الآفة الرابعة - العزلة
و الآفة الرابعة التي يصاب بها بعض العاملين، وعليهم أن يعملوا جاهدين على التطهر منها: إنما هي العزلة أو التفرد، ولكي يكون لدينا إلمام دقيق بأبعاد ومعالم هذه الآفة سنتناولها على النحو التالي: أولاً: معنى العزلة أو التفرد: لغة: العزلة أو التفرد في اللغة تعنى الابتعاد أو التنحي جانباً، قال صاحب لسان العرب: (عزل الشيء يعزله عزلاً، وعزّله فاعتزل وانعزل وتعزّل: نحَّاه جانباً فتنحى، وقوله تعالى:{ إنهم عن السمع لمعزولون } معناه: أنهم لما رموا بالنجوم - كما في قوله تعالى { وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً } منعوا من السمع). اصطلاحاً: أما في اصطلاح الدعاة فيراد بها إيثار حياة التفرد على حياة الجماعة، وذلك بأن يكتفي العامل بإقامة الإسلام في نفسه، غير مبال بالآخرين، وبما هم فيه من ضياع وهلكة، أو أن يقيم الإسلام في نفسه، ويسعى جاهداً لإقامته في الناس، ولكن بجهود فردية بعيدة عن التعاون و التآزر من بقية العاملين في الميدان. ثانياً: أسباب العزلة أو التفرد: وهناك أسباب تؤدى إلى هذه العزلة أو التفرد نذكر منها: 1- الوقوف عند بعض النصوص الشرعية المرغبة في العزلة، مع الغفلة عن موقعها من النصوص الأخرى الداعية إلى حياة الجماعة: فقد جاءت بعض النصوص الشرعية مادحة للعزلة، ومرغبة فيها كقوله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال، ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن) وكإجابته للذي سأل: أي الناس أفضل؟ قائلاً: (رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه، قال: ثم من؟ قال: مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ربه ويدع الناس من شره) وكقوله في حديث حذيفة بن اليمان: (.. فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك) وكقوله: (من خير معاش الناس لهم: رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه، يبتغى القتل و الموت مظانة أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف، أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتى الزكاة، ويعبد ربه، حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير) وكذلك جاءت بعض النصوص الشرعية الأخرى داعية إلى السير تحت لواء الجماعة، و العيش في كنفها كقوله تعالى: { وتعاونوا على البر و التقوى، ولا تعاونوا على الإثم و العدوان } { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا... } { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص } وكقوله صلى الله عليه وسلم: (... إياكم و الفرقة، وعليكم بالجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة) (.... وأنا آمركم بخمس: الله أمرني بهن: بالجماعة و السمع و الطاعة و الهجرة و الجهاد في سبيل الله، فإن من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلى أن يرجع، قالوا: يا رسول الله وإن صلى وصام؟ قال: وإن صام و صلى وزعم أنه مسلم) (يد الله مع الجماعة) و العامل الذي يقف عند النصوص الأولي المرغبة في العزلة ناسياً أو متناسياً صلتها بالنصوص الأخرى الداعية إلى مخاطبة الجماعة، و العيش في رحابها، يبتلى أو يصاب لا محالة بآفة العزلة أو التفرد. 2- الوقوف عند ظاهرة العزلة التي أثرت عن بعض السلف مع الغفلة عن الظروف التي دعت إلى ذلك: وقد يكون الحامل على العزلة ما أثر عن بعض السلف: أنهم آثروا العزلة على مخالطة الجماعة، ومعايشتها، فها هو نبي الله إبراهيم - عليه السلام - يقول لقومه كما حكى القرآن الكريم: { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله... } وقد كان الحامل له على ذلك استنفاذ وسائل التغيير والإصلاح، ثم إصرار قومه على الكفر، الأمر الذي خشي معه الفتنة في الدين، ففر منهم واعتزلهم. وها هو أبو ذر، وابن عمر، ومعهما جمع من الصحابة يعتزلون جماعة المسلمين، ويعيشون وحدهم لما وقعت الفتنة، وقد كان الباعث لهم على ذلك، صيانة أيديهم أن تغمس في دماء زاكية، طهرها الله - عز وجل - ولا يعرف: من المصيب ومن غير المصيب. وهذا هو الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، يقضى أخريات أيام حياته في عزلة بعيداً عن الناس، وقد كان عذره، تجنب مصادمة السلطات حقناً لدماء المسلمين. وإن العامل الذي يقرا عن هذه العزلة، التي عاشها هؤلاء وينسى ظروفها وملابساتها يتولد في نفسه معنى الإقتداء و التأسي، أو على الأقل المحاكاة و التشبه، فيلجأ إلى حياة العزلة، بعيداً عن جو الجماعة حتى وإن لم يكن لهذه العزلة ما يبررها وما يدعو غليها. 3- الظن أن حياة الجماعة تلغى دائماً ذاتية المنتمى إليها، وتؤثر على شخصيته مع الغفلة عن منهج الإسلام في التوفيق بين الفردية والجماعة: وقد يكون الحامل على العزلة ظن بعض العاملين أنه يعيش مع الجماعة وانتمائه إليها يلغى ذاتيته، وتذوب شخصيته فيبقى إمعة، إن أحسن الناس أحسن، وإن أساءوا أساء، مع الغفلة عن منهج الإسلام في التوفيق بين الفردية و الجماعية، إذ يقول هذا المنهج على دعوة الفرد إلى أن يعيش في كنف الجماعة، ويستظل بظلها على النحو الذي قدمنا في الوقت الذي يؤكد فيه أنه مسئول مسئولية كاملة عن كل تصرف يقع منه فيقول له: { ولا تزر وازرة وزر أخرى } { كل نفس بما كسبت رهينة } { لا تجزى نفس عن نفس شيئاً } { بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره } { وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى } وأن عليه أن يبذل النصيحة بشروطها وآدابها لكل واحد في الجماعة مهما علا كعبه، ومهما عظمت مكانته (الدين النصيحة قلنا لمن؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) (المؤمن مرآة أخيه و المؤمن أخو المؤمن يكف عن ضيعته ويحوطه من ورائه) وفي رواية: (المؤمن مرآة أخيه إن رأي فيه عيباً قومه). ولقد عاش الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم وعاش المسلمون بعضهم مع بعض فما رأينا فرداً ذابت شخصيته أو تلاشت فرديته في الجماعة وإنما رأينا النصيحة و الشورى والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، وما قول بعضهم لعمر: (لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا) عنا ببعيد. وبهذه الدعوة ينشأ ويبنى في نفس المسلم كيان داخلي متميز واضح المعالم و الحدود، وتبقى أعصابه صاحية منتبهة لكل ما يمسه، ولو من بعيد. إن هذا الظن، وهذه الغفلة ينتهيان بالعامل لا محالة إلى أن يلجأ إلى العزلة، فيصاب بآفة من أخطر الآفات. 4- الغفلة عن طبيعة تكاليف مخالطة الجماعة و العيش بين الناس: وقد يكون الحامل على العزلة الغفلة عن طبيعة تكاليف مخالطة الجماعة و العيش بين الناس، إذ أن طبيعة هذه التكاليف: أنها كثيرة ضخمة، تستوعب حياة الإنسان من أول يوم إلى آخر يوم، وقد لا تنتهي، وغالباً ما تكون على خلاف ما تهوى الأنفس، وما لم يكن العامل منتبهاً إلى ذلك، فإنه يعمل نفسه من التزكية و التربية، و المجاهدة وتسيطر عليه الأهواء و الشهوات وبمرور الأيام يضعف ويعجز عن القيام بهذه التكاليف، وحينئذٍ يبحث عن مخرج أو ملجأ فلا يجد سوى العزلة أو التفرد 5- التذرع بأن مخالطة الناس تشغل عن التفرغ للعبادة مع الغفلة عن المفهوم الصحيح للعبادة: وقد يكون الحامل على العزلة التذرع بأن مخالطة الناس تشغل عن التفرغ للعبادة من صلاة إلى صيام إلى قراءة القرآن إلى ذكر إلى دعاء، إلى استغفار إلى تفكر.... الخ مع الغفلة عن المفهوم الصحيح للعبادة، إذ المفهوم الصحيح للعبادة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من القوال والأعمال الظاهرة و الباطنة، فالصلاة و الزكاة و الصيام و الحج عبادة، و الدعاء والاستغفار و الذكر وتلاوة القرآن عبادة، وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام عبادة و الوفاء بالعهود عبادة و الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الجهاد للكفار و المنافقين عبادة، والإحسان للجار و اليتيم و المسكين وابن السبيل و الخادم و الرحمة بالضعيف و الرفق بالحيوان عبادة، وكذلك حب اله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، و الصبر لحكمه و الرضا بقضائه و التوكل عليه و الرجاء في رحمته و الخوف من عذابه وأمثال ذلك كله عبادة)... و القرآن الكريم و السنة النبوية يصدقان هذا المفهوم الذي قاله شيخ الإسلام. على أن مخالطة الناس لا تمنع أن يكون للمسلم أوقات يخلو فيها بنفسه ليؤدى واجباً، أو يتقرب إلى الله بنفل أو يحفظ علماً، أو يحقق مسألة، أو يتلو قرآناً، أو يذكر ويتفكر، أو يحاسب نفسه، وذلك هو معنى قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه: (خذوا حظكم من العزلة) كأن غياب المفهوم الصحيح للعبادة عن بال المسلم العامل، وحصره العبادة في دائرة الشعائر التعبدية، متوهماً أن حياة الجماعة تحول بينه وبين التفرغ الكامل لأداء هذه الشعائر، كل هذا يوقع لا محالة في آفة العزلة أو التفرد. 6- الاعتذار بانتشار الشر و الفساد مع الغفلة عن دور المسلم حين ينتشر الشر و الفساد: وقد يكون الحامل على العزلة الاعتذار بانتشار الشر و الفساد مع الغفلة عن دور المسلم حين ينتشر الشر و الفساد، إذ أن دور المسلم في هذه الحال أن ينشط للمقاومة بكل الأساليب المتاحة، و الوسائل الممكنة ولا يلجأ إلى العزلة إلا عند تمكن الداء وعجز الوسائل وخوف الفتنة. وإذا ما غفل المسلم العامل عن حقيقة هذا الدور فإنه يفر لأول وهلة إلى العزلة أو التفرد، وتتحول الأرض إلى بؤرة من الشر و الفساد، وصدق الله العظيم القائل: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض }. { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً }: وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - الناصح: (مثل القائم على حدود الله و الواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً) 7- الاطلاع على صور من المحن والشدائد ابتلى ويبتلى بها العاملون لدين الله على مدار التاريخ، مع الغفلة عن موقف هؤلاء العاملين من هذه الصور: وقد يكون الحامل على العزلة الاطلاع على صور من المحن والشدائد ابتلى ويبتلى بها العاملون لدين الله على مدار التاريخ، مع الغفلة عن موقف هؤلاء العاملين من هذه الصور، إذ أن موقف هؤلاء إنما كان اليقين التام بأن الابتلاء سنة من سنن الله في الدعوات، ثم الاعتراف بالتقصير و اللجوء إلى الله أن يثبت أقدامهم على الطريق، وأن ينصرهم وقد قبل الله منهم فثبتهم ونصرهم { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين *وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين } نعم إن العامل إذا اطلع على هذه الصور، وكان في غفلة عن موقف أولئك الممتحنين يسيطر عليه الخوف و الهلع، ويحاول أن يجد مخرجاً، وحينئذٍ تسول له نفسه، ويزين له الشيطان أن المخرج إنما يكون في العزلة أو التفرد فيركن إلى ذلك. 8- صحبته نفر من المسلمين منهجهم العزلة، وسيرتهم التفرد: وقد يكون الحامل على العزلة صحبته نفر من المسلمين منهجهم العزلة، وسيرتهم التفرد نظراً لأن المرء شديد التأثر بقرينه، لاسيما إذا كان هذا القرين ذا شخصية مؤثرة وممن يقتدي أو يتأسى به. يقول صلى الله عليه وسلم: (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل). 9- تعدد الهيئات و الجماعات العاملة لدين الله: وقد يؤدى تعدد الهيئات و الجماعات العاملة لدين الله إلى أن يقع المسلم العامل في حيرة من أمره، مع أي من هذه الهيئات وتلك الجماعات يعمل، وعن أي منها يبتعد؟ وتنتهي به هذه الحيرة إلى العزلة أو التفرد، لاسيما إذا لم يكن يعرف حقيقة هذه الهيئات و تلك الجماعات وموقفه منها، غذ أن حقيقة هذه الهيئات وتلك الجماعات أنها جميعاً على خير بيد أن هذا الخير متفاوت، فمنها ما هو على جزء يسير من الخير، ومنها ما هو على كثير من الخير، ومنها ما هو على الخير كله، وأن موقفه منها يفرض عليه أن يتعرف عليها جميعاً: (أهدافاً ووسائل، ثم يسير مع من كانت على الخير كله) - بأن يكون هدفها تطبيق شرع الله، ومنهجه في الأرض { إن الحكم إلا لله }، { وأن احكم بينهم بما أنزل الله }. -وأن تقصد بكل ما يصدر عنها من أقوال وأفعال وجه الله { قل إن صلاتي ونسكى ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } - وأن تخلعه كل ولاء إلا ولاء الله ورسوله، و المؤمنين المتمسكين بهدى الله:{ إنما وليكم الله ورسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتول الله ورسوله و الذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } - وأن تفهم الإسلام فهماً وسطاً دون غلو أو تشدد ودون تفريط أو إسراف ثم تعمل به كله من السواك إلى الجهاد { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة }. - وأن تعمل ابتداء على إيجاد الشخصية المسلمة الجامعة لكل خصال الخير، المتأبية على كل خصال الشر المستأهلة لعون الله وتأييده نصره { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } - وأن تتوسع في تحقيق هذه الشخصية المسلمة بحيث تنتشر وتعم المجتمع كله، بل العالم كله:{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } - وأن تجتهد في الربط بين هذه الشخصيات المسلمة بحيث تصدر عن رأي واحد وتصير فكراً واحداً وقلباً واحداً وروحاً واحدة ومشاعر واحدة وإن تعددت الأجساد { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } - وأن تنطلق من ترتيب واع دقيق مبنى على دراسة وفهم الواقع باستمرار ثم التعامل معه بناء على هذه الدراسة، وهذا الفهم { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله و المؤمنون... }. { وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون. - وأن تراعى الأولويات في العمل بحيث إذا أصيبت بضيق ذات اليد وقصرت بها إمكانياتها ووسائلها قدمت بعض الأصول على بعض، بل والأصول على الفروع، و الفرائض على النوافل، و المجمع عليه على المختلف فيه، كما صنع - رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين سعى إلى تحطيم الأصنام الموجودة بداخل النفس البشرية قبل تحطيم الأصنام التي كانت في جوف الكعبة وعلى سطحها. - وألا تتساهل أو تتهاون في الأصول المجمع عليها، مع التماس الأعذار في الفروع المختلف فيها وبذلك تفتح الباب للتعاون مع جميع العاملين. - وأن يكون لها منهاج واضح الأركان، محدد المعالم، يأخذ بيد الفرد من طور إلى طور، ومن مرحلة إلى مرحلة، فيشبع تطلعاته، ويجيب على تساؤلاته ويرفع من مستواه. - وأن يكون قد ظهر ثباتها أو صبرها على مشاق ومتاعب الطريق فصمدت أمام الإرهاب، واستعلت على المحن و الشدائد وبذلك استحقت أن تكون إماماً ورائداً لباقي العاملين: { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم و الصابرين ونبلوا أخباركم }. - وأن تكون قد قطعت شوطاً طويلاً في العمل، بحيث صارت ذا دراية وخبرة بالطريق، وبهذا توفر على من يسير معها جهداً ووقتاً ومالاً. - وأن يكون دأبها التأني، و التروي، وعدم الاستعجال:{ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم. - وأن يكون معها من يوجهها ويرشدها بحيث يرتب العمل وتوضع الأمور في نصابها. - وأن ينزل جميع أبنائها على رأي من يوجههم مادام في المعروف. - وأن يكون هناك التناصح بشروطه وآدابه، وقبول هذا التناصح و الرضا به. - وأن تكون هناك الدقة والأمانة في اختيار العاملين ليقطع الطريق على المتربصين { ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } - وأن يكون هناك الاتباع لا الابتداع { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً }. 10- الغفلة عن الآثار المترتبة على العزلة سواء منها ما يتصل بالعاملين أو بالعمل الإسلامي: وأخيراً قد يكون الحامل على العزلة الغفلة عن الآثار المترتبة على العزلة سواء منها ما يتصل بالعاملين أو بالعمل الإسلامي، على النحو الذي سنعرض له بعد قليل، إذ أن من غفل عن الآثار الضارة المترتبة على أمر ما وقع لا محالة في هذا الأمر. ثالثاً: آثار العزلة أو التفرد: هذا وللعزلة أو التفرد آثار ضارة، وعواقب سيئة، سواء على العاملين، أو على العمل الإسلامي ودونك هذه الآثار: = على العاملين: فمن آثارهم على العاملين: 1- جهلهم بأبعاد ومعالم شخصيتهم: ذلك أن الإنسان - مهما يكن ذكاؤه، ومهما تكن فطنته - لا يمكنه وحده أن يعرف أبعاد ومعالم شخصيته معرفة دقيقة، بل لابد من آخرين يعينونه على ذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر، لا يستطيع الإنسان أن يكتشف ما في شخصيته من أثرة وأنانية أو إيثار، وتعاون، إلا إذا عاش بين الناس وخالطهم، ورأي أصحاب الحاجات منهم، ثم تأمل في نفسه، هل تقسو وتجمد، فتشح وتبخل؟ وحينئذٍ تكون الثرة والأنانية، أو ترق وتلين فتجود وتعطى؟ وحينئذٍ يكون الإيثار و التعاون، وكذلك لا يمكنه أن يقف على ما في شخصيته من حلم وأناة، أو حمق وعجلة، إلا إذا خالط الناس وصادف طبقات من غير أولى الكياسة، ونظر: هل يقابل خشونة ألسنتهم باللين، وغلظة قلوبهم بالرفق؟ وهنا يكون الحلم والأناة، أو يقابلها بمثلها أو أشد؟ وهنا يكون الحمق و العجلة. وأيضاً لا يعرف الإنسان ما لديه من الشجاعة الأدبية أو الجبن و الخور إلا إذا لزم الجماعة، ورأي من يخطئ ثم تبصر في نفسه: هل يهون عليها أن تقول لهذا المخطئ: إن الصواب في غير ما نطقت، والحق في غير ما رأيت، و الخير في غير ما أتيت؟ وهنالك تكون الشجاعة الأدبية، أو يعز عليها أن تقول ذلك فتصمت وتخرس؟ وهناك يكون الجبن و الخور. وبالمثل لا يدرك الإنسان ما تنطوي عليه شخصيته من صدق وكذب، من أمانة وخيانة، من نظام أو فوضى، إلا إذا عاش في وسط الجماعة، وحدَّث أفرادها، أو ائتمنوه على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، أو ضرب لهم موعداً، أو أعطى من نفسه عهداً لهم، ثم نظر: هل يحدثهم بما يوافق الحقيقة و الواقع؟ فيكون صدوقاً، أو بما يخالفها فيكون كذوباً. وهل يحافظ على دمائهم وأموالهم وأعراضهم فيكون أميناً، أو يعتدي عليها ويهدرها؟ فيكون خائناً. وهل يحافظ على عهده، ويفي بوعده؟ فيكون دقيقاً منضبطاً منظماً أو يهمل ويخلف؟ فيكون فوضوياً غير دقيق ولا منظم ولا منضبط. كأن المسلم إذا عاش في عزلة أو منفرداً فإن شخصيته تبقى مجهولة لديه، وذلك هو الخسران بعينه، إذ ربما يفعل الشر ظاناً أنه الخير، وربما يترك الخير، معتقداً أنه الشر { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً }. ولعل هذا الأثر هو المفهوم من قوله - صلى الله عليه وسلم - (المؤمن مرآة المؤمن...) ومن قول عمر - رضى الله عنه -: (أهديت إلينا عيوبنا) أي أن الطريق التي يعرف بها المسلم أبعاد ومعالم شخصيته من كمال أو نقص، قوة أو ضعف - فينمى نواحي الكمال و القوة، ويستكمل ويقوى نواحي النقص و الضعف - إنما هي الجماعة، وبغيرها يعيش المسلم في عماية وعلى غير هدى. 2- حرمانهم من المعين الذي يمكن أن يأخذ بأيديهم، ويساعدهم على إصلاح عيوبهم، ذلك أن الإنسان قد يهدى إلى عيوبه، لكنه قد يكون من ضعف الإرادة، وخور العزيمة بحيث يعجز بمفرده عن إصلاح وتقويم هذه العيوب، ولابد له من معين، يعينه على نفسه، وحين يختار العزلة أو التفرد يحرم هذا المعين، ويبقى طوال حياته غارقاً في المعاصي و السيئات. ولعل هذا الأثر هو المفهوم مما جاء: (المؤمن مرآة أخيه إذا رأي فيه عيباً أصلحه) (من أراد الله به خيراً رزقه خليلاً صالحاً، إن نسى ذكره، وإن ذكر أعانه) 3- تعطيل بعض طاقاتهم وإمكاناتهم، الأمر الذي يجعلهم فريسة لإغواء الشيطان وإضلاله، ووسوسته، فضلاً عما يلحق شخصيتهم من الانفصام أو الخلل، ذلك أن الإنسان - كما هو معلوم - مؤلف من جسد وعقل وروح،أو بعبارة أخرى من مادة وروح، و الروح مزود بطاقة من الغرائز تشبه الخيوط الدقيقة المتقابلة المتوازية، كل غريزتين منهما متجاورتين في النفس، وهما في الوقت ذاته مختلفتان في الاتجاه، الخوف و الرجاء، الحب و الكره، الاتجاه إلى الواقع والاتجاه إلى الخيال، الطاقة الحسية والطاقة المعنوية، الإيمان بما تدركه الحواس والإيمان بما لا تدركه الحواس، حب الالتزام و الميول إلى التطوع، الفردية و الجماعية، السلبية والإيجابية....الخ كلها غرائز متوازية، ومتقابلة - كما ترى - وهي بتوازيها وتقابلها - تؤدى مهمتها في ربط الكائن البشرى بالحياة، كأنما هي أوتاد متفرقة، متقابلة تشد الكيان كله، وتربطه من كل جانب يصلح للارتباط، وهي في الوقت ذاته توسع أفقه وتفسح مجال حياته، فلا ينحصر في نطاق واحد، ولا في مستوى واحد، بيد أن تحقيق التوازن و التكامل في حياة الإنسان مرهون بإعطاء كل غريزة من هذه الغرائز حقها، دون زيادة أو نقص. و الجماعة هي المجال الوحيد الذي يوظف سائر طاقات المسلم ويعمل كل الغرائز بدرجات متساوية ومتوازية في نفس الوقت، فتتكون الشخصية السوية المتكاملة، الخالية من أي انفصام أو اعوجاج و المحصنة ضد كيد الشيطان وإغوائه. وإذا حدث أن ابتعد المسلم عن الجماعة وآثر حياة العزلة أو التفرد فإنه تتعطل - لا محالة - بعض طاقاته وإمكاناته، وحينئذٍ يكون الخلل أو الانفصام في شخصيته، فضلاً عن وجود الفراغ الذي يمكن أن يستغله شياطين الإنس و الجن في إغوائه وإضلاله، ولعل هذا الثر هو ما لفت النبي - صلى الله عليه وسلم - النظر إليه بقوله: (... فمن أحب منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد..) 4- قلة رصيدهم من الخبرات و التجارب التي تعينهم على مواجهة كل ما يعترض طريقهم من صعاب وعقبات: ذلك أن العمل لدين الله طريق مليئة بالأشواك محفوفة بالمخاطر، و المسلم الحصيف الذكي هو الذي تكون لديه الخبرة أو التجربة التي تمكنه من التغلب على هذه المخاطر، و النجاة من تلك الأشواك. وليس هناك مجال أرحب وأوسع - يكتسب فيه المسلم الخبرات ويتعلم التجارب - سوى العيش مع الناس ومخالطتهم. وحين ينأى المسلم العامل بنفسه عن الجماعة، ويرضى بالعزلة أو التفرد فإنه يحرم هذه الخيرات، وتلك التجارب، ويبقى طول حياته ضيق الأفق قاصر النظر، لا يعرف كيف يواجه أبسط المشكلات، فضلاً عن أمهاتها وعظائمها. ولعل هذا الثر هو ما نفهمه من قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة). 5- سيطرة اليأس و القنوط على نفوسهم، الأمر الذي قد ينتهي بهم إلى الفتور، ذلك أن المسلم العامل لدين الله - لاسيما في هذا العصر - يأتيه الشيطان بين الحين و الحين ويلقى عليه هذه التساؤلات: ما المخرج وأعداء الله - في داخل الأمة الإسلامية وفي خارجها - كثير؟ وهم الآن ممسكون بخناق العالم الإسلامي، ولديهم خطط ماكرة وأساليب خبيثة؟ ويستطيع المسلم المخالط للناس و العامل من خلال جماعة دفع هذه التساؤلات، بأنه ليس وحيداً في هذا الميدان، وإنما هناك آخرون سواه يسيرون في نفس الطريق، وأولئك لهم من الأساليب والإمكانات ما يعينهم على مواجهة أعدائهم، وإحباط مكائدهم ومخططاتهم. أما إذا كان في عزلة أو يعمل وحده، فإن هذه التساؤلات تظل تلح عليه وليس هناك ما يدفعها به، حينئذٍ يدب اليأس في قلبه و القنوط إلى نفسه فيفتر وربما ترك العمل لدين الله. 6- قلة رصيدهم من الأجر و الثواب: ذلك أن الذي يعيش مع الناس ويخالطهم يجد أمامه مجالات رحبة، وميادين واسعة لتحصيل الأجر و الثواب، فهناك مجالس العلم للإفادة أو الاستفادة، وهناك عيادة المرضى وزيارة الإخوان تأكيداً لمودتهم أو تهنئة بنعمة، أو تعزية على مصيبة، وهناك إرشاد للناس وتوجيههم إلى الخير، ومد يد المعونة على ما يسد حاجاتهم، أو تقوى به شوكتهم.... وهكذا. أما الذي يعيش منفرداً أو منعزلاً فإنه يحرم من هذه الميادين وتلك المجالات، وبالتالي يقل رصيده من الأجر و الثواب. 7- عدم تمكنهم من إقامة دين الله في أنفسهم اليوم أو غداً: ذلك أن الباطل لا يفتأ لحظة عن العمل بهدف أن تتحول الأرض إلى بؤرة من الشر و الفساد، فلا يستطيع المسلم العامل أن يؤدى دوراً أو أن يقوم بواجب، وما يمكن أن يتحقق للباطل مثل ذلك، إلا إذا فرَّ أهل الحق من الميدان، أو عملوا متفرقين، و المعتزل واحد فرَّ من الميدان، أو آثر أن يعمل وحده، ومن كان كذلك فإنه سيضيق عليه حتماً اليوم أو غداً. ولعل ذلك هو ما أشارت إليه تلك النصوص التي ذكرناها آنفاً في أسباب العزلة أو التفرد::{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض... }، { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز }. (مثل القائم على حدود الله و الواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً) 8- تعريضهم أنفسهم للإثم و الغضب الإلهي - بسبب اعتزالهم الناس ومفارقتهم الجماعة، وأنى للمسلم أن يطيق ذلك أو يتحمله؟ ولعل هذا الأثر هو ما تفهمه من قوله صلى الله عليه وسلم: (من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية...) تلكم أهم آثار العزلة أو التفرد على العاملين وهي في جملتها مستفادة من قوله صلى الله عليه وسلم: (من فارق الجماعة شبراً، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) وكأنه يعنى بذلك أن من خرج عن الجماعة وفارقها في الأمر المجمع عليه. فقد عرَّض نفسه للهلاك والضياع إذ لا يؤمن عليه حينئذ الوقوع في جميع الآثار المذكورة آنفا أو على الأقل في بعضها، تماما كما يحدث للدابة إذا جعلت الربقة أو الطوق الذي يجعل في عنقها لئلا تشرد فإنه لا يؤمن عليها الهلاك والضياع. على العمل الإسلامي: أما آثارها على العمل الإسلامي فتدور حول: (1) سهولة ضربه والقضاء عليه أو على الأقل إجهاضه فلا يؤتى ثماره إلا بعد تكاليف كثيرة وزمن طويل نظرا لضعفه بسبب تفرق العاملين وعدم تضامنهم ولعل ذلك هو السر في حرص أعداء الله على أن يظل المسلمون منقسمين على أنفسهم تحت شعار: (فرق تسد). ولعله السر أيضا في الأمر بالوحدة ونبذ الفرقة والتنازع: { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا }. { وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم }. { وتعاونوا على البر وتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }. (2) الحرمان من العون أو المدد الإلهي: ذلك أن العمل الإسلامي مهما تكن طاقاته وإمكاناته فهو بحاجة إلى عون وتأييد من الله عز وجل وقد وعد الله أنه لا يعطى هذا العون وذلك التأييد إلا إذ كان القائمون على العمل الإسلامي متضامنين متكاتفين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يد الله مع الجماعة) ولئن ترتب على هذا الحرمان امتحان أو ابتلاء فإنه يكون رحمة وبركة على العاملين المتضامنين ونقمة وعذابا على القاعدين وكذلك على العاملين المتفرقين: {والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعماله سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم}. (إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم). رابعاً: الطريق للخلاص والوقاية من العزلة: ومادمنا قد وقفنا على أسباب العزلة وآثارها فإن من السهل أن ندرك طريق الخلاص والوقاية منها وتتلخص في: (1) الفهم التام للعلاقة أو الصلة القائمة بين النصوص الشرعية المرغبة في العزلة والأخرى الداعية إلى مخالطة الناس ولزوم الجماعة: فإن ذلك الفهم كفيل بانتزاع المسلم إن كان صادقا مع نفسه من حياة العزلة وإلقائه في أحضان الجماعة نظرا لأن مخالطة الجماعة هي الأصل والعزلة أمر طارئ لا يكون إلا عند الضرورة التي لا يبقى معها دين ولا حياة. (2) الفهم التام للظروف أو الأسباب التي دعت بعض السلف إلى العزلة أو التفرد: فإن ذلك الفهم كثيرا ما يحول بيننا وبين الاقتداء بهم في هذا الشأن لا سيما إذ عرفنا أن عزلة هؤلاء لم يكن من ورائها ضرر فقد كانت دولة الإسلام قائمة والراية مرفوعة والدين كله لله أما عزلتنا الآن فمن ورائها ضرر كثير نظرا لغياب دولة الإسلام وإمساك أعداء الله بخناقنا وصدهم عن سبيل الله كثيرا وحاجتنا إلى سواد كثير وجهود ضخمة متعاونة متآزرة لإعادة السلطان لله. (3) الإلمام الدقيق بمنهج الإسلام في التوفيق بين الفردية والجماعية: فإن ذلك كفيل بدفع السلم إلى أن يعيش في أحضان الجماعة في الوقت الذي يحافظ فيه على ذاتيته أو فرديته. (4) الوقوف على المفهوم الصحيح للعبادة: فإنه كاف في القضاء على العزلة والحمل على ملازمة الجماعة ومخالطة الناس دون أن يكون هناك أدنى حرج في أن الأوقات تنفق في غير الطاعة والعبادة. (5) مجاهدة النفس وأخذها دوما بالشدة والحزم: لئلا تسيطر عليها الأهواء وتستبد بها الشهوات فتدفعها إلى العزلة والفرار من تكاليف مخالطة الجماعة والعيش بين الناس. (6) فهم الدور الواجب على المسلم حين ينتشر الشر ويعم الفساد: فإن ذلك كاف في إخراج أي عامل من عزلته وحمله على مخالطة الناس واقتحام الخطوب من أجل القضاء على الشر ومقاومة الفساد أو على الأقل تحجيمهما. (7) اللجوء التام إلى الله عز وجل والاستعانة الصادقة به فإن من يستعين بالله يعينه الله: { وإذا سألك عبادي عنى فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون }. (8) التخلص من صحبة من كان منهجهم العزلة وسيرتهم التفرد مع ملازمة صف العاملين: فإن ذلك له دور كبير في القضاء على العزلة. (9) الإلمام التام بحقيقة الهيئات والجماعات العاملة لدين الله: فإن ذلك سينتهي به حتما إلى نبذ حياة العزلة والسير مع من كانت على الخير كله وقائمة بالحق جميعه. (10) الوقوف على حقيقة المنهج الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم في تشييد صرح ودولة الإسلام الأولي فإن ذلك يعين على التخلص من العزلة ويحمل على الانحياز للجماعة اقتداء وتأسيا به صلى الله عليه وسلم: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا }. (11) إدراك أن أعداء الله من الكافرين والمنافقين يتعاونون فيما بينهم ويعملون لضرب الإسلام مجتمعين لا متفرقين في شكل أحلاف عسكرية: (حلف وارسو - حلف الأطلنطي) وفي شكل أسواق تجارية: (السوق الأوروبية المشتركة) وفي شكل برلمانات وهيئات سياسية: (البرلمان الأوروبي) وفي شكل اتحادات جمهورية وولاياته (جمهوريات الاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة الأمريكية). وإذا كان هذا شأن أعداء الله وهم على الباطل وبينهم من خلافات جوهرية فأولى بنا نحن المسلمين لا سيما أننا على الحق وليست لدينا خلافات جوهرية أن نواجههم بنفس الأسلوب أي مجتمعين لا متفرقين: { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير }. (12) التأمل في حياة المخلوقات المحيطة بنا الموجودة حولنا فإن ذلك التأمل سيقودنا حتما إلى أن هذه المخلوقات ما تعيش في عزلة وإنما تعيش مجتمعة متعاونة لتؤدى دورها فها هي المجموعة الشمسية تتعاون لتوفير الضياء والدفء لسائر الكائنات الحية وها هي جماعة النحل تتعاون في بناء بيوتها وتنظيفها وتوفير الحماية لها ثم تسرح لتمتص رحيق الأزهار ولتخرجه في النهاية عسلا مصفي فيه شفاء للناس ومثل ذلك يحدث لجماعة النمل وباقي المخلوقات مما حدا بالشاعر أن يقول: النمل تبنى قراها في تماسكها والنحل تجنى رحيق الشهد أعوانا وإذا كان هذا شأن المخلوقات التي لا عقل لها فكيف بنا نحن بني آدم الذين ميزنا الله بالعقل والحرية والإرادة وجعلنا سادة في هذا الكون وهكذا يمكن أن يؤدى مثل هذا التأمل إلى نبذ حياة العزلة والعيش مع الجماعة وبين الناس. (13) الوقوف على حقيقة الآثار المترتبة على العزلة أو التفرد وقد ذكرناها آنفا فإن ذلك يقود من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد إلى العيش بين الناس ومخالطتهم حذرا من الوقوع في هذه الآثار أو تلك العواقب.
مختارات