلبك.
يا ذئاب!!
قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنمٍ بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ». والذئبان الجائعان هما: الحرص على المال والحرص على الشرف، وإذا أُرسِلت الذئب في الغنم فماذا تفعل؟! فكذلك يفعل الحرص على المال والحرص على الجاه والشرف في الدين، إنها تلتهم دين المرء وتفترس إيمانه.
قال ابن رجب: " فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه ليس بأقل من إفساد الذئبين لهذه الغنم، بل إما أن يكون مساويا وإما أكثر، يشير أنه لا يسلم من دين المسلم مع حرصه على المال والشرف في الدنيا إلا القليل، كما أنه لا يسلم من الغنم مع إفساد الذئبين المذكورين فيها إلا القليل، فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا ".
وحب الرئاسة والسعي لها شهوة خفية في النفس، وكثير من الناس قد يزهد في الطعام والشراب والثياب لكن الزهد في الرئاسة عنده نجم سماوي لا يُدرك. قال سفيان الثوري رحمه الله: " ما رأيت زهدا في شيء أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب فإن نوزع الرئاسة تحامى عليها وعادى "، وقال يوسف بن أسباط: " الزهد في الرئاسة أشد من الزهد في الدنيا "، ولذلك كان السلف رحمهم الله يحذرون من يحبون منها، فقد كتب سفيان إلى صاحبه عباد بن عباد رسالة فيها: " إياك وحب الرئاسة، فإن الرجل تكون الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة، فتفقَّد نفسك واعمل بنية ".
واتهم أيوب السختياني كل محب للرئاسة بالكذب فقال: " ما صدق عبد قط فأحب الشهرة "، ونفى عنه التقوى بشر بن الحارث فقال: " ما اتقى الله من أحب الشهرة "، ووصفه بعدم الفلاح يحيى بن معاذ حين قال: " لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة ".
وما أحسن وصف شدّاد بن أوس رضي الله عنه لحب الرئاسة بالشهوة الخفية حين قال محذرا: يا بقايا العرب... إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء، والشهوة الخفية. قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرئاسة.
قال ابن تيمية معقبا: " فهي خفية، تخفى عن الناس، وكثيرا ما تخفى على صاحبها ".
أمارة حب الإمارة
لكنها وإن كانت خفية، ومهما توارت وأتقنت فن التستر والهرب، فقد أذن الله لنا أن نفضحها عن طريق علاماتها حتى لا يعود لمبتلى عذر في ترك التداوي وهجر التسامي، ومن العلامات:
ما ذكره الفضيل بن عياض: " ما من أحد أحب الرئاسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير ".
فمن علاماتها إذن حب ذكر الغير بالنقائص والعيوب، وكراهة أن يُذكر أحد عنده بخير، بل وانتقاص الآخرين ليرفع نفسه، فلا يدل على من هو أفضل منه في الدين أو العلم، بل ويحجب فضائل الآخرين ويكتم أخبارهم خشية أن يستدل الناس عليهم فيتركوه ويذهبوا إلى غيره، أو يقارنوا بينه وبين من هو خير منه فينفضوا عنه.
الحسرة إذا زالت أو سُلِبت منه الرئاسة، وتأمل لو أن عالما تصدَّر مجلس علم مثلا، فالتف الناس حوله، ثم جاء من هو أعلم منه فقدَّمه الناس عليه وانقطعوا إليه، فهل يفرح هذا العالم أو يحزن؟ هل يفرح لأنه قد جاء من هو أعلم منه يحمل عنه المسئولية ويرفع عنه التبعة ويفيد الناس أكثر منه ؛ أم يحزن ويغتم لأنه قد جاء من خطف منه الأضواء وصيحات الإعجاب؟! بهذا تفضح قلبك أيها الداعية إذا خشيت مرضه وأردت شفاءه. قال ابن الجوزي:
" وقد يكون الواعظ صادقا قاصدا للنصيحة إلا أن منهم من شرب الرئاسة في قلبه مع الزمان فيحب أن يُعظَّم، وعلامته: أنه إذا ظهر واعظ ينوب عنه أو يعينه على الخلق كره ذلك، ولو صحَّ قصده لم يكره أن يعينه على خلائق الخلق ".
وقال كذلك:
" ومنهم من يفرح بكثرة الأتباع، ويلبِّس عليه إبليس بأن هذا الفرح لكثرة طلاب العلم، وإنما مراده كثرة الأصحاب ".
إنها مجالس السوء وإن كان ظاهرها الخير، وأماكن الفتنة وإن رُفِعت عليها رايات الهدى، ووسائل الهلاك وإن صُنِعت للنجاة!!
كم شارب عسلا فيه منِيته ** وكم تقلَّد سيفا من به ذُبِحا
وتستطيع أخي الداعية أن تُجري اختبارا واحدا يكشف لك حقيقة مجالسك على الفور، وذلك على طريقة ابتكرها عبد الرحمن بن مهدي وهي كما يلي:
عن عبد الرحمن بن مهدي قال: " كنتُ أجلس يوم الجمعة فإذا كثر الناس فرحت، وإذا قلوا حزنت، فسألت بشر بن منصور فقال: هذا مجلس سوء فلا تعُد إليه، فما عدتُ إليه ".
حسرة قلبه إذا منع من الظهور وفاتته فرصة إبداء إمكاناته واستعراض قدراته، وبالحلو تُعرف المرارة، وبالضد تتميز الأشياء لذا فاسمعوا ما فعل المحدِّث الرباني شيخ نيسابور أبي عمرو إسماعيل بن نجيد فيما قصَّه الإمام الذهبي:
" ومن محاسنه أن شيخه الزاهد أبا عثمان الحيري طلب في مجلسه مالا لبعض الثغور فتأخَّر، فتألم وبكى على رؤوس الناس، فجاءه ابن نجيد بألفي درهم فدعا له، ثم إنه نوَّه به، وقال: قد رجوت لأبي عمرو بما فعل، فإنه قد ناب عن الجماعة، وحمل كذا وكذا، فقام ابن نجيد وقال: لكن إنما حملت من مال أمي وهي كارهة فينبغي أن ترده لترضى، فأمر أبو عثمان بالكيس فرد إليه، فلما جنّ الليل جاء بالكيس والتمس من الشيخ ستر ذلك، فبكى وكان بعد ذلك يقول: أنا أخشى من همة أبي عمرو ".
إضفاء هالات الأهمية الزائفة كادعاء المواعيد الكاذبة والانشغالات التافهة، ليوقع في روع الناس علو قدره وارتفاع منزلته وتهافت الناس عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: « المتشبِّع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور ».
قال ابن حجر: " المتشبِّع أي المتشبِّه بالشبعان وليس به شبع، واستعير للتحلي بفضيلة لم يرزقها، وشُبِّه بلابس ثوبي زور ؛ أي ذي زور، وهو الذي يتزيا بزي أهل الصلاح رياء، وأضاف الثوبين إليه لأنهما كالملبوسين، وأراد بالتثنية أن المتحلي بما ليس فيه كمن لبس ثوبي الزور ارتدى بأحدهما واتزر بالآخر كما قيل: إذا هو بالمجد ارتدى وتأزَّرا، فالاشارة بالإزار والرداء إلى أنه متصف بالزور من رأسه إلى قدمه، ويحتمل أن تكون التثنية إشارة إلى أنه حصل بالتشبع حالتان مذمومتان: فقدان ما يتشبع به، وإظهار الباطل ".
عدم المشاركة بفاعلية عندما يكون مرؤوسا، بل والتهرب من التكاليف حين لا يكون هناك فرصة للبروز، واشتعال قلبه حماسة ونشاطا عندما يكون رأس الأمر وقائده.
كثرة نقده لغيره بسبب وبغير سبب، ومحاولة التقليل من أهمية مقترحات الغير ومبادراتهم مع عدم تقديم البديل، والعمل على إخفاق ما لم يشارك فيه.
الإصرار على رأيه وصعوبة التنازل عنه، وإن ظهرت أدلة بطلانه ورجحان غيره.
سبب هذا المرض
السبب الرئيس: عدم تقدير عواقب التقصير في الآخرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:« ما من رجلٍ يلي أمر عشرةٍ فما فوق ذلك، إلا أتى الله مغلولاً يده إلى عنقه، فكه بره أو أوثقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة ».
ألا فانتبه يا طالب العلم وأنت تعلِّم الناشئة، وانتبه أيها المربي حين تربِّي من حولك، وتعلَّم من سعد بن أبي وقاص صلى الله عليه وسلم، وكيف حثَّنا على الزهد في الرئاسة بلسان حاله مما أغنانا عن آلاف الخطب والصفحات، فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كان سعد في إبلٍ له وغنم فأتاه ابنه عمر بن سعد، فلما رآه قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فلما أتاه قال: يا أبت! أرضيتَ أن تكون أعرابيا في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة؟! فضرب سعدٌ صدر عمر وقال: اسكت فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي ».
وتأمَّل أيضا كيف كان هروب العلماء من مسئولية القضاء، والقضاء منصب وسلطة ومكانة وأبهة، وقد كان القاضي من أعظم الناس مكانة في زمانه، وكلمته مسموعة لا ترد ؛ ومع ذلك كان الصالحون يهربون من القضاء ويُضربون عنه ولا يتولونه، بل ويسجنون ولا يرضونه، مع أنهم أهل له، وذلك لخوفهم من تبعات الأمر، وكيف لا وقد سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم ينذر: « قاضيان في النار، وقاض في الجنة ».
وكيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم يحذِّر: « من أتى أبواب السلطان افتُتِن »، وكثرة من قضاة اليوم والعلماء على باب السلطان وقوف، وعلى رضاه حريصون، ولا يحسون بالكارثة!!
التوازن المفقود
التوازن المنشود بين كراهية الشهرة ووجوب قيادة جموع الأمة، فإننا نريد لجموع الصالحين أن تبرز في الوقت الذي توارت فيه الكفايات وبرزت فيه الرويبضات، وأن تفخر بعملها الصالح قائلة: هلم إلينا أيها الناس، وذلك في الوقت الذي تبارت رموز الشر في الدعوة إلى باطلها، وتنافست في طمس فطرة الناس ببث سمومها وشرورها، لذا كان لابد للطيِّب أن يدافع الخبيث ويزاحمه حتى يبث الخير إلى محيط الناس الملوَّث، وعلى كل واحد أن يتفرَّس في نفسه اليوم، ويرى هل فيه من علامات حب الرئاسة شيء، ويعيد تقييم نفسه باستمرار وعلى مرور الأشهر والأعوام، فإن البداية قد تكون صحيحة ويتسلل الخطأ بعد ذلك، والنية قد تبدأ خالصة حتى تتسرَّب إليها جرثومة رياء، لذا وجب التنبه والمراقبة.
مختارات