الآفة الثامنة عشرة - فوضى الوقت
والآفة الثامنة عشرة التي يبتلى بها كثير من العاملين، بل لا يكاد يسلم منها أحد إنما هي: " فوضى الوقت "، ولا بد أن يتخلص منها من ابتلي بها، وأن يتوقاها، ويتجنبها من سلمه الله وعافاه منها. وحتى يكون لدينا تصور واضح أو قريب من الواضح عن أبعاد ومعالم هذه الآفة، فإننا سنتناولها على النحو التالي: أولا: تعريف فوضى الوقت: لغة الفوضى في اللغة تطلق على معنيين هما: أ - اختلاط الأمور بعضها ببعض، يقال: نعام فوضى: أي مختلط بعضه ببعض، ويقال: أموالهم فوضى بينهم: أي هم شركاء فيها. ب - والتساوي في ا لأمر أو الرتبة، يقال: قوم فوضى: أي متساوون لا رئيس لهم. قال الأفوه الأودي: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا () وعندي أنه لا تعارض بين المعنيين جميعا؛ لأن الأول لازم للآخر، ومنبثق عنه، ذلك أن التساوي في الأمر أو الرتبة يقتضي الاختلاط أو التداخل في هذا الأمر أو في هذه الرتبة. اصطلاحا: أما في الاصطلاح فإن فوضى الوقت تعني خلط الأمور بعضها ببعض، والنظر إليها على أنها بدرجة واحدة من حيث الأهمية والفائدة، مع عدم التوفيق بين الواجبات والأوقات. ثانيا: مظاهر فوضى الوقت، ووضع هذه الفوضى في ميزان الإسلام: ولفوضى الوقت مظاهر كثيرة تدل عليها، أهمها: 1 - الاشتغال بثانويات، أو هوامش الأعمال عن أصولها وقلبها. 2 - إعطاء العمل البسيط فوق ما يستحق من الجهد، والوقت. 3- تضييع الساعات الطوال بغير عمل بالمرة. 4 - تراكم أكثر من عمل في وقت واحد، بل في لحظة واحدة. وأما عن وضع فوضى الوقت هذه في ميزان الإسلام، فهي حرام، كما تلمح بذلك النصوص الكثيرة الناطقة بتحسر أقوام على أعمارهم التي ضيعوها بغير عمل يفيد، فيقول: {إن الله لعن الكافرين وأعدّ لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا} (الأحزاب: 63-66). وأنهم يتمنون الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم من تقصير، فيقول: {حتى إذا جـاء أحدهم الموت قال ربي ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت} (المؤمنون)، {وأنفقوا من ما رزقناكـم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكـن من الصالحين}(المنافقون: 10)، {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكـون من المؤمنين} (الأنعام:27)، {هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نردّ فنعمل غير الذي كنا نعمل} (الأعراف: 53)، {وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمـل}(فاطر: 37). وإذ يقول صلى الله عليه وسلم: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ "، () " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه ". () ويشرح أو يبين الحق - تبارك وتعالى - حرمة هذه الفوضى بشكل أدق حين يذكر بنعمة الوقت، فيقول: {يُقلّب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} (النور: 44)، {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا} (الفرقان: 62)، {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} (القصص: 73). ويقول صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: " اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك "، () " بادروا بالأعمال الصالحة سبعا: هل تنتظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتاً مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر ". () ثالثا: أسباب فوضى الوقت: والأسباب أو البواعث التي توقع في فوضى الوقت كثيرة، نذكر منها: 1 - الأسرة التي لا ترعى حرمة الوقت: فقد ينشأ الإنسان في أسرة لا ترعى حرمة الوقت، ولا تعطي له أدنى رعاية أو أهمية، وتكون النتيجة التأثر، والتأثر الشديد بهذا الجو، أو بهذا المحيط من الفوضى، وتصبح لازمة من لوازم حياته، تسير معه إلى القبر إلا أن يتداركه الله برحمة منه وفضل، ويهيئ له صحبة صادقة طيبة، تأخذ بيده إلى احترام الوقت وتنظيمه، وتظل تتعهده، وترعاه حتى يقلع عن هذا الداء. 2 - الصحبة السيئة: وقد تلقي المقادير بالإنسان في وسط من الصحبة السيئة، دأبها وديدنها ضياع الوقت، أو ملؤه بالتافه الضار، ويكون هو غير مكتمل الحصانة وحينئذ يتأثر بهم، ويظهر ذلك أول ما يظهر في وقته، فإذا به يهدره ويضيعه فيما لا طائل تحته، ولا فائدة ترجى من ورائه. 3 - عدم احترام ذوي الأسوة والقدوة لأوقاتهم: وقد يكرم الله المسلم بصحبة طيبة، إلا أن ذوي التأثير والأسوة والقدوة في هذه الصحبة مصابون بفوضى الوقت، فيتأثر بهم، وخصوصا إن لم يعمل عقله، ويرى نفسه مسئولا وحده بين يدي ربه، وبمرور الزمن تصبح فوضى الوقت خلقا لازما له في حياته. 4 - عدم تقدير قيمة الوقت: وقد لا يعرف الإنسان قيمة الوقت، وأنه رأس ماله على ظهر هذه الأرض، وأنه إن ضاع ضاعت نفسه، وإن بقي بقيت نفسه. قد لا يعرف ذلك كله، فينشأ في نفسه، وفي سلوكه ما يسمى بفوضى الوقت. 5 - الركون إلى النعمة مع أمن مكر الله: وقد يمن الله على الإنسان من فراغ، أو صحبة، أو شباب، أو غير ذلك فيطمس بهذه النعمة، ويركن إليها، وينسى أنه يمكن أن تصير إلى زوال في لحظة، ويأمن مكر الله، وتكون العاقبة إهدار الوقت، وتضييعه فيما لا يجدي، ولا يفيد، وتلك هي فوضى الوقت. 6 - الانفراد بالرأي وعدم المشورة: وقد ينطلق الإنسان يعمل حسبما تسنح له الفرصة، معتمدا على رأيه دون الرجوع إلى أحد من ذوي الخبرة، والتجربة، والسداد، والرأي ومشاورته فيما يريد، وتكون العاقبة فوضى الوقت، حيث يشتغل بثانويات الأمور، ويضيع الأصول، أو الأساس، أو تتراكم عليه الأعمال فيقعد ولا يعمل شيئا بالمرة. 7 - عدم تقدير المرء لجهده وطاقته: وقد لا يقدر المرء جهده، وطاقته، ويظن أن لديه القدرة على عمل كل شيء، ويأخذ في العمل، ويصادف أنه لم ينجز شيئا، ويصير من أصحاب أنصاف أو أثلاث، أو أرباع الأعمال. كما قيل: الذي يعمل كل شيء لا يعمل شيئا، وهذه هي فوضى الوقت. 8 - عدم المتابعة والمحاسبة: وقد يحرم الإنسان ممن يتابعه، ويحاسبه على عمله، وعلى خطواته أولا بأول، وتكون النتيجة فوضى الوقت حيث يضيع الوقت في غير عمل بالمرة، أو في عمل هامشي لا يسمن ولا يغني من جوع. 9 - المعصية، وإهمال النفس من التزكية: وقد يقع الإنسان في المعصية، ولا سيما الصغير منها، ويهمل التوبة والتخلص منها، بل يهمل تزكية نفسه التي هي سبب بركة الوقت وامتداده، أو اتساعه، وحينئذ يبتلى بفوضى الوقت، إذ يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث: " من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه ". () والعلماء مختلفون في تحديد معنى الإنساء على نحو ما ذكر الحافظ ابن القيم في كتابه الداء والدواء، إذ يقول: " وقد اختلف الناس في هذا الموضع، فقالت طائفة: نقصان عمر العاصي هو ذهاب بركة عمره، ومحقها عليه، وهذا حق، وهو بعض تأثير المعاصي، وقالت طائفة: بل تنقصه حقيقة، كما تنقص الرزق، فجعل الله سبحانه للبركة في الرزق أسباباً كثيرة تكثره، وتزيده، وللبركة في العمر أسبابا تكثره، وتزيده. قالوا: ولا يمتنع زيادة العمر بأسباب، كما ينقص بأسباب، فالأرزاق، والآجال، والسعادة، والشقاوة، والصحة، والمر ض، والغنى، والفقر، وإن كانت بقضاء الرب - عز وجل - فهو يقضي ما يشاء بأسباب جعلها لمسبباتها مقتضية له. وقالت طائفة أخرى: تأثير المعاصي في محق العمر إنما هو بأن حقيقة الحياة هي حياة القلب، ولهذا جعل الله - سبحانه - الكافر ميتا غير حي، كما قال تعالى: {أموات غير أحياء} (النحل: 21). فالحياة في الحقيقة حياة القلب، وعمر الإنسان مدة حياته، فليس عمره إلا أوقات حياته بالله، فتلك ساعات عمره، فالبر، والتقوى، والطاعة تزيد في هذه الأوقات التي هي حقيقة عمره، ولا عمر له سواها. وبالجملة، فالعبد إذا أعرض عن الله، واشتغل بالمعاصي، ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية التي يجد غبّ إضاعتها يوم يقول: {يا ليتني قدّمت لحياتي} (الفجر: 24). فلا يخلو إما أن يكون له مع ذلك تطلع إلى مصالحه الدنيوية، والأخروية أولا، فإن لم يكن له تطلع إلى ذلك، فقد ضاع عليه عمره كله، وذهبت حياته باطلاً. وإن كان له تطلع إلى ذلك طالت عليه الطريق بسبب العوائق، وتعسرت عليه أسباب الخير بحسب اشتغاله بأضدادها، وذلك نقصان حقيقي من عمره. وسر المسـألة: أن عمر الإنسـان مدة حياته، ولا حيـاة له إلا بإقبالـه على ربـه والتنعـم بحبـه، وذكـره، وإيـثـار مرضـاتـه ". () 10 - الغفلة عن واقع الأعداء: وقد ينسى المرء واقع الأعداء، وأنهم يعملون بالليل والنهار، ولا يسمحون لأنفسهم بتضييع لحظة بغير عمل، وبغير كيد لله ولرسوله، ولجماعة المسلمين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويلتزمون بهدي السماء، قد ينسى المسلم ذلك، فيهمل الانتفاع بوقته، وحينئذ يصاب بفوضى الوقت. 11 - الغفلة عن عواقب فوضى الوقت: وقد تغيب عواقب فوضى الوقت الدنيوية والأخروية عن بال المسلم فإذا به يهدر وقته، ولا ينتفع به، أو ينتفع به فيما لا جدوى من ورائه، وحين يأتيه الموت يبكي ندماً، ويتمنى التأخير لتدارك ما فات، وأنى له ذلك، وقد قال الله تعالى: {ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون} (المنافقون:11). 12 - الدخول في العمل بغير تنظيم وتخطيط: وقد يدخل الإنسان في العمل مهملا قواعد التنظيم، والتخطيط لواجباته ولطاقاته، بل للواجب الواحد، وحينئذ يأخذ في التضييع والتفريط، وتكون فوضى الوقت. رابعا: آثار فوضى الوقت: ولفوضى الوقت آثار مهلكة، وعواقب خطيرة، سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي، ودونك طرفا من هذه ا لآثار. أ - على العاملين: أما عن آثار فوضى الوقت على العاملين فكثيرة، نذكر منها: 1 - ضياع العمر بغير فائدة، أو بفائدة لا تذكر: ذلك أن الفوضوي في وقته، تمر عليه أوقات كثيرة بغير عمل، أو بعمل هامشي لا يكاد يذكر، وتكون النتيجة الأخيرة، والمحصلة النهائية ضياع العمر كله بغير فائدة، أو بفائدة قليلة الجدوى، ضئيلة النفع، وهذا هو الغبن الذي نبه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ". () وهو الذي قصد إليه حكيم من الحكماء حين قال: من أمضى يوما من عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه وظلم نفسه. () 2 - القلق والاضطراب النفسي: ذلك أن الفوضوي في وقته ينسى نفسه من التزكية، أو يزكيها بما لا يشبعها ولا يشفيها، بل ربّما وقع في المعاصي والسيئات كما شهد بذلك الواقع، وأشار إليه بعض الحكماء إذ قال: " من الفراغ تكون الصبوة "، () وتكون النتيجة مرض القلب وموته، وبعبارة أخرى قسوته، الأمر الذي يؤدي إلى القلق والاضطراب النفسي، كما يفهم من قوله تعـالى: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه}(التغابن:11)، {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد: 28)، {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} (الأنعام: 82). 3 - الذل والهوان في الدنيا: ذلك أن الفوضوي في وقته إنما هو واقف في محله، أو يتحرك حركة بطيئة لا تسمن ولا تغني من جوع، في الوقت الذي لا يكف فيه الباطل، ولا يفتر عن العمل لحظة واحدة، ومثل هذا سيأتي عليه لحظة، لا يتمكن فيها حتى من التنفس العادي، فضلا عن الحركة والتأثير في غيره، فيقضى حياته ذليلا مهينا، كما يقول سبحانه: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} (طه: 124). 4 - الحسرة والندامة يوم القيامة: ذلك أن الفوضوي في وقته، يلقى ربه يوم القيامة بغير ما يرضيه وتكون العاقبة الحسرة والندامة، بل وتمني العودة إلى الدنيا للتدارك، والإصلاح كما يقول سبحانه: {أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين} (الزمر: 56)، {وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي} (الفجر: 23-24)،{حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت} (المؤمنون: 99)، {وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل}(فاطر: 37). ب - على العمل الإسلامي: وأما عن آثار فوضى الوقت على العمل الإسلامي فتتلخص في: 1 - الفرقة والتمزق: ذلك أن الفوضوي في وقته يقصر في حق الآخرين، فلا يرعى الآداب الاجتماعية، وتكون العاقبة النفور والقطيعة، الأمر الذي يؤدي إلى الفرقة والتمزق، ثم تمكين العدو من رقابنا واستغلاله لخيرنا، وثرواتنا. 2 - الحصار والتطويق: ذلك أن فوضوي الوقت، إنما يفسح الطريق أمام الباطل لحصار العمل الإسلامي وتطويقه، بل وتشديد القبضة عليه، ولا سيما أن هذا الباطل حريص كل الحرص على الانتفاع بوقته وتوظيفه فيما يحقق له أهدافه، ويوصله إلى غاياته. 3 - طول الطريق، وكثرة التكاليف: أو على الأقل تؤدي فوضى الوقت إلى طول الطريق، وكثرة التكاليف نظرا لتربص الباطل بالعمل الإسلامي، وعدم انتفاع هذا العمل بوقته في إبطال هذا التربص، وتفادي شرره وأخطاره. ولقد أشار الإمام المودودي وهو يخاطب الدعاة إلى هذا الأثر والذي قبله بقوله: " اسمحوا لي أن أقول لكم: إنكم إذا خطوتم على طريق هذه الدعوة بعاطفة أبرد من تلك العاطفة القلبية التي تجدونها في قلوبكم نحو أزواجكم وأبنائكم، فإنكم لا بد أن تبوءوا بالفشل الذريع، بفشل لا تتجرأ بعده أجيالنا القادمة على أن تفكر في القيام بحركة مثل هذه إلى مدة غير وجيزة من الزمان، عليكم أن تستعرضوا قوتكم القلبية والأخلاقية، قبل أن تهتموا بالخطوات الكبيرة ". () خامسا: علاج فوضى الوقت: وما دمنا قد وقفنا على الأسباب أو البواعث التي أدت إلى فوضى الوقت، فإنه من السهل معرفة طريق العلاج، ويمكن تلخيصها فيما يلي: 1 - اليمين بأن الوقت هو رأس المال على ظهر هذه الأرض: بأن يضع المسلم في حسابه أن وقته هو رأس ماله على ظهر هذه الأرض، والتفريط فيه، أو عدم شغله بالنافع المفيد يعني خسارة الدنيا والآخرة أو خسارة الآخرة على الأقل، وتلك هي الخسارة التي لا خسارة بعدها، إذ يقول الحق - تبارك وتعالى:{إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين}(الزمر: 15)، فإن ذلك من شأنه أن يحمل المسلم على تنظيم وقته، وملئه بما يعود عليه وعلى أمته بالخير العظيم. 2 - اليقين بضخامة المسئولية غدا: وأن يوقن المسلم بضخامة المسئولية غدا بين يدي الله - عز وجل - إذ الوقت من بين ما يسأل عنه العبد يوم القيامة كما جاء في الحديث: " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أفناه، وعن عمره فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه ". () 3 - دوام النظر في سيرة السلف: وأن يديم المسلم النظر في سيرة السلف، وكيف كان حرصهم على الوقت بل واستغلاله استغلالا صحيحا حقيقيا، ولا سيما العلماء والدعاة والمجاهدون، فقد كان هؤلاء يستغلون أوقاتهم استغلالا يدور بين القراءة، والسماع، والإسماع، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، والصلوات، وسائر أعمال البر والخيرات. هذا أبو بكر الأنباري يدخل عليه الطبيب في مرض موته، فينظر إلى مائه - يعني بوله - ويقول له: قد كنت تفعل شيئا لا يفعله أحد، ثم يخرج فيقول: ما يجيء منه شيء. ويعود إليه ويسأله: ما الذي كنت تفعل؟ فيقول له أبو بكر -رحمه الله -: كنت أعيد في كل أسبوع عشرة آلاف ورقة. () وهـا هي امرأة الحافظ محمد بن مسلم المعروف بابن شهاب الزهري، المحدث المشهور المتوفي 124 هـ، تشكو من تعلق زوجها بالكتب، وطول معايشته لها فتقول: والله، إن هذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر. () وهذا الشيخ عبد العظيم المنذري (صاحب كتاب الترغيب والترهيب المتوفى 656 ه) يحكي عن إسحاق بن إبراهيم بن عيسى المرادي، فيقول: ولم أر، ولم أسمع أحدا أكثر اجتهادا منه في الاشتغال، كان دائم الاشتغال في الليل والنهار، وقد جاورته في المدرسة - يعني القاهرة - بيتي فوق بيته، اثنتي عشرة سنة، فلم أستيقظ في ليلة من الليالي، في ساعة من ساعات الليل إلا وجدت ضوء السراج في بيته، وهو مشتغل بالعلم، وحتى كان في حال الأكل، والكتاب والكتب عنده يشتغل فيها. () وهذا العلامة ابن الجوزي (المتوفى 597 ه) يقول عن نفسه: وإني أخبر عن حالي، ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتاباً لم أره، فكأني وقعت على كنز، فلو قلت: إني قد طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعد في طلب الكتب، فاستفدت بالنظر فيها ملاحظة سير القوم، قدر همهم، وحفظهم، وعاداتهم، وغرائب لا يعرفها من لم يطالع. () وهذا الحافظ ابن قيم الجوزية - رحمه الله - يقول: وأعرف من أصابه مرض من صداع، وحمى، وكان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة قرأ فيه، فإذا غلب وضعه، فدخل عليه الطبيب يوما وهو كذلك، فقال: إن هذا لا يحل لك، فإنك تعين على نفسك، وتكون سببا لفوات مطلوبك. () وهذا عبد الرحمن بن تيمية ينقل عن أبيه، عن جده، فيقول: كان الجد إذا دخل الخلاء، يقول لي: اقرأ في هذا الكتاب، وارفع صوتك حتى أسمع. () وهذا أبو عثمان أحد شيوخ البخاري يقول: ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تم، وإلا قمت له بمالي، فإن تم، وإلا استعنت له بالإخوان، فإن تم وإلا استعنت له بالسلطان. () وهذا الليث بن سعد - رحمه الله - كان يجلس للمسائل، يغشاه الناس فيسألونه، ويجلس لحوائج الناس، لا يسأله أحد من الناس فيرده، كثرت حاجته، أو صغرت. () وهذا الخطيب البغدادي يقول: سمعت علي بن عبيد الله بن عبد الغفار اللغوي، يحكي أن محمد بن جرير الطبري المتوفى 310 ه - عن ثلاث وثمانين سنة- مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم أربعين ورقة. () وهذا الإمام حسن البنا- رحمه الله - يقول عن نفسه: لقد استدعيت في دار الشبان حتى أقول رأيي في كتاب: (مستقبل الثقافة في مصر لطه حسين) بعد خمسة أيام، ولما لم أكن أستطع التحلل من مواعيد كنت مرتبطا بها في خلال الأيام الخمسة، فلم أجد وقتا أخصصه لقراءة هذا الكتاب إلا فترة ركوبي الترام في الصباح إلى مدرستي، وفترة رجوعي منها في الترام، قال: فقرأت الكتاب - لأنه لم يكن كبيرا - وكنت أضع علامات بالقلم الرصاص على فقرات معينة، ولم تمض الأيام الخمسة، حتى كنت قد استوعبت الكتاب كله. () وهذا المرحوم عمر التلمساني، يقول عن نفسه: أقبلت على القراءة الدينية، فقرأت تفسير الزمخشري، وابن كثير، والقرطبي، وسيرة ابن هشام، وغيرها من السير... قرأت أسد الغابة، والطبقات الكبرى، ونهج البلاغة، والأمالي، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والمخصص لابن سيده، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم من جلده، إلى جلده. () وهذا الأستاذ علي طنطاوي يقول: لو أحصيت معدل الساعات التي كنت أطالع فيها لزادت على عشر في اليوم، لأنني منذ الصغر شبه معتزل، بعيد عن المجتمع، فلو جعلت لكل ساعة عشرين صفحة، أقرأ من الكتب الدسمة نصفها، ومن الكتب السهلة نصفها، لكان لي في كل يوم مائتا صفحة في اليوم. فاحسبوا كم صفحة قرأت من يوم تعلمت النظر في الكتب، وامتدت يدي إليها سبعين سنة، في كل سنة اثنا عشر شهراً، في كل شهر ثلاثون يوما، في كل يوم مائة صفحة، فإن هالكم الرقم، فاحسموا منه نصفه فكم يبقى؟ كنت ولا أزال أقرأ في كل علم: في التفسير، وفي الحديث، وفي الفقه، وفي التاريخ، وفي الأدب: الأدب العربي، والأدب الفرنسي. وفي العلوم على تنوعها وتعددها بدأت اليوم أقرأ سنة 1335 ه، ونحن اليوم في سنة 1405 ه وأنا أقرأ أكثر ساعات ليلي ونهاري، فلو قدرت لكل يوم مائة صفحة - وأنا أقرأ أضعافها - لكان مجموع ما قرأت مليونين ونصف من الصفحات، وكتبت ما لم يكتب أكثر منه مما أعرف إلا قليلا، كالأمير شكيب أرسلان، والأستاذ العقاد، وأمثالهما، وان كان أمثالهما قلة من أصحاب القلم الفياض، والذي نشر مما كتبت يزيد على ثلاث عشرة ألف صفحة، وما ضاع مني مثله، أو أكثر منه. () وهذا الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء بالجزائر يصفه أحد الكتاب بقوله: ولقد تميز ابن باديس في حياته كلها باحترام الوقت والنظام فكان - رحمه الله - رجل علم ونظام يحافظ على أوقاته، فكان برنامجه اليومي، مما يصعب على الكثير أن يقوم به، حيث يبدأ نهاره من قبيل صلاة الفجر بالمرور على مساكن طلاب الجامع الأخضر ليتأكد من استيقاظهم لأداء صلاة الفجر، وبعد الصلاة يشرع في التدريس حتى الشروق، فيتناول إفطاره، ويعود إلى التدريس حتى صلاة الظهر، ثم يعاود التدريس من صلاة العصر حتى ما بعد صلاة العشاء، وقد بلغت الدروس التي يلقيها في اليوم الواحد خمسة عشر درساً. () إن الوقوف على أمثال هذه السير وغيرها يجعل المسلم يراجع نفسه بالنسبة لوقته، ويجتهد أن يملأه بالنافع المفيد اقتداءً وتأسياً، أو على الأقل محاكاة، وتشبهاً بذوي الفضل، والحكمة. 4 - الدعاء والضراعة إلى الله بالبركة في الوقت: وأن يلزم المسلم الدعاء والضراعة إلى الله الذي بيده مقاليد السموات والأرض أن يبارك له في وقته، وأن يوفقه لملئه بالنافع المفيد، إذ الدعاء سهام نافذة، ولا سيما إذ وقع في الأوقات التي ترجي فيها الإجابة كوقت السحر وفي السفر، وعند الاضطرار، ونحوها، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة، إذ كان من دعائه قوله: " اللهم بارك لأمتي في بكورها ". () 5 - الزهد في الدنيا مع الرغبة في الآخرة: وأن يزهد المسلم في الدنيا بأن تكون في يده لا في قلبه، وأن تكون من حلال، وأن يؤدي حق الله فيها، بل أن يتنازل عنها جميعا لله إن اقتضت الحال ذلك، مع الرغبة القوية في الآخرة، فإن ذلك من شأنه أن يحمله على التشمير الدائم، والحرص ألا تمر عليه لحظة بغير طاعة تقربه إلى الله - تبارك وتعالى. قيل للإمام الزهري مرة: ما الزهد؟ قال: ليس تشعيث اللمة، ولا قشف الهيئة - أي ليس شعث الرأس، ولا اغبرار الهيئة - ولكنه صرف النفس عن الشهوة. () وقال أحد الزهاد: ما علمت أن أحدا سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة لا يطيع الله فيها بذكر، أو صلاة، أو قراءة، أو إحسان، فقال له رجل: إني أكثر البكماء، فقال: إنك إن تضحك وأنت مقر بخطيئتك خير من أن تبكي وأنت مدل - أي منبسط بعملك - وإن المدل لا يصعد عمله فوق رأسه. فقال: أوصني، فقال: دع الدنيا لأهلها. وكن في الدنيا كالنحلة إن أكلت أكلت طيبا، وإن أطعمت أطعمت طيبا، وان سقطت على شيء لم تكسره، ولم تخدشه. () 6 - التخلص من الصحبة السيئة مع الارتماء في أحضان الصحبة الطيبة: وأن يحرص المسلم علف تخب الصحبة السيئة مع الإلقاء بالنفس بين أحضان الصحبة الطيبة، فإن هذا من شأنه أن يحفظ على المسلم أوقاته، وأن تنفق في النافع المفيد، وفي الخبر: " من يرد الله به خيرا يهده خليلا صالحا، إن نسي ذكره،وإن ذكر أعانه "، () " ألا أنبئكم بخير الناس؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " من تذكركم رؤيته بالله عز وجل "، () " اصحب من يدلك على الله حاله، ومن يعرفك بالله مقاله ". () 7 - تنظيم الأسرة للوقت مع شغله بالنافع المفيد: وأن تحرص الأسرة على تنظيم أوقات المنتمين إليها مع شغل هذه الأوقات بالنافع المفيد، فوقت للراحة والنوم، ووقت للطعام والشراب، ووقت لتحسين وتقوية الصلة بالله عز وجل، ووقت للترفيه عن النفس، ووقت لرعاية الآداب الاجتماعية، وهكذا دواليك، فإن هذا التنظيم مع الشغل من شأنه أن يبني في النفس الحرص على الوقت، وعدم تضييع لحظة منه بغير ثمرة أو عمل. 8 - الحرص على المشورة وعدم الانفراد بالرأي: وأن يحرص المسلم ألا يبرم أمرا دون أخذ الرأي والمشورة، فإن ذلك من شأنه أن يدل المسلم على النافع المفيد، بل وعلى الأولويات والمهمات، فلا تضيع منه لحظة بغير عمل نافع، أو ثمرة حلوة. 9 - معرفة المرء قدر نفسه: وأن يكون المسلم عارفا قدر نفسه، مدركا حدود جهده، فلا يزعم لنفسه ما ليس من شأنها، ولا يدخل فيما لا يجيد، إذ أن هذا من شأنه أن ينظم الوقت، وأن يشغله بالنافع المفيد الذي هو في حدود الطاقة والوسع. 10 - الاحتراز من المعاصي مع الإكثار الطاعات: وأن يحترز المسلم من المعاصي والسيئات، وإن وقع في شيء منه فليبادر بالتوبة والإقلاع، مع الإكثار من الطاعات، فإن ذلك يكون سببا في بركه الوقت وسعة الرزق، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: " من سره أن يبسط له في رزقه أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه ". () 11 - احترام ذوي الأسوة والقدوة لأوقاتهم مع شغلها بالنافع المفيد: وأن يحرص ذوو الأسوة والقدوة على تنظيم أوقاتهم، مع شغلها بالنافع المفيد، واضعين في حسابهم أن الناس يصنعون كما يصنعون في الغالب دون أن يعملوا فكرهم، ودون أن يسألوا: هل هذا موافق للهدي الرباني أو غير موافق. وأنهم إن أهملوا هذا الجانب فقد سنوا لغيرهم سنة سيئة عليهم وزرها، ووزر العاملين بها إلى يوم القيامة، وإن اهتموا بهذا الجانب فقد سنوا لغيرهم سنة حسنة لهم ثوابها، وثواب العاملين بها إلى يوم القيامة. 12 - الخوف من الله مع عدم الركون إلى النعمة: وأن يصحب المسلم معه في سفره إلى ربه خلق الخوف منه وعدم أمن مكره أو عذابه، مع عدم الركون إلى النعمة، فإن ذلك إن توفر للمسلم صار سوطا يلهب ظهره، ويحمله على تنظيم وقته، وشغله بالنافع المفيد، ويصدق ذلك ما أثر عن السلف. وحسبنا هنا: ما جاء عن سيدنا عمر بن عبد العزيز، إذ تقول عنه زوجه فاطمة بنت عبد الملك: ما رأيت أحدا أكثر صلاة، ولا صياما منه، ولا أحدا أشد فرقا من ربه منه، كان يصلي العشاء، ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه، فلا يزال يبكي حتى تغلب عيناه، ولقد كان معي في الفراش، فيذكر الشيء من أمر الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور من الماء، ويجلس يبكي، فأطرح عليه اللحاف. () وحسبنا هنا كذلك ما جاء عن الإمام أبي حنيفة - النعمان بن ثابت -إذ يقول عنه صاحبه يزيد بن الكميت: كان أبو حنيفة شديد الخوف من الله تعالى، فقرأ بنا علي بن الحسين المؤذن ليلة في العشاء الآخرة سورة {إذا زلزلت} وأبو حنيفة خلفه، فلما قضى الصلاة، وخرج الناس، نظرت إلى أبي حنيفة وهو جالس يتفكر ويتنفس فقلت: أقوم لا يشتغل قلبه بي، فلما خرجت تركت القنديل، ولم يكن فيه إلا زيت قليل، فجئت وقد طلع الفجر، وهو قائم، وقد أخذ بلحية نفسه، وهو يقول: يا من يجزي بمثقال ذرة خير خيرا، ويا من يجزي بمثقال ذرة شر شرا، أجر النعمان عبدك من النار، ومما يقرب منها من السوء وأدخله في سعة رحمتك، قال: فأذنت، وإذا بالقنديل يزهر، وهو قائم فلما دخلت قال لي: تريد أن تأخذ القنديل؟ قلت: قد أذنت لصلاة الغداة " - فقال: اكتم ما رأيت، وركع ركعتين، وجلس حتى أقمت الصلاة، وصلى معنا. () 13 - الحرص على التنظيم والتخطيط لأي عمل من الأعمال: وأن يحرص المسلم ألا يدخل في أي عمل من الأعمال وإن كان بسيطا إلا بالتنظيم والتخطيط، فإن هذا من شأنه استغلال الوقت أحسن استغلال مع توفير الجهد، والتقليل من التكاليف والتضحيات، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم غاصة بالنماذج الناطقة بحرصه صلى الله عليه وسلم على التنظيم والتخطيط ولو لأبسط الأعمال. فمثلا ما كان ينام في سفر أو حضر إلا ويكلف من يكلأ الوقت، ويراقبه، وما كان يأكل أو يشرب إلا بنظام أو ترتيب خاص، وما كان يغزو أو يسالم إلا وفق تنظيم وتخطيط، وهكذا سائر حياته وأعماله صلى الله عليه وسلم. 14 - البصيرة بواقع الأعداء، والعواقب المترتبة على فوضى الوقت: وأن يكون المسلم بصيرا بواقع الأعداء، وأنهم لا يضيعون لحظة بغير عمل، وأن إهدار وقته أو عدم استغلاله الاستغلال الصحيح يعني تمكن هؤلاء الأعداء من رقاب الأمة، فضلا عن غضب الله وسخطه في الدنيا والآخرة على النحو الذي قدمنا. 15 - الحرص على لزوم الجماعة، ونبذ العزلة أو التفرد: وأن يظل المسلم ملازما الجماعة نابذا وراء ظهره العزلة أو التفرد، فإن الجماعة إن كانت مدركة لمهمتها، بصيرة بأمرها، نهضت بواجبها نحو هذا المسلم، فتنظم له وقته، وتملؤه بالنافع المفيد، بل وتتابعه وتحاسبه على التفريط أو التضييع، مقتفية في ذلك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذ كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يقوم من الليل ثلثه، ثم ينام سدسه، ثم يصلي الصبح، ويضل يذكر ربه حتى تطلع الشمس وترتفع قدر رمح، فيصلي الضحى، ويتناول طعامه، وينصرف إلى واجباته نحو المسلمين، ومنهم أهله وأحفاده، ثم يصلي الظهر، وينام القيلولة، ويصلي العصر ويظل في حاجة المسلمين إلى العشاء، وفي هذه الأثناء يتناول عشاءه إن كانت به حاجة إلى هذا العشاء، ثم يصلي العشاء، وينام مبكرا، أو يسمر بعض الوقت في مصالح المسلمين إن قصر النهار عن تغطية هذه المصالح، ثم ينام، ولم يكن ينسى حق بدنه من الرياضة كالمشي، أو العدو، أو المصارعة، أو ركوب الخيل أو الرمي، فتحاول الجماعة تطبيق هذا الهدي مع كل مسلم، وتتولى متابعته ومحاسبته، فتحميه بذلك من التفريط والتضييع. 16 - التأكيد على الموعد بالنسبة للزائرين مع لباقه التخلص من الفضوليين أو شغلهم بالنافع المفيد: ولا بد من أن يعود المسلم الزائرين على ألا تتم زيارة بغير موعد حفاظا على الوقت، وتوفيرا للجهد، وأن يكون لبقا في التخلص من الفضوليين، كأن يصنع معهم ما كان يصنعه بعض السلف إذ كان يأمر جاريته أن تدور دائرة، وأن تضع أصبعها في وسط هذه الدائرة، وتقول: سيدي ليس هنا، أي ليس في داخل الدائرة، وهي صادقة، أو ما يصنعه أحد العلماء، الدعاة المعاصرين بأن يضع عمامته وجبته على مشجب خلف الباب، فإن جاء فضولي ورمقه من ثقب بالباب، لبس عمامته، وجبته إيهاما له بأنه خارج لواجب أو لمهمة، وفعلا يعتذر له، ويخرج قليلا، ويعود، فإن أبى هذا الفضولي إلا الدخول عمل على شغله بالنافع المفيد، وعلى نحو ما كان يصنع ابن الجوزي، إذ كان يقصر الكلام معهم استعجالا للفراق، أو يعد أعمالا تعنيه، ولا يمنع إنجازها من المحادثة والكلام مثل تقطيع الأوراق التي يكتب فيها وبري الأقلام، وحزم الدفاتر ونحوه، ودونك تجربته في ذلك بنصهما، إذ يقول: " لقد رأيت خلقا كثيرا يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس، وما لا يعني، ويتخلله غيبة، وهذا شيء يفعله في زماننا كثيرا من الناس، وربما طلبه المزور، وتشوق إليه، واستوحش من الوحدة، خصوصا في أيام التهاني، والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان، فلما رأيت الزمان أشرف شيء، والواجب انتهازه بفعل الخير، كرهت ذلك، وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان، فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق. ثم أعددت أعمالا لا تمنع من المحادثة، لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغاً، فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد - أي الورق - وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لابد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم، لئلا يضيع شيء من وقتي ".
مختارات