الآفة السابعة عشرة - النميمة
والآفة السابعة عشرة التي ابتلي بها نفر من العاملين، وكادت تأتي على الأخضر واليابس إنما هي: " النميمة ". وحتى يتطهر من هذه الآفة من ابتلي بها، ويتوقاها من سلّمه الله - عز وجل- منها، فإننا سنتناولها من الجوانب التالية: أولا: تعريف النميمة: لغة تطلق النميمة في اللغة على معان عدّة، نذكر منها: أ - قتُّ الكلام أو الحديث مطلقاً أي نقله، تقول: نم الحديث نماً أي قتَّه، ورجل نَمُُّ، ونمَّام أي قتَّات، ثم صارت تطلق على نقل الكلام على جهة الإفساد، وفي الحديث: " لا يدخل الجنة قتّات ". () ب - الهمس و الحركة، ومنه قولهم: أسكت الله نامّته، أي ما ينمُّ عليه من حركته. ج- الترقيش و الزغرفة، تقول: نمنم الشيء نمنمةً، أي رقّشه، وزخرفه، وثوب منمنم أي موشّى، ومنه قيل للبياض الذي يكون على أظفار الأحداث: نمنمة. () ولا تعارض بين هذه المعاني جميعاً، إذ قتُّ الكلام أو الحديث قد يكون مصحوبا بالهمس، والحركة، وقد يكون مزخرفا، ومنمقا حتى يحظى بالقبول. اصطلاحا: أما معنى النميمة في الاصطلاح الشرعي فلها معنيان: أحدهما خاص، وهو: نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد بينهم. والآخر عام، وهو: كشف ما يكره المرء كشفه سواء كرهه المنقول عنه، أو المنقول إليه، أو كرهه ثالث، وسواء أكان الكشف بالقول، أم بالكتابة، أم بالرمز، أم بالإيماء يعني الإشارة وسواء أكان المنقول من الأفعال، أم من الأقوال، وسواء أكان ذلك عيباً أو نقصاً في المنقول عنه، أم لم يكن. () وليس من النميمة بمعنييها الخاص، والعام، نقل الكلام أو الحديث على جهة الإصلاح كالتقريب بين متخاصمين مثلاً، وكما إذا رأى من يعتدي على مال غيره بسرقة، أو اختلاس، وشهد به مراعاة لحق المشهود عليه ويعرف هذا في اللغة باسم الإنماء، () وقد جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس الكذاب من أصلح بين الناس، فقال خيرا، أو نمى خيرا ". () والفرق بين النميمة، والغيبة على هذا التعريف هو العموم والخصوص المطلق، أي أن كل نميمة غيبة، وليس كل غيبة نميمة، فإن الإنسان قد يذكر عن غيره ما يكرهه، ولا إفساد فيه بينه وبين أحد، وهذا غيبة، وقد يذكر عن غيره ما يكرهه وفيه إفساد، وهذا غيبة، ونميمة معاً. () ثانيا: موقف ا لإسلام من النميمة: والإسلام يحرم النميمة، ويراها من الكبائر التي تحرم الواقع فيها المقيم عليها من الجنة، وتوجب له النار، نظرا لأنه سعى في قطع ما أمر الله به أن يوصل، ويفسد في الأرض. يقول تبارك وتعالى: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق}(الشورى: 42). والنّمام م واحد من هؤلاء: {ولا تطع كل حلاّف مهين هماز مشاء بنميم} (القلم: 10-11). ويقول صلى الله عليه وسلم: " إن من شرار الناس من اتقاه الناس لشره "، () " لا يدخل الجنة قاطع " قيل: وما القاطع؟ قال: " قاطع بين الناس ". () وهو النمام، وقيل: قاطع رحم، " لا يدخل الجنة قتات "، () ومر صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: " إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالغيبة والنميمة "، () " من كان له وجهان في الدنيا، كان له لسانان من نار يوم القيامة "، () " تجدون من شر عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين ". () إلى غير ذلك من النصوص. ثالثا: أسباب النميمة: والأسباب التي توقع في النميمة كثيرة، ونذكر منها: 1 - البيئة ا المحيطة القريبة كانت أو بعيدة: فقد ينشأ الإنسان في بيئة دأبها الإفساد والوقيعة بين الناس، فيأخذ في الأثر بها، ومحاكاتها، ولا سيما إذا لم يكن قد توفرت لديه الوقاية والحصانة اللازمة لحمايته من مثل هذه الآفات، ولا فرق بين أن تكون هذه البيئة قريبة - أي البيت - أو بعيدة - أي المجتمع - إذ الكل له دور كبير في حياة المرء على وجه العموم، والناشئة على وجه الخصوص. 2 - الحسد أو محبة الشر والسوء للناس: وقد يكون الحسد أو محبة الشر والسوء للناس مدعاة للوقيعة والإفساد، على نحو ما جاء عن حماد بن سلمة إذ قال: " باع رجل عبدا، وقال للمشتري: ما فيه عيب إلا النميمة، قال: قد رضيت، فاشتراه، فمكث الغلام أياماً، ثم قال لزوجة مولاه: إن سيدي لا يحبك، وهو يريد أن يتسرى عليك، فخذي الموسى، واحلقي من شعر قفاه عند نومه شعرات حتى أسحره عليها، فيحبك، ثم قال للزوج: إن امرأتك اتخذت خليلاً، وتريد أن تقتلك، فتناوم لها حتى تعرف ذلك، فتناوم لها، فجاءت المرأة بالموسى، فظن أنها تريد قتله، فقام إليها فقتلها، فجاء أهل المرأة فقتلوا الزوج، ووقع القتال بين القبيلتين ". () وعلى نحو ما ذكر صاحب بدائع السلك في طبائع الملك إذ قال: " كان رجل يغشي بعض الملوك، فيقوم بحذاء الملك، ويقول: أحسن إلى المحسن بإحسانه، والمسيء ستكفيه مساوئه، فحسده رجل على ذلك المقام والكلام، فسعى به إلى الملك، فقال: إن هذا الذي يقوم بحذائك، ويقول ما يقول يزعم أن الملك أبخر، فقال له الملك: وكيف يصح ذلك عندي؟ قال: تدعو به إليك، فإذا دنا منك وضع يده على أنفه لئلا يشم ريح البخر، فقال له الملك: انصرف حتى أنظر، فخرج من عند الملك، فدعا الرجل إلى منزله، فأطعمه طعاما فيه ثوم، فخرج الرجل من عنده، وقام بحذاء الملك، فقال: أحسن إلى المحسن بإحسانه، والمسيء ستكفيه مساوئه، فقال له الملك: ادن مني، فدنا منه، فوضع يده على فيه، مخافة أن يشتم الملك منه ريح الثوم، فقال الملك في نفسه: ما أرى فلانا إلا وقد صدق، وكان الملك لا يكتب بخطه إلا جائزة أو صلة، فكتب له كتاباً بخطه إلى عامل من عماله: إذا أتاك حامل كتابي هذا، فاذبحه، واسلخه، واحش جلده تبنا، وابعث به إلي، فأخذ الرجل الكتاب، وخرج، فلقيه الرجل الذي سعى به، فقال: ما هذا الكتاب؟ قال: خط الملك لي بصلة، فقال: هبه لي، فقال: هو لك، فأخذه، ومضى إلى العامل، فقال العامل: في كتابك: أن أذبحك، وأسلخك، قال: إن الكتاب ليس هو لي، الله الله في أمري حتى أرجع إلى الملك، فقال: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه، وسلخه، وحشا جلده تبنا، وبعث به، ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته، وقال مثل قوله، فعجب الملك وقال: ما فعل الكتاب؟ قال: لقيني فلان، فاستوهبني إياه، فوهبته له، فقال الملك: إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر، قال: ما فعلت، قال: فلم وضعت يدك على فيك؟ قال: كان أطعمني طعاما فيه ثوم، فكرهت أن تشمه، قال: صدقت، ارجع إلى مكانك، فقد كفاك المسيء مساوئه ". () ولهذا السبب وغيره جاء الأمر بالاستعاذة بالله من شر الحاسد، إذ يقول سبحانه: {قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شرِّ النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد}، (سورة الفلق). 3 - التملق لدى ذوي الوجاهة والسلطان إرضاء لهم أو طمعا فيما بأيد يهم: وقد يكون التملق لذوي الوجاهة والسلطان، إرضاء لهم أو طمعا فيما بأيديهم، هو السبب في الوقوع في آفة النميمة، ذلك أن نفرا من الناس يتصورون بفهمهم القاصر أن إرضاء ذوي الوجاهة والسلطان، أو الحصول على ما بأيديهم لا يتم إلا على أعراض الناس، والوشاية أو الوقيعة بينهم وقد نسوا، أو تناسوا أن ما عند الله، وما عند الناس لا يخاله المرء إلا بطاعته لله، وتفانيه في مرضاته تبارك وتعالى، إذ يقول سبحانه: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} (الأعراف:96). وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من أكل برجل مسلم أكلة، فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومن كسي ثوباً برجل مسلم، فإن الله يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء، فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يـوم القيـامة ". () 4 - الترويح عن النفس: وقد يرى بعض الناس أن الخوض في الفضول والباطل، والسعي بين الناس بالقطيعة، والإفساد، إنما هو من قبيل التنفيس والترويح عن النفس ومن ثم فلا يتورع عن الوقوع في هذه الآفة، ناسيا أو متناسياً أن الترويح عن النفس بالخوض في الباطل والفضول، والسعي بين الناس بالقطيعة والإفساد لا يعود على المرء إلا بالقلق، والاضطراب النفسي؛ نظرا لأنه معصية، وللمعصية عواقب وخيمة، وآثار مهلكة أعظمها هذا القلق والاضطراب النفسي، مصداقاً لقوله سبحانه: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} (طه: 124)، {ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا} (الجن:17). 5 - عدم قيام الأمة بواجبها نحو النمام بل استحسان عمله هذا: وقد يكون عدم قيام الأمة - حكاماً ومحكومين - بواجبها نحو النمّام من تكذيبه، وزجره، وتخويفه، واستهجان عمله هذا، بل استحسان الأمة لمثل هذا العمل، قد يكون سبباً من الأسباب التي تؤدي إلى الوقوع في آفة النميمة. وقد وعى السلف واجبهم نحو النمامين، فقطعوا الطريق عليهم بأداء هذا الواجب: هذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز يدخل عليه رجل، فيذكر له عن رجل شيئا، فيقول له أمير المؤمنن عمر: (إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذباً، فأنت من أهل هذه الآية: {إن جاءتهم فاسق بنبأ فتبيّنوا} (الحجرات: 6)، وإن كنت صادقا، فأنت من أهل هذه الآية: {هماز مشاء بنميم} (القلم:11)، وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدا). () وهذا سليمان بن عبد الملك يأتيه رجل - وعنده الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري - فيقول سليمان للرجل: " بلغني أنك وقعت في، وقلت كذا وكذا، فقال الرجل: ما فعلت، ولا قلت، فقال سليمان: إن الذي أخبرني صادق، فقالله الإمام الزهري: لا يكون النمام صادقاً، فقال سليمان: صدقت، ثم قال للرجل: اذهب بسلام ". () وهذا عمرو بن عبيد زعيم الخوارج يدخل عليه رجل، فيقول له: " إن الأسواري ما يزال يذكرك في قصصه بشر، فقال له عمرو: يا هذا، ما رعيت حقّ مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حين أ علمتني عن أخي ما أكره، ولكن أعلمه: أن الموت يعمنا، والقبر يضمنا، والقيامة تجمعنا، والله تعالى يحكم بيننا، وهو خير الحاكمين ". () وهذا الصاحب بن عباد يرفع إليه بعض السعاة رقعة نبه فيها على مال يتيم يحمله على أخذه لكثرته، فوقع الصاحب بن عتاد على ظهرها: " السعاية قبيحة، وان كانت صحيحة، فان كنت أجريتها مجرى النصح، فخسرانك فيها أفضل من الربح، ومعاذ الله أن نقبل مهتوكا في مستور، ولولا أنك في خفارة شيبتك لقابلناك بما يقتضيه فعلك في مثلك، فتوقَّ يا ملعون العيب، فان الله أعلم بالغيب، الميت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمَّره الله، والساعي لعنه الله ". () 6 - العمل لحساب أفراد أو جهات مشبوهة: وقد يكون العمل لحساب أفراد، أو جهات مشبوهة، هو السبب في الوقوع في آفة النميمة، ذلك أن هناك أفرادا وجهات مشبوهة لا تصل إلى مرادها إلا بالوقيعة، والسعاية بين الناس بالإفساد، مباشرة أو بواسطة آخرين من ذوي النفوس الضيقة، والقلوب المريضة، ومن ثم تنتشر وتشيع النميمة بين الناس ولعل الفرقة الواقعة اليوم بين المسلمين بعامة، والجماعات الإسلامية في أنحاء الوطن العربي والإسلامي بخاصة نابعة من هذا السبب. 7 - نسيان الله والدار الآخرة: وقد يكون نسيان الله، وأنه القوي القهار الفعال لما يريد، المطلع على كل شيء، الجامع الناس ليوم لا ريب فيه، المجازي كلا بما فعل، وكذلك نسيان الدار الآخرة، وما فيها من الأهوال والشدائد، أو السلامة والأمن، العذاب الدائم، أو النعيم المقيم، قد يكون هذا كله سبباً في الوقوع في النميمة، وصدق النبي الكريم إذ يقول: " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت ". () 8 - الغفلة عن العواقب الناشئة عن النميمة: وأخيرا قد تكون الغفلة عن العواقب الناشئة عن النميمة - كما سنعرف بعد قليل - هي السبب في الوقوع في هذه الآفة، إذ من لا يقدر عواقب الشيء، ولا سيما إذا كانت هذه العواقب وخيمة، فإنه يتجرأ عليه، وإن كان في تجرئه هذا الحتف والهلاك. رابعا: آثار النميمة: وللنميمة آثار ضارة، وعواقب مهلكة على العاملين، وعلى العمل الإسلامي، ودونك طرفاً من هذه ا لآثار، وتلك العواقب: أ - على العاملين، فمن آثار النميمة على العاملين: 1 - قسوة القلب: ذلك أن النميمة كغيرها من المعاصي والسيئات تسود القلب وتدنسه، فيصيبه المرض، ويظل هذا المرض يسري فيه حتى يموت، فتكون القسوة، والويل كل الويل لمن قسا قلبه كما قال سبحــانه: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مُبين} (الزمر: 22). 2 - نزع الثقة والهيبة من قلوب الناس: وتنتهي النميمة بصاحبها إلى نزع هيبته والثقة به من قلوب الناس، من باب أن من نم لك نم عليك، وإذا نزعت هيبة المرء، وضاعت الثقة به من قلوب الناس احترقت كل أوراقه، ولم يبق له ما يعيش أو يحيا به بين الناس، فيكون قد حكم على نفسه بالموت، وإن بدا أنه واحد من الأحياء. 3 - الإفلاس: وتنتهي النميمة كذلك بصاحبها إلى الإفلاس، إذ تضيع حسناته إن كانت له حسنات، الواحدة تلو الأخرى، بل ربما حط عليه من سيئات الآخرين إن لم تف حسناته بما عليه من مظالم وديون، وهذا ما لفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم الأنظار حين قال لأصحابه: " أتدرون ما المفلس؟ "، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له، ولا متاع، فقال: " إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار ". () 4 - سلب الأموال وانتهاك الأعراض وسفك الدماء: ومن آثار النميمة على العاملين أيضاً: سلب الأموال، وانتهاك الأعراض، وسفك الدماء، وقد مرت بنا قصة العبد النمام، وكيف حرض سيده على مولاته حتى قتلها، ثم قتل بأيدي أقاربها، واشتعلت الحرب بين الفريقين. ومن هذا الباب ما يقع لنفر من العاملين للإسلام على أيدي بعض الحكومات من انتهاك للأعراض، وسلب للأموال، وسفك للدماء، حيث تعمل الوشاية، والنميمة عملها في إشعال أوار هذه الحرب، ولو كان التثبت أو التبين لحقيقة ما يقوله هؤلاء النمامون والوشاة لما كان شيء من ذلك. 5 - التعرض لغضب الله وسخطه الموجبين للنار: وأخيرا فإن النميمة تنتهي بصاحبها إلى التعرض لغضب الله وسخطه الموجبين للنار، فضلا عن عقاب الدنيا، إذ يقول سبحانه: {ولا يحيق، المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا}، (فاطر: 43). وإذ يقول صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة نمام ". () ب - على العمل الإسلامي: ومن آثار النميمة على العمل الإسلامي: 1 - ا لفرقة والتمزق: وذلك أن سماع النميمة إذا لم يكن معه تقوى الله، يؤدي إلى سوء الظن، ثم التجسس وتتبع العورات، ثم الغيبة، ثم الخصومة، ثم التدابر والتقاطع، أو الفرقة والتمزق، الأمر الذي يكون سببا في ذهاب ريحنا وطمع الأعداء فينا، على النحو الذي نعيشه نحن المسلمين اليوم على كل المستويات الداخلية، والخارجية، الشعبية والقيادية، الفردية والجماعية، وصدق الله الذي يقول: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} (آل عمـران: 105). وقد حفظ لنا التاريخ الإسلامي من عصر النبوة إلى يومنا هذا صورا توضح هذا الأثر، وحسبنا منها ما ذكره ابن إسحاق، وغيره من كتاب السيرة النبوية: أن رجلا من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة، فبعث رجلا معه، وأمره أن يجلس بينهم، ويذكر لهم ما كان من حروبهم يوم بعاث، وتلك الحروب، ففعل، فلم يزل ذلك دأبه، حتى حميت نفوس القوم، وغضب بعضهم على بعض، وتغاوروا، ونادوا بشعارهم، وطلبوا أسلحتهم، وتواعدوا إلى الحرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاهم، فجعل يسكنهم ويقول: " أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم " وتلا عليهم هذه الآية: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النّار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (آل عمران: 103)، فندمـوا على ما كـان منهم، واصطـلـحوا وتعـانـقوا، وألقـوا السـلاح رضـي الله عنهم. () وحسبنا ما كان بين إمامين جليلين من أئمة المسلمين: الأول: الحافظ أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي، المعروف بابن حجر العسقلاني (ت 852 ه)، والآخر العلامة بدر الدين محمود بن أحمد المعروف بالعيني (ت 855 ه)، وكلاهما له شرح نفيس على صحيح البخاري، وقد كانا على صلة وثيقة، وصداقة وصحبه، وذهبا معا رفقة السلطان - في السفرة الحلبية - واستضاف العيني ابن حجر في بلدته عيتاب، فلبى الحافظ ذلك، وأخذ كل منهما عن الآخر، ثم سعى بينهما الوشاءون النمامون، فدب الخلاف بينهما، وتتبع كل منهما الآخر في كتبه ومؤلفاته، ودروسه واملاءاته، وأول ما بدأ الخلاف بينهما على ما يحكي المؤرخون أن اتفق أن المئذنة التي بنيت على البرج الشمالي بباب زويلة للجامع المؤيدي بمصر، قد مالت، وكان العجني يدرس بالجامع المؤيدي آنذاك، فرسم محضر بهدمها، فقال ابن حجر معرضا بالعيني: لجامع مولانا المؤيد رونـق منارته بالحسن تزهـو وبالزين أصيب بعين، قلت ذا غلط فليس على جسمي أضرمن العين فذكر بعض الجلساء للعيني أن ابن حجر عرض به، فغضب ورد عليه قائلا: مـنارة كعروس الحسن إذ جليت وهـدمها بقضاء الله والقــدر قالوا أصيبت بعين قلت ذا غلـط ما أوجب الهدم إلا خسة الحجر () ثم اتسع الخلاف بينهما، وإن كان ذلك لم يمنع كل واحد منهما من إنصاف الآخر والشهادة له بالفضل، ومتانة الدين، والكفاية العلمية، ولا سيما عندما يسأل أو يستشهد، وقاتل الله الوشاة النمامين. 2 - فتح الطريق أمام الناشئة وضعاف النفوس أن يقعوا في هذه ا لآفة: وأخيرا، فإن شيوع النميمة في الأمة يفتح الطريق أمام الناشئة، وضعاف النفوس أن يقعوا في هذه الآفة، وحينئذ تتسع أسباب الفرقة والتمزق، ويكون العذاب الأليم. خامسا: علاج النميمة: وما دمنا قد وقفنا على أسباب وبواعث النميمة، وأدركنا آثارها الضارة، وعواقبها الوخيمة، فإنه يسهل علينا أن نرسم طريق الوقاية، والعلاج، وتتلخص في الخطوات التالية: 1 - المبادرة بعدم تصديق النمام، بل زجره، وتخويفه الله والدار الآخرة، فإن ذلك مما يقطع الطريق على النمام، ولا يجعله يستمرئ أو يتمادى، ويوقن المسلم أن مثل هذه الخطوة من باب {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر} (لقمان:17). 2 - بغض النمام في الله بغضاً ينعكس على السلوك، وعلى طريقة المعاملة، فإن ذلك له أثر كبير في الإقلاع عن هذه الآفة، ولا سيما عند من لديهم بقية من خير أو ذرة من نور. 3 - تربية ملكة تقوى الله، ومراقبته في النفس، فإن هذه الملكة لها دور كبير في التخلص من العيوب والآفات ومن بينها النميمة، ثم التحلي بالفضائل والمنجيات. 4 - نقاء الوسط الذي يعيش فيه النمام، سواء أكان قريباً كالبيت، أم بعيدا كالمجتمع، فإن المرء ابن بيئته، وكم من أناس طهرت قلوبهم، وزكت جوارحهم واستقاموا على الطريق، بسبب عيشهم في وسط نقي نظيف. 5 - اليقين التام بأن ما عند الله لا ينال ل بالمعصية، والوقيعة أو الإفساد بين الناس، وإنما ينال بالطاعة والاستقامة: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشدّ تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما} (النساء: 66-68). 6 - دوام النظر في سيرة السلف، ومنهجهم في مقاومة النميمة ومعالجة النمامين، فإن ذلك له دور كبير في الاقتداء والتأسي، أو على الأقل المحاكاة والتشبه، وحينئذ يكون التخلص من النميمة. 7 - التذكير بعواقب النميمة والنمامين، سواء أكان ذلك على العاملين أم على العمل الإسلامي، وخير مذكر بذلك دوام النظر في كتاب الله - عز وجل - وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وواقع هذا الصنف من الناس. 8 - قيام أولي ا لأمر بواجبهم نحو النمامين، وذلك بزجرهم وتخويفهم، بل وتعزيرهم إن اقتضت المصلحة ذلك، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. 9 - مقاطعة النمام إن أصر على هذا الخلق الذميم، ولم تنفع معه الأساليب المتقدمة، وآخر الدواء الكي، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ".
مختارات