الآفة العشرون - التشاؤم
والآفة العشرون التي أصابت، وتصيب نفرا من العاملين، بل ومن غير العاملين ولم يسلم منها إلا من حباه الله - عز وجل - إيمانا صادقا، ويقينا تاما، إنما هي: (التشاؤم). وحتى يتخلص من هذه الآفة من ابتلي بها، ويتوقاها من سلمه الله - تبارك وتعالى -منها، فإننا سنعرض لها من الجوانب التالية: أولا: تعريف التشاؤم: لغة يطلق التشاؤم في اللغة على معان عدة، وأهمها: أ - التطير أو ما يقابل التيامن، يقال: تشاءم منه أي تطير، وتشاءم به أي عدّه شؤما لا يمن فيه ولا خير، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا إذا أرادوا أمرا من الأمور سفرا، أو زواجا، أو سيرا نفروا الطير، وزجروه، فإن مال ناحية اليمين تفاءلوا، ومضوا لتنفيذ ما يريدون، وإن مال ناحية الشمال تشاءموا، وقعدوا عن إتمام وبلوغ ما قصدوه، وإن لم تمل لا إلى هذه، ولا إلى تلك، أعادوا تنفير الطير وزجره، وسمي هذا كله تطيرا، كما سمي القعود عن أداء الواجب نتيجة ميل الطير ناحية الشمال تطيرا أي تشاؤما، وكانوا في أحايين أخرى يبنون أمور حياتهم على مجرد حركة الطير، أو الوحش، فإن كانوا سائرين في طريقهم لإمضاء أمر ما، ورأوا الخير أو الوحش فجأة، أو كان الطير أو الوحش واقفا، وحين رآهم ولى وأدبر، تطيروا، أي تشاءموا ورجعوا. ب - توهم أو توقع الشر، يقال: تشاءم من الأمر أو من فلان أي توهم، وتوقع الشر من ناحيته، ومنه قيل لأهل النار: أصحاب المشأمة، للعذاب أو الشر الذي ينزل بهم، بسبب كفرهم، وسوء أعمالهم في الحياة الدنيا، قال تعالى: {والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة} (البلد: 19-20). ومنه ما يحكى عن الأعاجم أنهم كانوا يتشاءمون عند الخروج بالغداة برؤية الصبي، يذهب به إلى المعلم، ويتيمنون إذا خرجوا للحاجة ورأوا صبيا يرجع من عند المعلم إلى بيته، ويتشاءمون برؤية السقاء، وعلى ظهره قربة مملوءة مشدودة، ويتيمنون برؤية فارغ السقاء مفتوحة، ويتشاءمون بالحمال المثقل بالحمل، والدابة الموقرة، ويتيمنون بالحمال الذي وضع حمله، ويحكي، والدابة التي حطّ عنها حملها. ج - إساءة الظن بكل شيء في الوجود خالقا أو مخلوقا، عاقلا أو غير عاقل. () وعندي أنه لا تعارض بين هذه المعاني اللغوية جميعا، إذ التطير أو توقع الشر، والمكروه، ما هو إلا أثر من آثار سوء الظن بكل شيء في الحياة. اصطلاحا: أما تعريف التشاؤم في المصطلح الشرعي والدعوي فيتلخص في: التطير أو توهم حصول الشر والمكروه بصورة تؤدي إلى القعود عن أداء الواجب، أو على الأقل الكسل والتواني، والتراخي نتيجة إساءة الظن بكل شيء في هذا الوجود، أو في هذه الحياة. ثانيا: صور أو مظاهر التشاؤم مع بيان وضعه في ميزان الإسلام: وللتشاؤم بهذا المعنى الذي قدمنا صور كثيرة، ومظاهر عدة، تدل عليه وبها يعرف، ونذكر منها: 1 - عدم الاستجابة للدعوة التي تنادي بالمشاركة في العمل الجماعي من أجل التمكين لمنهج الله في الأرض من جديد، على أساس أن الإسلام عقيدة، وعبادة، وخلق، وتشريع، أو هو دين ودولة، يشمل الحياتين جميعا، الدنيا والآخرة، بدعوى أن عدونا يفوقنا عددا، وعدة، وهو الآن الممسك بخناقنا، والموجه للحياة، وأين نحن إذن من هذا العدو؟ لا مناص لنا إلا القعود، والاستسلام حتى الموت، أو أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. 2 - المشاركة في العمل الجماعي القائم على تصور أنه لا دخل للإسلام في السياسة، نظرا لما يجره هذا التصور - وهو أن الإسلام دين ودولة - من محن، وشدائد، وابتلاءات شهد بها واقع الأمة المسلمة منذ سقوط الخلافة الإسلامية إلى اليوم. 3 - المشاركة في العمل الجماعي للإسلام، على أساس أن هذا الإسلام دين ودولة، ولكن بهمّة نازلة، وعزيمة ضعيفة، وإرادة فاترة، يأسا، وقنوطا من أننا مهما عملنا، فلا يمكن أبدا أن نلحق بعدونا، فضلا عن أن نسبقه أو أن نفوقه. 4 - التثبيط من همم وعزائم العاملين لدين الله بصدق وجدية بدعوى الإشفاق والرحمة بهذا الصنف من الناس، وأنه لا داعي أن يتعب هؤلاء أنفسهم، وأن يجروا عليها من المحن والشدائد ما لا يعلمه إلا الله، ولا سيما وقد صار الأمر بأيدي أعدائهم، وأولئك اليوم هم حكام العالم، وساسته في النظام العالمي الجديد، حسبهم أن يكونوا - هم، وأهلوهم، وأولادهم وذووهم - مسلمين في أنفسهم، ولا شأن لهم بالآخرين، إذ الحق - تبارك وتعالى - يقول: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} (المائدة: 105). 5 - النظر لكل ما هو أجنبي من أشخاص، وأفكار، وإنتاج، بعين الإكبار، والإجلال، والاحترام، والتوقير، أما ما هو وطني من أشخاص، وأفكار، وإنتاج، فينظر إليه بعين الاحتقار، والسخرية، والازدراء، والاستهزاء. 6 - اليأس من رحمة الله، وعفوه، بسبب كثرة المعاصي والسيئات وتصور أن الله شديد العقاب فقط، وأنه لن يغفر، ولن يعفو، ولن يتجاوز بحال من الأحوال. 7 - تصديق دعايات أعداء الله وأعداء الأمة الإسلامية القائمة على الدجل، وقلب الحقائق، والنيل من الإسلام، والمسلمين والرفع من شأن ا الكفر، والكافرين، بحيث يسلم ذلك في نهاية المطاف إلى القطيعة للمسلمين، والموالاة للكافرين. 8 - الخوف من بعض الحوادث اليومية العادية، والتي هي جزء من قضاء الله وقدره، ككسر بعض الأواني، أو انطفاء المصابيح، أو صراخ وبكاء بعض الأولاد بصورة مستمرة، أو وقوع مكروه عند ولوج بعض الأماكن المباركة كالمساجد مثلا، ثم القعود عن أداء بعض الواجبات بسبب ذلك. 9 - الخوف من لقاء المعروفين بالحسد، أو بالسحر والكهانة، وعدم اتباع الحكمة في دعوة هؤلاء، ومداواتهم كي يقلعوا عما هم فيه من شر، وباطل. هذه هي أهم صور أو مظاهر التشاؤم. أما عن وضع هذا التشاؤم في ميزان الإسلام، فيتلخص من خلال النظر في النصوص الشرعية: أن التشاؤم أو التطير إن كان مجرد توهم أو توقع حصول الشر نتيجة حوادث معينة، أثبتت التجارب، والممارسة صحتها، أو صدقها، مع اعتقاد أن الأمر كله لله، وليس لهذه الحوادث أدنى أثر على النفس إلا بإذن الله، بل لم تصرفه هذه الحوادث عن المضي في طريقه وتنفيذ مراده، إن كان الأمر كذلك، فلا شيء فيه، لأن مثل هذا التوهم أو التوقع شيء فطري في النفس الإنسانية وما من إنسان إلا ويخاف الشر، وينقبض منه، ويفرح بالخير ويهش، ويبش له، وبهذا المعنى جاءت النصوص، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا يسلم منهن أحد، الطيرة، والظن، والحسد، فإذا تطيرت فلا ترجع، و إذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق "، () " إذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا "، () " لن ينال الدرجات العلا من تكهن أو استقسم، أو رجع من سفر تطيرا "، () " الطيرة شرك - وما منا إلا تطير-ولكن الله يذهبه بالتوكل ". () وقد علق الحافظ ابن حجر على الحديث الأخير بقوله: " وإنما جعل ذلك شركا لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعاً، أو يدفع ضراً، فكأنهم أشركوه مع الله تعالى، وقوله: " ولكن الله يذهبه بالتوكل " إشارة إلى أن من وقع له ذلك، فسلم الله، ولم يعبأ بالطيرة، أنه لا يؤاخذ بما عرض له من ذلك ". () أما إن كان توهم أو توقع الشر لحوادث معينة دافعا لصاحبه أن يقعد عن أداء دوره، والقيام بواجبه، اعتقادا منه أن لهذه الحوادث أثرا فيما يصيبه دون أن يرد الأمر كله لله، فذلك شرك، وهو حرام مذموم، يوجب لصاحبه عدم المغفرة، ومن ثم الخلود في النار إذ يقول تبارك وتعالى: {إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 116). وإذ يقول صلى الله عليه وسلم: " لا عدوى ولا طيرة، الشؤم في ثلاث، في المرأة، والدار، والدابة "، () " لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر "، () " لا طيرة، وخيرها الفأل "، قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: " الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم "، () " لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة "، () " العين حق، وأصدق الطيرة الفأل ". () وذكرت الطيرة عنده صلى الله عليه وسلم فقال: " خيرها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله ". () وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل، ويكره الطيرة. () فهذه النصوص وغيرها قاطعة الدلالة في حرمة الطيرة والتشاؤم؛ لأن ذلك كله شرك، يجر على صاحبه خسارة الدنيا والآخرة. غاية ما في الأمر أنه قد يقال: كيف يكون هذا شركاً، وكيف يلحقه الذم، وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم نوعا منه، وهو التفاؤل، حيث قال: " وخيرها الفأل " أو " ويعجبني الفأل الصالح " ؟. والجواب: أن هذا ليس إباحة للطيرة، وإنما هو من باب قول العرب: " الصيف أحر من الشتاء " يعني: الفأل في بابه أبلغ من الطيرة في بابها، وباب الفأل هو التيامن، كما أن باب الطيرة هو التشاؤم. () ويقوي ذلك الأحاديث الكثيرة الدالة على حرمة التطير وقد مضت، والأحاديث الدالة على إباحة التفاؤل ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع: " يا نجيح، يا راشد "، () وأنه صلى الله عليه وسلمكان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملا يسأل عن اسمه، فإذا أعجبه فرح به، وإن كره اسمه رؤي كراهة ذلك في وجهه، وإذا دخل قرية سأل عن اسمها... الحديث. () يقول الإمام الحليمي صاحب المنهاج في شعب الإيمان: " وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل؛ لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال ". () ويقول الإمام الطيبي: " معنى الترخص في الفأل، والمنع من الطيرة هو أن الشخص لو رأى شيئا، فظنه حسنا محرضا على طلب حاجته فليفعل ذلك، وإن رآه بغير ذلك فلا يقبله، بل يمضي لسبيله، فلو قبل وانتهى عن المضي فهو الطيرة التي اختصت بأن تستعمل في الشؤم ". () ثالثا: أسباب التشاؤم: وللتشاؤم أسباب كثيرة تؤدي إليه، وبواعث عدة توقع فيه، وأهم تلك ا لأسباب، وهذه البواعث: 1 - عدم معرفة الله حق المعرفة: ذلك أن المرء إذا لم يعرف ربه حق المعرفة من أنه - سبحانه - موصوف بالكمال، والجــلال: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} (الرحمن: 78)، فهو الخالق، المالك، المدبر، الناصر لأهله، وأوليائه، الرحيم بهم، المنتقم من أعدائه، المذل لكبريائهم، الذي يمهل ولا يهمل، إلى غير ذلك من الصفات، إذا لم يعرف المرء هذا فإنه يسيء ظنه بربه، ولا يثق به، ويتصور أنه مأخوذ بذنبه لا محالة، فلا عفو ولا صفح، وأنه لن يؤيد، ولن ينصر، بل ربما انقلب هذا الظن، وما يجره من عدم الثقة بالله إلى أن يعتقد قدره المخلوقات وارتباط الحوادث اليومية بالغيب، فيتولى هؤلاء المخلوقين من دون الله، ويكون التطير والتشاؤم. ومن أجل حماية المسلم من مثل هذا الظن السيء ألزم الله المسلم التأمل المستمر في النفس، وفي الكون، وجعل هذا التأمل طريقا لمعرفة الله حق المعرفة، وتمام الثقة واليقين، فقال - سبحانه: {وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (الذاريات: 20-21)، {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} (فصلت: 53)، {وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها} (النمل: 93). كما تولى القرآن التعريف بالله بصورة تزرع الثقة واليقين به سبحانه وتعالى، وكان ذلك منذ بدأت آيات الوحي تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ختم هذا الوحي، يقول سبحانه: {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} (العلق)، {الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الديـن...}، (سورة الفاتحـة)، {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير} (الملـك:1- 4)، إلى غير ذلك من الآيات. وتولى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضا، فقال في بيان قدرته سبحانه: " بينما رجل يسوق بقرة، إذ ركبها، فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث " فقال الناس: سبحان الله، بقرة تتكلم، فقال: " إني أومن بهذا أنا، وأبو بكر، وعمر وما هما ثمَّ، وبينما رجل في غنمه، إذ عدا الذئب، فذهب منها بشاة، فطلب حتى كأنه استنقذها منه، فقال له الذئب: هذا استنقذها مني، فمن لها يوم السبع، يوم لا راعي لها غيري "، فقال الناس: سبحان الله: ذئب يتكلم، قال: " فإني أؤمن بهذا أنا، وأبو بكر، وعمر: وما هما ثم ". () وقال في بيان إمهاله للظالمين، ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر: " إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته ". () 2 - عدم معرفة النفس معرفة حقيقية: وذلك أن المرء إذا لم يعرف نفسه معرفة حقيقة، وأن الله زود هذه النفس بطاقات وإمكانات هائلة تؤهلها لمهمة العبودية، والاستخلاف في الأرض، كما نطق بذلك الحديث الشريف إذ يقول صلى الله عليه وسلم: " لما خلق الله الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال، فألقاها عليها فاستقرت، فتعجبت الملائكة من خلق الجبال، فقالت: يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال: نعم، الحديد، قالت: يا رب هل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار، قالت: يا رب هل من خلقك شيء أشد من النار؟ قال: نعم، الماء، قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح، قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم، يتصدق بيمينه يخفيها من شماله ". () وأنه ما على هذا المرء إلا أن يجاهد نفسه، وأهواءه، ونزعاته، إذا لم يعرف المرء نفسه بهذه الصورة، فإنه ينهزم من داخله، ويحتقر هذه النفس، ولا سيما في هذه الآونة التي نعيشها اليوم والتي أمسك فيها العدو بخناقنا، وأكثر علينا من الدعايات والأكاذيب أنا ضعفاء، وأنا لم نعد نحسن شيئا، وحين ينهزم المرء من داخله، ويحتقر نفسه يكون التشاؤم من أقل شيء، ومن أدنى حادث. ولعل هذا هو السر في تحذيره صلى الله عليه وسلممن الانهزام النفسي، والاستسلام، والضعف، والخور، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز... " الحديث، () " لا يحقرن أحدكم نفسه قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: " يرى أمرا لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه، فيقول الله - عز وجل - له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى ". () 3 - عدم معرفة الكون معرفة حقيقية: وذلك أن المرء إذا لم يعرف حقيقة هذا الكون الذي يعيش فيه وأنه من خلق الله، وتدبيره، وأنه سخره لنا، وضمن استمرار هذا التسخير بالطاعة، وانقطاعه بالمعصية، فقال - سبحانه: {الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون وهو الذي مدّ الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وفي الأرض قطع متجاورات وجنّات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} (الرعد: 2- 4)، {الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار} (إبراهيم: 32- 33)، {الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (الجاثية: 96)، {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} (الأعراف: 96). وإن في واقع البشرية نماذج عملية تشهد بهذه الحقيقة، وتؤكد هذه السنة، فهذا داود عليه السلام يلين الله له الحديد بطاعته لله: {ولقد آتينا داود منّا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألناله الحديد أن اعمل سابغات وقدِّر في السَّرْد} (سبأ: 10). وهذا ولده سليمان يسخر الله له الريح، والطير، والوحش، والإنس، والجن بطاعته لله كذلـك: {ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأرسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقذور راسيات} (سبأ: 12). وهذا محمد صلى الله عليه وسلم ينصره الله - عز وجل - ومن معه في غزوة الأحزاب، بالريح، والملائكة، فيقول سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بها تعملون بصيرا} (الأحزاب: 9)، بينما يسلط هذه الريح على عاد قوم هود عندما طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، وقالوا: من أشد منا قوة، فقال: {وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت علية إلا جعلته كالرميم} (الذاريا ت:41-42) ويرسل الحجارة على قوم لوط عندما أصروا على إتيان الرجال، وقطع السجيل، وفعل المنكــرات:{فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل} (الحجر: 73- 47). ويغرق بالماء فرعون وقومه حين طغى، وبغى، وقال: أنا ربكم الأعلى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين} (الزخر ف: 55 - 56). إذا لم يعرف المرء حقيقة الكون، وكيفية التعامل معه على النحو الذي شرحنا، فإنه يسوء ظنه بكل شيء فيه، ويعاديه، ويكون التطير، والتشاؤم. 4 - عدم معرفة العدو على حقيقته: وذلك أن المرء إذا لم يعرف عدوه على حقيقته، وأن عداوته قديمة منذ أمر إبليس بالسجود لآدم فأبى واستكبر، وكان من الكافرين، وأن هذا العدو لا يفتأ يكيد بكل ما أوتي من أساليب ووسائل: {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين}(الأعراف: 16-17). وأنه لا وزن لهذا الكيد ما دامت الصلة قوية بالله: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ج ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا} (الطلاق: 2- 3)، {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} (الحجر: 42)، {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} (الأنفال: 29)، {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} (فصلت: 36)، {إنّما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران: 175). إذا لم يعرف المرء حقيقة عدوه على الصورة التي شرحنا، فإنه يهابه ويخافه، ويستجيب لدعاياته، وأكاذيبه، ويكون التطير والتشاؤم من أدنى شيء، ومن أي حادث من الحوادث. 5 - عدم فقه ماهية الجهاد والنصر فقها حقيقيا: وذلك أن نفرا من المسلمين قد فقهوا الجهاد بمعناه العرفي وهو ملاقاة العدو بالقوة، ممثلة في الضرب بالسيوف أو الطعن بالرماح، أو الرمي بالسهام، أو ما يقوم مقام ذلك مما ابتكرته مدنية العصر من استخدام البنادق، والمدافع، والدبابات، والمصفحات، والطائرات، والغواصات ونحوها. وغاب عن بالهم معناه الاصطلاحي، وهو بذل أقصى ما في الطاقة والوسع من أجل تحرير الأرض كلها من أي سلطان مناوئ لسلطان الله - عز وجل - بحيث يشمل جهاد النفس، وجهاد العدو باليد، وباللسان، وبالقلب، وكذلك يتناول تجهيز الغزاة، والقيام بحاجة أهليهم، وأولادهم سواء رجعوا إليهم، أو لقوا ربهم شهداء، بل إنه يتناول ما هو أبعد من ذلك، من مثل دعوة الناس، وتعليمهم، وحضهم على الجهاد واستحضار نية الغزو، ما دامت هناك عين تطرف أو عرق ينبض، مع أخذ الأهبة والاستعداد لتحويل هذه النية إلى واقع حي متحرك في دنيا الناس، وطبيعة الظروف التي يعيشها المسلم هي التي تحدد نوع الجهاد الواجب والرباط المطلوب. وكذلك فقه هذا النفر النصر بمعناه العرفي وهو تحرير الدار والأرض من سيطرة الغاصب المحتل، وغاب عن بالهم معناه الاصطلاحي وهو التحرر من سيطرة الباطل، سواء أكان ذلك في النفس أم في واقع الحياة. فقهوا الجهاد والنصر بالمعنى العرفي الضيق، لا بالمعنى الاصطلاحي الواسع، وحين لم يتحقق لهم شيء من هذين تطيروا وتشاءموا، وهكذا كل من لم يفقه الجهاد والنصر الفقه الصحيح يقع في التطير والتشاؤم. 6 - كثرة المحن والابتلاءات مع الغفلة عن أسرار هذه المحن وتلك الابتلاءات: وذلك أن المسلم إذا نظر إلى واقعه، وواقع أمته اليوم، ورأى كثرة وتتابع المحن، والابتلاءات، في نفسه، وفي أهله، وولده، وذويه، وإخوانه، وماله، وغفل عن أسرار هذه المحن وتلك الابتلاءات، من أنها قد تكون لتقويم العوج: {ولقد صدقكم الله وعدة إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} (آل عمران: 152). وقد تكون لتمحيص المؤمنين ومحق الكافرين{وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} (آل عمران:141)، {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} (آل عمران: 179)،{ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منهم والصابرين ونبلو أخباركم} (محمد: 31). وقد تكون تكفيرا للسيئات، ورفعا للدرجات بالنسبة للمؤمنين مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: " ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه "، () " إذا سبقت للعبد من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده، ثم صبره حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له منه "، () وقد تكون لغير ذلك. إذا رأى المسلم المحن والبلايا بهذه الكثرة، وغفل عن فقه أسرارها، أصيب بالانهزام النفسي وما يتبعه من التطير والتشاؤم. 7 - العيش في وسط متشائم: وقد يعيش المسلم في وسط مريض بالتشاؤم، ولا سيما إذا كان هذا العيش قبل النضج، وكمال التربية، وحينئذ يتأثر بهذا الوسط، ويصاب هو الآخر بمرض التشاؤم. 8 - الغفلة عن طبيعة الصراع بين الحق والباطل: وقد يغيب عن بال المسلم طبيعة الصراع بين الحق والباطل، ويرى اليوم نشوة الباطل، وانتفاخه، وقوة صولجانه، وضعف الحق، وقلة أنصاره، وانزواءه، فيظنها سنة عامة مضت بها كل العصور، وستبقى كذلك إلى آخر الزمان، وحينئذ يبتلى بالتشاؤم. ولعل هذا هو السر في اشتمال القرآن الكريم على قصصن الماضين وما يحمله هذا القصص من عظات وعبر، بل ودعوته إلى التدبر والتفكر في هذا القصص ونتائجه، إذ يقول سبحانه: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} (يوسف: 111)، {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} (الأعراف: 176)، {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين}(آل عمران:137- 138). 9 - قياس واقع الأمة بحاضرها دون النظر إلى الماضي: وقد يقيس البعض واقع الأمة اليوم بما هي فيه من حاضر فيرى الشرور، والآثام، والفساد المنتشر هنا وهناك والحروب الضروس الموجهة للإسلام وأهله، وممن؟ من أبناء جلدتنا، والناطقين بلغتنا، والمسمين بأسمائنا يقيس هذا الواقع بالنظر إلى هذا الحاضر المرير، وينسى الماضي، والماضي القريب، وكيف تنصّلت الأمة من إسلامها أو هكذا أريد لها أن تتنصل من إسلامها ؛ حيث كانت الصحف والمجلات، وباقي وسائل الإعلام لا هم لها إلا الطعن في الإسلام ونشر موجة الإلحاد، والإباحية بين الناس، وعضدها وساعدها نفر من الكتاب تربيتهم وتوجيههم غربي، بل فرض ذلك فرضا بقوة السلطان وكانت الثمرة سقوط الخلافة الإسلامية، وتقسيم الدولة إلى دويلات وشيوع الموبقات من الشرك بالله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والعقوق، والقطيعة، ونبذ منهج الله والتحاكم إلى المناهج الوافدة من هنا وهناك، والمصنوعة بأيدي البشر، وبمثل هذا المقياس يمكن أن يكون الوقوع في غوائل التطير، والتشاؤم. 10 - عدم إدراك عواقب التشاؤم: وأخيرا قد يكون عدم إدراك عواقب التشاؤم الدنيوية والأخروية الفردية والجماعية، هي السبب في الوقوع في آفة التشاؤم. رابعا: آثارا لتشاؤم: وللتشاؤم آثاره السلبية، وعواقبه المهلكة على العاملين، وعلى العمل ا لإسلامي، ودونك طرفا من هذه ا لآثار، وتلك العواقب: أ - على العاملين: فمن آثار التشاؤم على العاملين: 1 - التراخي مع النفس ربما إلى حد التطاول على حدود الله، والوقوع في حبائل الشرك والعياذ بالله: وقد رأينا أقواما ملء السمع والبصر في العمل الإسلامي، ثم سيطر عليهم التشاؤم، فإذا هم خارج دائرة العمل الإسلامي، وإذا الشياطين قد اغتالتهم، ففرطوا وأسرفوا على أنفسهم، وتطاولوا على حدود الله، وتحول ولاؤهم للشيطان وحزبه، بعد أن كان ولاؤهم لله ولرسوله، وللمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهم راكعون، بل لقد حدثني من أثق به أن أحدهم كان يبكي الناس بحديثه، وتلاوته لآيات الله، وقد خاض محنة قاسية شديدة اضطرته إلى الهجرة، والعيش في ديار الغربة، ثم ابتلي بالدنيا بعدها، وسيطر عليه التشاؤم من أن العمل الإسلامي سيظل هكذا في مكانه، ولن يصل إلى ما يريد، وكان أن ترك، وأصبح ذيلا أو ذنبا، أو ظلا لملك من ملوك الأرض يرى مما تراه عينه وما يريد، فيفتي به، وضاع مع الضائعين. 2 - القلق والاضطراب النفسي: وذلك لما قدمنا من أن التطير أو التشاؤم شرك، وقد آلى الله - عز وجل - على نفسه أن ينتزع من قلوب أولئك الأمن والأمان، والطمأنينة، كما يفهم من قوله سبحانه: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}(الأنعام: 82)، {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} (الزمر: 29). وكما جاء صريحا في قوله سبحانه: {ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا}، (الجن: 17)، {ومن أغرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} (طه: 124). 3 - تعريض النفس لغضب الله وسخطه: وذلك أن التشاؤم إذا وصل إلى حد القعود عن أداء الواجب فقد صار لونا من ألوان الشرك، يجر إلى كثير من المعاصي والسيئات، والمعاصي والسيئات توجب غضب الله، وسخطه، وماذا يجني من حل عليه غضب الله وسخطه، سوى الضياع والعذاب، وصدق الله: {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} (طه: 81). ب - على العمل الإسلامي: وأما آثار التشاؤم على العمل الإسلامي فكثيرة، نذكر منها: 1 - التثبيط والتعطيل للآخرين: وذلك أن قعود المتشائم قد يؤدي إلى تثبيط همم الآخرين وقعودهم مثله، ولا سيما في صفوف الناشئة الذين ليست لديهم الحصانة، وحينئذ يتحمل المتشائم إثمين: الأول: إثم تشاؤمه وقعوده عن أداء دوره، والقيام بواجبه. والآخر: إثم تثبيط همم الآخرين، وتعطيلهم عن المضي في الطريق. 2 - الحرمان من العون والمدد الإلهي: وذلك أن سنة الله - سبحانه - في خلقه مضت أن يمنح التأييد التام، والعطاء الكامل لمن وصلوا أنفسهم به، فحسنوا الظن ومضوا على الطريق مجاهدين، لا يلوون على شيء إلا على مغفرته ورضوانه، أما إن أساءوا، وتشاءموا، فإنه يقطع عنهم عونه، ومدده، وان كان فلا يكون كاملا، وربما يكون من باب: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}، (الأعراف: 182). 3 - طول الليل مع استمرار حياة الذل والهوان: وذلك أن التشاؤم إذا انتهى إلى القعود عن أداء الواجب، والحرمان من العون والمدد الرباني، فإن أعداء الله يحكمون القبضة ويطول الليل، وتستمر حياة الذل والهوان، وهذا ما نعيشه نحن المسلمين اليوم، فالمتشائمون فينا قعدوا، وأقعدوا، وحرمنا بسببهم العون الكامل، والنصير من البشر، فطوق العدو أعناقنا، وطال الليل، وصرنا إلى ذلّ لا ذل بعده، وهوان لا يعدله هوان. خامسا: علاج التشاؤم ونستطيع بعد وقوفنا على ماهية وصور التشاؤم، وموقف الإسلام منه وكذلك بعد معرفتنا لأسبابه، وبواعثه، وآثاره المهلكة على العاملين، وعلى العمل الإسلامي، أن نرسم طريق العلاج والوقاية من هذه الآفة، وتتلخص في الخطوات التالية: 1 - التعريف بالله تعريفا يورث الثقة واليقين: وطريق ذلك التأمل في النفس وفي الكون: {وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (الذاريات: 20-21). وأيضا معايشة الكتاب والسنة، إذ ليس في الدنيا مصدر يعدلهما ثقة، وعصمة، وفيهما الدواء، والغذاء إن شاء الله. ثم النظر في سير أصحاب الدعوات، ومن تابعوهم على الطريق وكيف كان جهادهم، وصبرهم، وتحملهم، وتفاؤلهم حتى أعزهم الله بعزه، وأمدهم بجنده، ومكن لهم في الأرض كما قال سبحانـه: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} (المجادلة:21)، {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون} (الصافات: 171-173). 2 - التعريف بالنفس تعريفا يدفعها إلى مقاومة التشاؤم، والانهزام انفسي، والثقة بأنها قادرة بعون الله ومدده على الكثير، شريطة أن تتجرد من حظوظها، وأن تتواضع لربها، وأن تستسلم له وتخضع، وتنقاد: " لا يحقرن أحدكم نفسه... " الحديث، () {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين} (العنكبوت). 3 - التعريف بالكون تعريفا يبصرنا بكيفية الإفادة منه لخير البلاد والعباد، وذلك يلفت النظر إلى أن هذا الكون مسخر لنا، وقد خلق لمصلحتنا، وأن علينا أن نواظب على الطاعة والاستقامة لله - عز وجل - حتى يظل هذا الكون منسجماً معنا، غير متمرد علينا، دائم العطاء لنا، كما قال سبحانـه: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا} (الجن: 16). ولا شك أن انسجام الكون معنا، وعدم تمرده علينا، وديمومة عطائه لنا بسبب استقامتنا مع ربنا، وطاعتنا له - تبارك وتعالى - مما يفتح باب الأمل، والتفاؤل أمام المتشائمين، ويجعلهم يوقنون أن مزيدا من الطاعة والاستقامة تجعل كل ما في الكون معنا حربا ونارا على كل من يحادون الله ورسوله، ويصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجا، كما شهد بذلك تاريخ البشرية ا لطويل. 4 - التبصير بواقع العدو ولا سيما من الناحية النفسية، وذلك يلفت النظر إلى أن هذا العدو غير عفيف، ولا نزيه في حربه مع الحق، وأنه لا يتورع من استخدام أي أسلوب يحقق له ما يريد، وإن كان يتنافى مع القيم، والآداب والأخلاق لأن من منطلقاته الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل أبداً: أن الغاية تبرر الوسيلة، وأن الكذب والدجل وقلب الحقائق هو جوهر هذه الأساليب، وأنه وإن كان يبدو متماسكا مترابط الجأش أمامنا، إلا أنه في حقيقة أمره، خائف، وجل من داخله، يعاني الكثير والكثير، كما قال سبحانه: {ولا تهنوابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون} (النساء: 104). وأنه حاقد من داخله لا يحب أحدا، حتى أبناء جلدته كما قال سبحانه: {تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى{ (الحشر: 14). وأنه ليس له من مولى يعتمد عليه في حربه لنا سوى الشيطان، والشيطان لا حول له ولا قوة، في جنب حول وقوة خالقه، وباريه، والممسك بناصيته: {أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} (المجادلة: 19). إذا تبصر المسلم ذلك، وتبصر أن الله مولاه، وقد وعد بنصر المؤمنين ودحض المبطلين والمجرمين، كما قال سبحانه: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافـرين لا مولى لهـم}(محمد: 11)، {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} (المجادلة:21)، ووصلت هذه البصيرة لديه إلى حد اليقين، فإنه يتحرز من التشاؤم، ويفتح أمامه باب ا لأمل، والتفاؤل، والتيامن. 5 - إحياء الفقه الاصطلاحي لا العرفي لكل من الجهاد والنصر، كي يطمئن المعلم، والمربي، والطبيب، والمهند س، والفلكي، والجيولوجي، والتاجر، والصانع، والزارع وغيرهم أنهم بعملهم هذا حين يقصدون به وجه الله، وامتثال أوامره، وإعزاز الأمة، وتحريرها من أن تبقى عالة على عدوها يتحكم فيها كما يشاء، وكيفما شاء، فإنهم مجاهدون كالمحارب في ميدان القتال سواء بسواء، وأنهم كذلك بثباتهم على منهجهم في وجه الامتحانات والابتلاءات سواء أكانت شدة أم رخاء، بل حتى موتهم وهم ثابتون على هذا المنهج، عاملون له، يكتبون في سجل المنتصرين، ورضي الله عن هذا الصحابي الجليل، الذي جاءته ضربة مسددة من قبل عدوه دخلت في ظهره، فخرجت من صدره فهتف بأعلى صوته قائلا: " فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة "، إن إحياء مثل هذا الفقه، له دور كبير في القضاء على التشاؤم وملء النفس بالتفاؤل، والتيامن. 6 - التأكيد على فقه المحن والابتلاءات، وأنها ليست أبدا دليل عدم الرضا من الله، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما قدمنا-: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: " الأمثل، ثم الأمثل، فالأمثل، يبتلى الناس على قدر دينهم، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البلاء، حتى يمشي على الأرض ما عليه خطيئة "، () وإما قد تكون لحكمة يعلمها الله، وهي في النهاية لصالح المسلم، إن مثل هذا الفقه يقتلع التشاؤم من أغوار النفس، ويزرع مكانه الأمل، والتفاؤل. 7 - الانسلاخ من صحبة المتشائمين، والارتماء في أحضان المتفائلين الواثقين بربهم، وبمنهجهم، وبقدوتهم، وبأنفسهم، وبأمتهم الآخذين من ماضيهم العبرة لحاضرهم، فإن مثل هذا الانسلاخ له دور كبير في علاج التشاؤم، وتحلية النفس بالتفاؤل والتيامن. 8 - دوام النظر في قصص الماضين مكذبين ومصدقين، وطبيعة الصراع بينهم، والنتيجة التي أسفر عنها هذا الصراع، فإن ذلك يطمئن المؤمنين، ويريحهم من داخلهم أن العاقبة لهم مصداقا لقوله سبحانه: {والعاقبة للمتقين} (القصص: 83)، {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} (الأنبياء: 105)، {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا} (فاطر: 43)، {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} (آل عمران:137). 9 - الموازنة المستمرة بين حاضر هذه الأمة، وماضيها القريب، ولا سيما هذا الماضي الذي اقترن بسقوط الخلافة الإسلامية، وسيظهر من هذه المقارنة أنه بعد أن كان الالتزام بالشعائر التعبدية أو بالعبادات المخصوصة من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وعمرة، وحفظ وتلاوة لكتاب الله، والذكر، والدعاء، والاستغفار، والحفاظ على الحجاب والزي الإسلامي، سمة واضحة من سمات كبار السن الذين أحيلوا إلى التقاعد عن العمل أو هدهم المرض، فوهنت قواهم وضعفت بنيتهم، فلا يصلي إلا العجوز رجلا أو امرأة، ولا يرسل اللحية إلا الكبير الطاعن في السن، ولا تلتزم بالحجاب والزي الإسلامي إلا العجوز التي صارت من القواعد، ولا يحج، ولا يعتمر إلا العجائز، ولا يصوم إلا الكبير... وهكذا حتى كان الشاب الذي يحاول الالتزام بهذه الشعائر محل سخرية واستهزاء من الآخرين. بعد هذا كله تبدلت الصورة، وصار الالتزام بهذه الشعائر هو السمت العام في الأمة، ولا سيما في صفوف الشباب، وخير دليل على ذلك: المساجد في أيام رمضان، ولا سيما في العشر الأواخر، عشر الاعتكاف، حيث تغص هذه المساجد بالشابات والشباب كل في مصلاه، وصلاة العيد، حيث تمتلئ الساحات بالشباب، والشابات، والأطفال كل في مصلاه، والحج والعمرة حتى أصبحت نسبة الشباب والشابات إلى العجائز كبيرة جدا ربما تجاوز السبعين في المائة، وكذلك الالتزام بالحجاب والزي الشرعي صار هو السمة العامة في الأمة، حتى المتبرجات اللائي يرغبن في الزواج صرن على يقين أن الشباب لا يرغب فيهن، وهن هكذا متبرجات، ومن ثم يرتدين الحجاب، وإن لم يكن كاملاً، ولكنه خطوة على الطريق، ودليل أن الأمة قطعت شوطا لا بأس به على طريق العودة إلى الإسلام، وانتشرت أيضا مدار س، ومعاهد، وحلقات القرآن، والحديث حفظاً، وترتيلا، وفقها، وتدبرا، حتى في قعر أوربا الشرقية والغربية وأمريكا. وبعد أن كانت اللامبالاة، وعدم التفريق بين الحلال والحرام في المطاعم والمشارب، والملابس، والمراكب، والسكن هي السمة العامة في الأمة، حتى انتشرت البنوك الربوية في كل بلاد المسلمين، وحتى عمت وشاعت الرشوة، والغش، والاحتكار، والسلب والنهب هنا وهناك، بعد هذا كله صارت الدقة في تحري الحلال والحرام هي الأساس والأصل، فكانت البنوك والمصارف الإسلامية الموزعة في كل أنحاء العالم، والتي جاوزت الخمسين حتى الآن، وصار الإقبال عليها من المسلمين عديم النظير، حتى لو لم يحصلوا عليها عائدا أو فائدة، حسبهم أنها خالية من الربا، وكان السؤال بإلحاح عن كل شيء، أهو حلال أو حرام، حتى سألت امرأة أن زوجها يمشي لزيارة أقاربه، وأموال هؤلاء الأقارب كلها ربا في ربا وهو يأكل عندهم، ثم يعود فيعاشرها، فهل يصيبها شيء من هذا الحرام؟ وحتى أصبح الناس، ولا سيما الشباب والشابات يسألون عن العمل مع هذه الأنظمة التي تحكم بغير ما أنزل الله، وفي ظلها، ولا سيما في الشرطة والجيش والبنوك، وغيرها، وعن العائد المالي من وراء العمل في هذه المؤسسات. وبعد أن كان الساسة، والحكام والحزبيون وغيرهم يعلنون في إصرار ألا دخل للدين في السياسة، ولا دخل للسياسة في الدين، صارت السمة العامة لأولئك - إرضاء للشعوب المسلمة التي لا يرضيها إلا أن تحكم بشرع الله -أن الإسلام دين ودولة، صحيح هم يقولونها بأفواههم، ولا تؤمن بها قلوبهم، لكن لنا الظاهر، والله يتولى السرائر، وهي كذلك خطوة على الطريق. وبعد أن كان التعليم ينطلق من العلمانية التي تفصل بين التعليم المدني والتعليم الشرعي، حتى خرج لنا طائفة من الملحدين الذين يحادون الله ورسوله، وتولوا هم بأنفسهم بذر بذور الشر والفساد في الأمة، أصبح التعليم في كثير من المدارس، والمعاهد، والجامعات ينطلق من منطلق إسلامي، ألا وهو عدم الفصل بين التعليم الشرعي والتعليم المدني، بل هناك قدر من العلوم العينية وهو ما تصح به العقيدة، والعبادة، والسلوك، وتضبط به النظم والتشريعات تتعلمه الأمة كلها رجالا ونساء، صغارا، وكبارا، ثم يكون التخصص في فرع أو أكثر من فروع المعرفة التي بها تعز الأمة، وتسود، ولقد أثمر التعليم بهذا المنطلق الجديد حتى صرنا نرى طبيباً أو مهندسا أو فلكيا يحدثك في الإسلام حديثا يفوق به المتخصصين في العلوم الشرعية، إن هذه الموازنة ضرورية لاقتلاع جذور التشاؤم من النفس، وصبغها بصبغة الأمل، والتفاؤل. 10 - التذكير المستمر بعواقب التشاؤم الدنيوية، والأخروية، الفردية والجماعية على النحو الذي شرحنا، فإن ذلك أيضا له دور كبير في علاج التشاؤم، واستبداله بالتفاؤل والتيامن، إذ ا لإنسان كثيرا ما ينسى، وعلاج النسيان إنما يكون بالتذكير الدائم: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} (الذاريات: 55)، {فذكر إن نفعت الذكرى} (الأعلى: 9). 11 - الحرص على حضور التجمعات الإسلامية في موسم الحج، وفي المؤتمرات، وفي الندوات، والمحا ضرا ت، وفي رمضان، وفي ا لعيدين، فان رؤية جموع المسلمين، وإقبالهم على دينهم مما يزرع في النفس الثقة والتفاؤل، ويخلصها مما تعاني من التشاؤم. 12 - الوقوف طويلا عند الحركات الجهادية التي انطلقت الآن في كل مكان في العالم، ولا سيما في أفغانستان وفلسطين باذلة النفس والنفيس من أجل زحزحة وإزاحة الباطل من طريق الناس، والتمكين لمنهج الله في الأرض، ولقد لاحت بشائر النصر، فها هي أفغانستان يقوم فيها - بمشيئة الله تعالى - بعد جهاد دام قريبا من خمسة عشر عاما حكم إسلامي يطبق القرآن، وهدي النبي الأمين محمد صلى الله عليه وسلم، فضلا عن أن سقوط الشيوعية الحمراء الملحدة التي كانت تحكم نصف العالم كان ثمرة مباشرة من ثمار هذا الجهاد الأفغاني، وها هم أطفال الحجارة في فلسطين يدوخون اليهود والصهاينة في إسرائيل ويجعلونهم يدورون حول أنفسهم متسائلين: أين طريق الخلاص؟ إن الوقوف عند مثل هذه الحركات الجهادية المنتشرة هنا وهناك في كل أنحاء العالم، ولا سيما العربي والإسلامي له دور كبير في زرع الثقة والتفاؤل في النفس، وتحريرها من التطير والتشاؤم.
مختارات