الآفة الثالثة عشرة - عدم التثبت أو التبين
والآفة الثالثة عشرة التي لا يكاد يسلم من شرها إلا من كان ذا صلة قوية متينة بربه وكان حصيفا: إنما هي عدم التثبت أو التبين وحتى يتحرر من ابتلوا بها ويتقيها من عافاهم الله عز وجل منها فلا بد من تقديم تصور دقيق عن أبعادها ومعالمها وذلك من خلال الجوانب التالية: أولاً: مفهوم عدم التثبت أو التبين: عدم التثبيت لغة: وحتى نفهم المرد بعدم التثبت أو التبين في اللغة فإننا فماذا يراد من كل منهما لغة؟ يطلق التثبت في اللغة على أمور منها: (أ) طلب ما يكون به الثبات على الأمر أي لزومه وعدم التحول عنه أو تجاوزه إلى غيره وبعباره أحرى طلب الدليل الموصل إلى الثبات على الأمر. (ب) والتأكيد من حقيقة ما يعين على الثبات في الأمر وبعبارة أخرى فحص الدليل الوصل إلى الثبات في الأمر تقول: (أثبت الأمر: حققه صححه وأثبت الكتاب سجله واثبت الحق أقام حجته واثبت الشيء عرفه حق المعرفة). (ج)والتأني أو التريث وعدم الاستعجال تقول تثبت في الأمر والرأي استثبت: تأنى فيه ولم يعجل واستثبت في أمره: إذا شاور وفحص عنه). وكذلك التبين يطلق في اللغة على النفس المعني التي يطلق عليها التثبت فهو: (أ) طلب ما يستبين به الأمر وتنكشف حاله تقول: (تبين الشيء أي تأمله حتى اتضح). (ب) وهو التأكيد من حقيقة ما يستبين به الأمر ونتكشف حاله تقول: (تبين الشيء ظهر واتضح).(واستبنت الشيء: إذا تأملته حتى تبين لك). (ج) وهو التأني أو التريث في لأمر وعدم الاستعجال فيه تقول (تبين القوم تدبروه على مهل غير متعجلين ليظهر لهم جليا) وتبين في أمره تثبت وتأنى). ويؤكد أن التثبت والتبين معناهما واحد لغة: استعمال القرآن الكريم، فقد جاء في قوله تعالى { يا أيها الذين إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا } { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } أن أكثر الكوفيين يقرأون الآية الأولى وكذلك عامة أهل المدينة يقرأون الآية الثانية (فتثبتوا) بدل (فتبينوا)، وفي هذا يقول الإمام ابن جرير الطبري رحمة الله: (والقول عندنا في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراءة المسلمين بمعنى واحد وإن اختلفت بهما الألفاظ لأن المتثبت متبين والمتين متثبت فبأي القراءتين قرأ القارئ فمصيب صواب القراءة في ذلك، كما يقول في موضع آخر (والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى فبأيتهما قر القارئ فمصيب)، ونستطيع أن نقول إن هذه الإطلاقات واحد ألا وهو التأني أو التريث في الأمر وعدم الاستعجال فيه فإن ذلك مطلوب دليله بل وفي فحص وتأمل هذا الدليل وحيث انتهينا من تحديد المراد بالتثبت أو التبين لغة فإننا نقول: إن عدم لتثبت أو التبين لغة يعنى (السرعة في الحكم على الشيء دون طلب دليله ودون تأمل هذا الدليل). عدم التثبت اصطلاحا: أما عدم التثبت أو التبين في الاصطلاح الإسلامي والدعوى فهو: السرعة أو عدم التأني والتريث في كل ما يمس المسلمين بل الناس جميعا من أحكام أو تصورات ومن تناقل وتداول لهذه الأحكام وتلك التصورات دون فهم دقيق للواقع وما يحيط به من ظروف وملابسات. وإلى هذا أشار القرآن الكريم في تعليقه على حادثة الإفك حين قال: { إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم }لأن من المعلوم بداهة أن التلقي إنما يكون بالأذن ثم يعرض على العقل والقلب وحينئذ يكون الكلام باللسان فإنما هي لفتة إلى السرعة وعدم التأني أو التروي في إصرار الحكم بل في تداوله والتحرك به كأن الإفك عندما وقع من ابن سلول صمت الآذان وسترت العقول وغلفت القلوب فلم يبق إلا أن لاكته الألسن وتحركت به الشفاه دون فهم للواقع ودون معرفة بالظروف والملابسات ولقد صوّر صاحب الظلال - رحمه الله - ذلك تصويرا بديعا حين قال: " وهي صور فيها الخفّة والاستهتار، وقلّة الحرج، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمـام:)إذ تلقّونه بألسنتكم(لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبر ولا تروّ، ولا فحص ولا إمعان نظر، حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبّره القلـوب،{وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم}، بأفواهكم لا بوعيكم، ولا بعقلكم، ولا بقلبكم، إنّما هي كلمات تقذف بها الأفواه قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقاها العقول... " ثانيا: أسباب عدم التثبت أو التبين: وهناك أسباب أو بواعث تؤدى إلى عدم التثبت أو التبيّن، نذكر منها: 1 - النشأة الأولى: فقد ينشأ المرء بين أبوين سمتهما عدم التثبت أو التبين، وحينئذ يسرى ذلك إلى نفسه، فإذا به صورة منهما، وهنا يتجلّى دور التزام الآباء بأخلاق وآداب الإسلام، أجل. إن ذلك لو روعي لجنب الآباء أبناءهم كثيرا من الانحرافات، دون الحاجة إلى خطب أو مواعظ. 2 - الصحبة العارية من هذا الخلق الإسلامي: وقد يعيش المرء في وسط غير ملتزم بهذا الخلق الإسلامي، فإذا به يحاكى،ويتأسى، لا سيما إذا كان ضعيف الشخصية غير واثق من نفسه، ومن تصرفاته وسلوكه، وهنا يأتي دور الارتماء بين أحضان الصحبة الطيبة الملتزمة بالمنهاج الإسلامي. إن هذا لو وقع، لصَحَتْ الأعصاب، ولتنبّهت المشاعر والأحاسيس والجوارح. (3) الغفلة أو النسيان: وقد تؤدى الغفلة أو النسيان بالإنسان إلى عدم التثبت أو التبين وحينئذ يجب أن يتعلم من ذلك درسا لا ينساه على مدار الزمان فلا يتكرر منه هذا الخطأ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون). (4) الاغترار ببريق الألفاظ: وقد يقرع أذن المرء طائفة من الألفاظ المعسولة والعبارات الخلابة وإذا به يغتر بما لهذه الألفاظ وتلك العبارات من بريق وزخرف وحينئذ يكون منه عدم التثبت أو التبين وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى هذا السبب حين قال: (إنكم تختصمون إلى ولعلل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها). (5) الجهل بأساليب أو طرق التثبت أو التبين: وقد يحمل بأساليب أو طرق التثبت أو التبين إلى السرعة في الحكم وتداوله هنا وهناك ذلك أن للتثبت أو للتبين أساليب أو طرقا كثيرة توصل إليه من بينها: # الرد إلى الله والرسول وذوى الرأي والحجا كما قال سبحانه { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } # السؤال أو المناقشة لصاحب الشأن وخير ما يوضح ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم من حاطب بن أبى بلتعة لما كتب إلى أهل مكة يخبرهم بغزو النبي صلى اله عليه وسلم لهم وأطلع الله عز وجل نبيه على الكتاب وجئ به إليه صلى الله عليه وسلم إذ دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وسأله قبل أن يقضى في أمره قائلا: (يا حاطب ما هذا؟ فقال: يا رسول الله لا تعجل على إني كنت امرءا ملصقا من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهلهم وأموالهم فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فعذره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أما إنه قد صدقكم) ولما استأذن عمر في ضرب عنقه قائلا: (وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). - الإصغاء الجيد بل و المراجعة إذا لزم الأمر أو أشكل الأمر، فهذا علىّ- رضى الله عنه - يعطيه الرسول صلى الله عليه وسلم الراية يوم خيبر ثم يقول له: " اذهب فقاتل حتى يفتح الله عليك ولا تلتفت " ويشعر علىّ رضى الله عنه - بعد مضيه لأداء مهمته أن التكليف الذي كلف به غير واضح في ذهنه فيعود بظهره امتثالاً للأمر ويسأل النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً:: علام أقاتل الناس؟ فيرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ". - التجربة و الملاحظة من خلال المعايشة و المصاحبة، فهذا عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - يثنى رجل على آخر في مجلسه فيقول عمر للرجل الذي أثنى: هل صحبته في سفر قط؟ يقول: لا، فيقول له: هل كانت بينك وبينه معاملة في حق؟ يقول: لا، فيقول له: " اسكت فلا أرى لك علماً به، أظنك - والله - رايته في المسجد يخفض رأسه ويرفعه ". - الجمع بين كل الأطراف مع المواجهة، لاسيما في الأمور التي لا يجوز فيها التغاضي أو السكوت، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم عليَّاً لما بعثه قاضياً إلى أهل اليمن، أسلوب التثبت في القضاء قائلاً له: " إن الله سيهدى قلبك، ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء ". - السماع من صاحب الشأن أكثر من مرة، وعلى فترات متباعدة مع المقابلة و الموازنة فها هي أم المؤمنين عائشة - رضى الله تعالى عنها - يبلغها عن عبد الله بن عمرو، أنه قادم من مصر للحج، فتقول لابن أختها عروة بن الزبير، يا ابن أختي بلغني أن عبد الله لن عمرو مار بنا إلى الحج فالقه فسائله، فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علماً كثيراً قال، فلقيته فسائلته عن أشياء يذكرها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال عروة: فكان فيما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لا ينزع العلم من الناس انتزاعاً، ولكن يقبض العلماء فيرتفع العلم معهم ويبقى في الناس رؤساء جهالاً يفتونهم بغير علم فيَضلون ويُضلون " قال عروة فلما حدَّثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته قالت: أحدثك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال عروة: حتى إذا كان قابل قالت له: إن ابن عمرو قد قدم فالقه ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم، قال: فلقيته فسائلته، فذكر لي نحو ما حدثني به في مرته الأولى، قال عروة: فلما أخبرتها بذلك قالت: ما أحسبه إلا قد صدق، أراه لم يزد فيه شيئاً ولم ينقص ". هذه الطرق أو الأساليب وغيرها كثيرة قد يجهلها كثير من الناس وحينئذٍ يتناولون الأمر بغير تثبيت ولا تبين. 6- الحماس أو العاطفة الإسلامية الجياشة المتأججة: وقد يؤدى الحماس أو العاطفة الإسلامية الجياشة المتأججة إلى عدم التثبت أو التبين، ذلك أن هذا الحماس أو هذه العاطفة ما لم تكن موزونة بميزان الشرع، ومحكومة بلجام العقل، فإنها تسلب صاحبها الإدراك، وإذا به يخطئ كثيراً ويضيع في بيداء هذه الحياة. ويمكن أن نستشف هذا السبب من حديث أسامة بن زيد التالي إذ يقول:بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقن أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ قلت: كان متعوذاً، فما زال يكررها حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم ". أجل لقد كان الحامل لأسامة على قتل الرجل مع نطقه بلا إله إلا الله تلك التي تعصم الدم إلا بحقها إنما هو الحماس أو العاطفة الإسلامية الجياشة التي انطوى عليها قلب أسامة بن زيد - رضى الله عنه - بحيث حالت بينه وبين الاقتناع بما صدر عن الرجل من الإسلام، و النطق بالشهادة واتهمه بأنه يظهر خلاف ما يبطن ناسياً أن الله وحده هو المطلع على ما تكنه القلوب، وتخفيه الصدور { قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله }، { وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون } { والله يعلم ما في قلوبكم }، { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور }. 7- التعلق بعرض زائل من الدنيا: وقد يكون التعلق بعرض زائل من أعراض هذه الحياة الدنيا هو الحامل على عدم التثبت أو التبين، وذلك أن حب الشيء يعمى ويصم، ويحول بين الإنسان وبين استطلاع الموقف وتبين الحقيقة ولعل هذا السبب هو المشار إليه في قوله سبحانه:{ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة }. 8 - الغفلة عن العواقب والآثار المترتبة على عدم التثبت أو التبين: وأخيرا، قد تؤدى الغفلة عن العواقب والآثار المترتبة على عدم الالتزام بهذا ا الخلق الإسلامي إلى السرعة، أو العجلة في الأمر، وعدم التريث أو التأني، فان من غفل عن عاقبة أمر ما، وقع فيه لا محالة إلا من عصم الله - عز وجل. ثالثاً: مظاهر عدم التثبت والتبين: ولعدم التثبت أو التبين مظاهر تدل عليه وأمارات يعرف بها نذكر منها: (1) معاداة كثير من الأفراد والهيئات العاملة للإسلام استجابة لحملات التشويش والدعاية المغرضة دون مخالصة هؤلاء ومعرفة أحوالهم وأخلاقهم عن قرب ومشاهدة. (2) التركيز على المظهر والشكل مع إهمال المخبر والجوهر فإن كثيرا من الهيئات العاملة للإسلام تهتم كثيرا بالمظهر والشكل من اللحية والسواك وقصر الجلباب وإرخاء العذبة وحمل العصا والعمامة مع الإهمال التام للمخبر والجوهر الأمر الذي يجعلهم لا يميزون بين الصالح والطالح وبين الصادق والكاذب ولا يفهم ذلك أنه استهانة أو تحقير لتلك الأشياء، فقد وردت بذلك أحاديث تتفاوت صحة وضعفا وليس هنا مجال تحقيقها الآن ولكننا نريد من المسلم أن يكون لديه ترتيب الأولويات وتقديرا لمخبر الإنسان وجوهره وإن قصر في بعض الشكليات فإن ذلك لا يضره. (3) عدم التماس المعاذير وعدم السماع للحجج والآراء برغم أنه لا عقبات ولا صعوبات في حياة الناس. (4) المبادرة بالتفوه، والرأي، لمجرد السماع والتلقي أو لمجرد الرؤية والمشاهدة. (5) المبادرة بالتنفيذ لمجرد صدور التكليف دون إحاطة تامة بكل ظروفه وملابساته ودون معرفة دقيقة بمن له حق التكليف والإلزام. رابعاً: آثار عدم التثبت أو التبين: ولعدم التثبت أو التبين آثار سيئة وعواقب وخيمة سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي ودونك طرفا من هذه الآثار. * آثار عدم التثبت على العاملين: فمن آثار عدم التثبت أو التبين على العاملين: (1) اتهام الأبرياء من الناس زورا وبهتانا: فقد اتهمت أم المؤمنين عائشة زورا وبهتانا بما لم يقع منها في الجاهلية فكيف بعد إذ أعزها الله بالإسلام وصارت زوجة لإمام المسلمين وأفضل النبيين ورسول الله للعالمين الأمر الذي أقلقها وأقلق أبويها ورسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها والمسلمين جميعا شهراً كاملاً حتى نزلت البراءة بشأنها من فوق سبع سموات. وكان السبب هذا الاتهام هو عدم التثبت أو التبين حتى قال الله لهم:{ لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون }. وحسب العامل هذا الأثر إذ هو مجلبة للشر والإثم - والعياذ بالله - كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيار عباد الله الذين إذا رُءوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب).؟ (2) سفك الدماء وسلب الأموال: فقد قَتل أسامة بن زيد رضى الله تعالى عنه أو غيره نفراً من الناس وسلب ماله بغير تثبت ولا تبين وفيه وفي أمثاله نزل قوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة.......}. (3) - الحسرة والندم: فإن بعض الصحابة الذين خاضوا في الإفك وطاروا من غير تثبت ولا تبين من أمثال حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثه وغيرهما وكذلك الذين قتلوا الرجل وأخذوا ماله بعد أن أسلم وشهد أن لا إله إلا هو من مثل أسامة بين زيد - رضى الله تعالى عنه - كل أولئك أصابتهم الحسرة وعمهم الندم لما نزل الوحي من السماء يكشف الموقف ويضع النقاط على الحروف وتمنوا أن لم يكونوا أسلموا قبل ذلك اليوم بل ظلت الحسرة والندامة شبحا مخيفا يلاحقهم حتى لقوا ربهم. ولعل هذا الأثر هو ما يشير إليه قوله تعالى في قصة الوليد بن عقبة بن أبي معيط مع بني المصطلق الواردة في سورة الحجرات: {...... فتصبحوا على ما فعلتم نادمين.....}. (4) فقد ثقة الناس مع النفور والكراهية: فمن عرف عنه العجلة في الرأي والحكم أو عدم التثبت أو التبين ينظر إليه الناس على أنه أرعن أحمق ومثل هذا يسحب الناس ثقتهم منه بل وينفرون منه ويكرهونه بشدة وإذا ذهبت الثقة وكان النفور والكراهية لم يعد في يد المسلم ما يكسب به الأنصار أو المؤيدين. (5) التعرض للغضب الإلهي: فمن تجرد من التثبت أو التبين كثرت أخطاؤه وتضاعفت عثراته من ثم يستوجب غضب الله وسخطه ومن حل عليه غضب الله وسخطه فقد ضاع دنيا وآخرة وخسر خسرانا مبينا وصدق الله:{ ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى }. * آثار عدم التثبت على العمل الإسلامي: ومن آثاره على العمل الإسلامي: (1) خلل أو اضطراب الصف: فإن عدم التثبت أو التبين من شأنه أن يؤدى إلى خلل أو اضطراب في الصف على نحو ما صوره صاحب الظلال - رحمه الله - إذ يقول: " كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته، ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة قد تحدث إشاعة الخوف فيه خلخلة وارتباكاً، وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف وقد تكون كذلك القاضية ". وعلى نحو ما وقع بين الأنصار بين أوسهم وخزرجهم حين استمعوا إلى هذا الدخيل الذي بثه بينهم أحد اليهود في ساعات الصفاء، و الحب في الله ليذكرهم بيوم بعاث، وثاراتهم القديمة، لقد تنادوا قائلين: السلاح السلاح موعدكم الظاهرة (أي الحرة) وخرجوا إليها وانضمت الأوس بعضها إلى بعض، و الخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، ولولا رحمة الله ولطفه بهم، ثم خروج الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم وتذكيرهم بنعمة الله عليهم وهدايته لهم بعد الكفر و الضلالة قائلاً: " يا معشر المسلمين: الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر، وألف بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً، لولا ذلك لعادوا- كما كانوا في الجاهلية -شيعاً وأحزاباً. وعلى نحو ما وقع للحركة لإسلامية في مصر في الخمسينات حيث استمع نفر من أبنائها لوشايات الواشين وافتراءات المغرضين، وأراجيف المبطلين دون تثبت أو تبين، الأمر الذي أدى إلى خلل في الصفوف لبعض الوقت، وكاد يعصف بهذه الحركة لولا لطف الله ورحمته، وعنايته وتثبيته لبعض الصادقين المخلصين من أبنائها. 2- الفتور أو التراخي في العمل: فإن عدم الالتزام بالتثبت أو التبين من شأنه أن يؤدى إلى الفتور أو التراخي في العمل مباشرة، أو بعد سلسلة من المكدرات و المنغصات كما يصوره صاحب الظلال إذ يقول: ".... فإن إشاعة أمر الأمن مثلاً في معسكر متأهب مستيقظ متوقع لحركة العدو، إشاعة أمر الأمن في هذا المعسكر تحدث نوعاً من التراخي مهما تكن الأوامر باليقظة النابعة من التحفز للخطر، غير اليقظة النابعة من مجرد الأوامر، وفي ذلك التراخي تكون القاضية. 3- إفساح المجال للأدعياء و الدخلاء: فإن عدم الالتزام بهذا الخلق الإسلامي جعل أكثر الجمعيات و الجماعات العاملة للإسلام مخترقاً ومكشوفاً من قبل الأدعياء و الدخلاء وهذا فيه من الخطورة ما فيه، حسبنا أن هذه الجمعيات و الجماعات يكاد لها بواسطة هؤلاء الأدعياء و الدخلاء، و المنشئون أو المؤسسون الحقيقيون لها، نائمون غافلون لا يدرون من أمرها شيئاً. 4- خسارة بعض الأنصار و المؤيدين: وقد يخسر العمل الإسلامي بسبب عدم التثبت أو التبين بعض الأنصار و المؤيدين، وربما انقلبوا رأس حربة على العمل الإسلامي و العاملين لدين الله، بعد أن كانوا مرجوا منهم أنهم مساندون أو مؤيدون. 5- الانطلاق من الخيال لا من الواقع: فإن من كان من شأنهم عدم التثبت أو التبين سينقلون الأمور على غير وجهها ويحكون الواقع بصورة غير صورته الحقيقية التي هو عليها، وعليه فإذا كانت خطة أو منهاج أو رأى فإنما يكون مصدره أو منبعه الخيال لا الواقع، وتلك أولى عوامل الفشل و الخسران. 6- الحرمان من العون و التأييد الإلهي: فإن عدم الالتزام بهذا الخلق... أعنى التثبت أو التبين... سيؤدى إلى دخن في القلوب وغل في الصدور، فضلاً عن باقي الآثار و السلبيات التي ذكرنا آنفاً، وهذا بدوره يؤدى إلى الحرمان من العون و التأييد الإلهي، إذ أنه عونه - سبحانه - وتوفيقه وهدايته لنا ذلك كله مقرون باستقامتنا وثباتنا في الطريق { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم }،{ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون }. خامساً: علاج عدم التثبت أو التبين: وما دمنا قد وقفنا على أبعاد ومعالم عدم التثبت أو التبين على النحو الذي قدمنا، فإن علينا أن نعرف سبيل العلاج وتتلخص في الأخذ بالوسائل التالية: 1- تقوية ملكة التقوى و المراقبة لله - سبحانه وتعالى -: فإن هذه إن تأكدت في النفس، فسوف تحمل صاحبها حملاً على التأني و التروي والإنصاف، ونقل الحقيقة كما هي دون زيادة أو نقص، بل ستكون سبباً في نور القلب، ونفاذ البصيرة كما قال سبحانه { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً } ولعلنا نلمح هذه الوسيلة العلاجية من قوله صلى الله عليه وسلم: " التثبت من الله و العجلة من الشيطان ". 2- التذكير بين يدي الله - سبحانه وتعالى - للمساءلة و الجزاء: { وقفوهم إنهم مسئولون }، { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون }، { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً }، { إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى }. فإن هذا إن تمكن من النفس، وخالط القلب، فإنه سيقود حتماً إلى التأني أو التروي. 3- معايشة الكتاب و السنة، من خلال هذه النصوص المتصلة بقضية التثبت أو التبين، كما في آيات " النساء ": { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به... }، وآيات الإفك في سورة النور، وآيات سورة الحجرات، { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا... }، وآيات سورة " ص " داود مع الخصمين:{ وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب } وآيات سورة " النمل " سليمان مع الهدهد إذ قال له { سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين }. فإن هذه النصوص جميعاً مدعاة إلى تربية ملكة التثبت أو التبين في النفس. 4- دوام النظر في سير وأخبار السلف فإنها طافحة بالنماذج الحية التي تجسد هذا التثبت،وتجعله ماثلاً أمامنا كالعيان وحسبنا من هذه السير وتلك الأخبار: قصة عمر بن الخطاب مع سعيد بن عامر الجمحى واليه على حمص إذ قدر الله لعمر أن يزور هذه البلدة، ويسأل أهلها كيف وجدتم عاملكم؟ فيشكونه له، وكان يقال لأهل حمص: الكوفية الصغرى لشكايتهم عمالهم قائلين: نشكو أربعاً: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: أعظم بهذا، وماذا؟ قالوا: لا يجيب أحد بليل، قال وعظيمة وماذا؟ قالوا وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا، قال عظيمة، وماذا؟ قالوا يغنط الغنطة بين الأيام (أي يغمى عليه ويغيب عن حسه) فلم يفصل عمر في الأمر، إلا بعد أن جمع بينهم وبينه ودعا ربه قائلا: (اللهم لا تفيل رأيي فيه) وكان عمر حسن الظن به وبدأت المحاكمة فقال عمر لهم أمامه: ما تشكون منه؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار قال: ما تقول؟ قال: والله إن كنت لأكره ذكره: ليس لأهلي خادم فأعجن عجيني ثم أجلس حتى يختمر ثم أخبز خبزي ثم أتوضأ ثم أخرج إليهم فقال: ما تشكون منه؟ قالوا: لا يجيب أحدا بليل قال: ما تقول؟ قال: إن كنت لأكره ذكره: إني جعلت النهار لهم والليل لله عز وجل قال: وما تقول؟ قال: ليس لي خادم يغسل ثيابي ولا لي ثياب أبدلها فأجلس حتى تجف ثم أدلكها ثم أخرج إليهم من آخر النهار قال: ما تشكون منه؟ قالوا: يغنط الغنطة بين الأيام قال:ما تقول؟ قال: شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة وقد بضعت قريش من لحمه ثم حملوه على جذعة فقالوا: أتحب أن محمدا مكانك؟ فقال: والله ما أحب أنى في أهلي وولدي وأن محمدا صلى الله عليه وسلم شيك بشوكة، ثم نادى يا محمد فما ذكرت ذلك اليوم وتركي نصرته في تلك الحال وأنا مشرك لا أومن بالله العظيم إلا ظننت أن الله عز وجل لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً فتصيبني تلك الغنطة فقال عمر بعد أن أظهر براءته أمامهم الحمد لله الذي لم يفيل فراستي وبعث إليه بألف دينار وقال: استعن بها على أمرك ففرقها). وقصة الوزير أبى القاسم بن مسلمة أحد وزراء بنى العباس مع اليهود الخيابرة في القرن الخامس الهجري إذ رفع إليه هؤلاء اليهود كتابا زاعمين أنه كتاب نبوي فيه إسقاط الجزية عنهم فلم يبادر بالفصل في المسألة دون تثبت أو تبين وإنما رد الأمر إلى أهله، لقد دفع الكتاب إلى الحافظ الخطيب البغدادي ت 463هـ شيخ علماء بغداد ومؤرخها ومحدثها في عصره فنظر فيه ثم قال:هذا كذب فسأله الوزير: وما الدليل على كذبه؟ فقال لأن فيه شهادة معاوية بن أبى سفيان ولم يكن أسلم يوم خيبر وقد كانت خيبر في سنة سبع من الهجرة وإنما أسلم معاوية يوم الفتح وفيه شهادة سعد بن معاذ وقد مات قبل خبر عام الخندق سنة خمس فأعجب الناس ذلك وتوقف الوزير عن العمل بالكتاب. أرأيت لو أن هذا الوزير استعجل ونفذ ما في الكتاب من غير أن يرد الأمر إلى أهله فماذا تكون النتيجة؟ إن النتيجة هي تعطيل نص صريح من كتاب الله عز وجل بغير دليل ولا برهان إذ يقول الحق سبحانه { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون }5- التربية على ذلك من خلال الأحداث والوقائع على نحو ما جاء في: قصة أسامة بن زيد مع الجهنى في سورة النساء وعلى نحو ما جاء في: حادثة الإفك في سورة النور وعلى نحو ما جاء في قصة داود مع الخصمين في سورة النمل وعلى نحو ما جاء في: قصة الوليد بن عقبة مع بنى المصطلق في سورة (الحجرات)فإن هذا اللون من التربية يثبت في النفس ولا ينسى نظرا لارتباطه بالحدث أو بالقصة. 6- التذكير بقواعد ومعالم وطرق التثبت أو التبين فإن الإنسان مجبول على النسيان وعلاج هذا النسيان دوام التذكير: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين }.{ فذكر إن نفعت الذكرى }. 7- تقدير العواقب المترتبة على ترك التثبت أو التبين في الدنيا والآخرة فإن هذا التقدير من شأنه أن يبعث الإنسان من داخله ويحمله على التروي أو التأني أو التريث. 8- معايشة أو مخالطة من اشتهروا بخلق التثبت أو التبين فإن هذا يفيد الإنسان كثيرا ويدعوه إلى محاكاتهم والنسج على منوالهم لتقل العثرات وتسلم الخطوات. 9- الحكمة في التعامل مع الناس فلا تخدعنا الظواهر والأشكال والصور ولا نبالغ في البحث والتفتيش عن البواطن وخفايا الصدور وإنما ندع الواقع ليحدد كيفية وأسلوب التعامل. 10- محاولة الإفادة من مناهج أهل الأرض بشأن هذا الخلق..أعنى التثبت أو التبين شريطة ألا يتعارض ذلك مع الإسلام فإن لدى هؤلاء رصيداً لو أمكن استغلاله وتوجيهه التوجيه السليم لعاد على الإسلام والمسلمين بالخير الكثير. 11- أن يتصور المسلم نفسه في موطن من يؤخذ بغير تثبت أو تبين فإن ذلك يحمله على تعديل خطواته في الطريق إذ مالا يرضاه لنفسه لا يرضاه لغيره. 12- التعويد على إحسان الظن بالمسلمين إلا أن يقع منهم ما يوجب غير هذا: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا }.
مختارات