الأصل السادس عشر : الأمر كله بيد الله , فسلّم تسلم
الأصل السادس عشر: الأمر كله بيد الله، فسلّم تسلم
قال – تعالى – عن إبراهيم: " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه "
(البقرة: 131 – 132).
قال ابن كثير رحمه الله: " وقوله – تعالى -: " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين " أى: أمره الله – تعالى – بالإخلاص له والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك شرعا وقدرا.
وقوله " ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب " أى: وصى بهذه الملة وهى الاسلام لله، أو يعود الضمير على الكلمة، وهى قوله: " أسلمت لرب العالمين " لحرصهم عليها ومحبتهم لها حاغظوا عليها إلى حين الوفاة، ووصوا أبناءهم بها من بعدهم " اهـ.
فسلم لربك يا طالب الوصول، فالأمر كله له، قال الملك: " إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم فى أخراكم فأثابكم غمّا بغمّ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون * ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شىء قل إن الامر كله لله يخفون فى أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الامر شىء ما قتلنا ها هنا قل لو كنتم فى بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلى الله ما فى صدوركم وليمحص ما فى قلوبكم والله عليم بذات الصدور " (آل عمران: 153 - 154).
" وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ".. نعم: فكم من ناس فى هذه الدنيا لا هم لهم إلا أنفسهم.. سلموا أمرهم لأنفسهم لا لله.. وقديما قالوا: من عاش لنفسه عاش صغيرا ومات حقيرا.. فسلم نفسك لله وحده يأمرها وينهاهابما هو أنفع وأصلح لها، فهو سبحانه عليم حكيم.. ضع يديك ورجليك فى قيود الشريعة الفضية لتتحرر من ذل العبودية لغير الله.. سلم تسلم فالامر كله لله.
كم رأينا رجلا أهم شىء لديه أن يأكل ويشرب ويلبس وينام.. أهم شىء مزاجه، أما العيال فمالى وللعيال !، فأنا الذى آتى بالعيال.. والزوجة؟.. وما لى بالزوجة، فلتذهب لأهلها يطعموها.. وعن الآخرة يقول: حينما يأتى الحساب ستفرج !!
طبعا أنت ستتعجب هذا الرجل، فكلامه لا يقوله إلا جاهل أو عاص، ولكن لا تعجب، فهذا الكلام موجود بداخل الكثير منّا – معاشر الملتزمين – وإن كان لا يقوله بلسانه.. نعم: كثير منّا يود أن يعيش لنفسه – ونفسه – فقط -.. ودعونا نتصارح حتى نعالج تلك المشاكل، وإلا فسيظل السوس ينخر فى العظم.. عظم الامة.
إن سبب مصائبنا اليوم أنفسنا.. ترانا " منكوسين موكوسين " لماذا؟.. من أنفسنا.. شلة يهود.. شرذمة يهود يضربوننا على أم رؤوسنا لماذا؟.. لماذا استضعفونا واستهانوا بنا؟.. لهواننا على أنفسنا.. مع أننا أكثر من هؤلاء الناس جميعا، وعندنا كل الامكانيات التى تؤهلنا لسيادة العالم ولكن لا نسود.. لأن " السوس " فى قلوبنا.
إن أول نصر الدين أن تصلح نفسك.. فمن هنا المنطلق، ومن هنا البداية.. وإصلاح النفس يكون بتسليمها لله بكل حب ورضا يأمرها وينهاها.
البداية من نفسك.. وهذا الكلام قلته من عشرين سنة.. وعشر.. وخمس.. والأمس.. واليوم.. وسأظل أقوله حتى أموت، لأنه قانون إلهى.. " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " (الرعد: 11).. " ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " (الأنفال: 53).
وإن الذى يتحدث عن التغيير فى كل شىء إلا من عند نفسه لن يغير شيئا على الإطلاق. فالبداية إذا من أين؟.. من عند أنفسنا.. وهذا ليس من عندى، ولكنه كلام الله كما مر.
إذا فلابد من التحديق.. تدرى معنى التحديق؟.. التحديق فى ذوات أنفسنا.. أى شىء فى أنفسنا يجب أن يتغير؟.. فغير نفسك وسلم نفسك لا لنفسك ولكن لله.
يقول الله – تعالى – " وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شىء " (آل عمران: 154).. يقول هؤلاء المنافقون: من الذى أتى بنا إلى هنا.. ما لنا ولهذا الأمر؟!.. كالذين يقولون: ما لنا وفلسطين؟!، ويقولون: هم الذين باعوا أرضهم.. إن القضية يا هؤلاء !! ليست فلسطين.. هذه قضية الإسلام واليهود.. القضية قضية إسلام وكفر.
وإن الذى يهتم ويحزن لأحوال المسلمين ينبغى أن يفكر فى نفسه فيصلحها لتنصلح أمته الجريحة.. وليسلم لله وليقل بلسان الحال والمقال: سمعا وطاعة يا ب.. " وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير "
(البقرة: 285).. فلا يحلق لحيته مثلا ويقول: احلقها وأرح دماغك.. لا.. فأين السمع والطاعة إذا؟!. أين التسليم الذى نتحدث عنه؟!!.. أنت لم ترح نفسك بل عصيت ربك الذى بيده الأمر والنهى.
لماذا سجن الإمام أحمد بن حنبل؟.. من أجل العقيدة.. يقولون له: القرآن مخلوق، قال لهم: القرآن كلام الله غير مخلوق.. سجنوه وضربوه.. الذى ضربه قال: ضربت أحمد سبعة عشر سوطا لو ضربها جبل لانهد.. نعم: سجن.. وفى شعب أبى طالب كم ضرب أناس !.. النبى صلى الله عليه وسلم نفسه سجن وضرب.. فالتأديب بالسجن والضرب الآن ليس جديدا.. " ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك " (فصلت: 43)..
أبو سيدنا إبراهيم قال له: " لئن لم تنته لأرجمنك " (مريم: 46)..
فرعون قال لموسى عليه السلام: " لأجعلنك من المسجونين " (الشعراء: 29)..
فهذه سنة كونية.. سنة دائمة لا تتغير.. وابتلاء أحمد بن حنبل كان من أجل كلمة ما أسهل أن يتنازل عنها الناس اليوم، بل والملتزمون.
قال أبو سعيد الواسطى: دخلت على أحمد السجن قبل الضرب فقلت: يا أبا عبدالله، عليك عيال ولك صبيان وأنت معذور، كأنى أسهل عليه الإجابة.. كأنه يقول له بلغة عصرنا: وراءك عيال وتحتاج إلى تربيتهم، قل لهم الكلمة التى يريدونها.. " القرآن مخلوق ".. واخرج من هنا.. ألست من داخل قلبك تعتقد أن القرآن كلام الله؟!، إذا لا حرج عليك طالما أن قلبك مطمئن بالايمان !! فقال الامام أحمد: " يا أبا سعيد، إن كان هذا عقلك فقد استرحت !! ".. وما أكثر أصحاب العقول المستريحة فى زماننا.. أراح دماغه.. وغير عابىء بأى أمر.. وتارك نفسه مع الماشى، وحينما يموت لا يجد إلا النار.
لذلك – إخوتاه – حينما يقول الله: " هل لنا من الأمر من شىء "، نقول له: إن الامر كله لله.
الامر أمر الله.. فإذا أرادك أن تحمل فاحمل ما أمرك به.. هذه مسئوليتك.. وهذه هى الامانة التى قال الله عنها: " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا " (الأحزاب: 72).. احمل مسئولية هذا الدين، فالدين أمانة.. الدين نسبك وصهرك.. الدين مسئولية كل مسلم.. الدين مسئوليتك الشخصية، وسوف تسأل عنه.. ووالله ثم والله لتسألن عن دين الله.. ماذا عملت به، وماذا قدمت له؟
قال أبو بكر الصديق لما منعوا الزكاة: أينقص الدين وأنا حى؟!! كلا والله.. فهل ينقص وأنت حى.. هل ينقص الدين فى بيتك وفى منطقتك وفى أرضك وفى كل العالم؟!.. نعم ينقص، لأنك لم تحمله.
والمنافقون هم الذين لا يريدون أن يحملوا الدين: " يقولون هل لنا من الأمر من شىء قل إن الأمر كله لله ".. يقولون لأنفسهم: ما الذى أتى بكم إلى هنا؟!.. " يخفون فى أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا ها هنا " (آل عمران: 154).. لو كان الموضوع بأيدينا !.. ما الذى جاء بنا إلى هنا؟!.. ما لنا وللقتال.. لماذا نقاتل؟!.. لا.. فليس الأمر بأيديكم، " قل لو كنتم فى بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم " (ّل عمران: 154).. لو لم يأتكم رسول ولو لم تخرجوا لقتلتم هنا أيضا.. طالما أنه – سبحانه – كتب عليكم أن تقتلوا هنا فسوف تقتلون هنا ولا محالة.. هذا قدر.
ولذلك فإن من يحلق لحيته حتى لا يؤذى تجده يحلقها فيؤذى.. مكتوبة مكتوبة.. فالقضية ليست قضية أسباب.. القضية من مسبب الاسباب.. انتبه.. لذلك حينما يأتى ويقول: احلق لحيتى، نقول له: يا أخى، البلاء يدفع بطاعة الله ورسوله لا بمعصية الله ورسوله.. فهل تعصى ربك لتدفع عنك البلاء؟!.. اللهم ارفع عن المسلمين البلاء.
أطع ربك.. نفذ أوامره، فالامر كله له لا لمن تخاف منهم.. سلم تسلم، فالذى أمرك الله.. الله العزيز.. الله الجبار.. الله اللطيف " الله لطيف بعباده " (الشورى: 19).. الله الرحيم.. الله الحفيظ.. فكن معه، فأنت فى حماه، ولن يضيعك أبدا، فهو الله.
كلمة جليلة جدا لأبى إسماعيل الهروى يبين فيها هذا الاصل: يقول: " أن تعلم أن الامر صادر من عين من لا يخاف عواقب الامر ".. فالذى أمرك من؟.. الله.. هل يخاف؟.. أعوذ بالله وحاشا لله.. قال ربى: " فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها " (الشمس: 14 – 15). فكن معه وسيحميك ويحرسك ويحفظك ويسددك وينجيك، وإن ابتلاك فسيرضيك.
قال ابن القيم – رحمه الله -: " اصدق الله، فإذا صدقت عشت بين عطفه ولطفه، فعطفه يقيك ما تحذره، ولطفه يرضيك بما يقدره " اهـ.
ستعيش وتحيا بين العطف واللطف.. فيعطف عليك.. فكل ماتخاف منه لن يحدث، لأنه – سبحانه – هو الملك – فلا يجرى فى الكون شىء إلا بقدره وإذنه ومشيئته، فسيحميك بعطفه.. وإذا قدر عليك شيئا تكرهه فسيرضيك بلطفه. إذا فكل لله كما يريد، يحميك ويرضك.. فسلم له تسلم.
فلان كان يقود السيارة وفى لحظة القدر لم ير أمامه، فكانت الحادثة.. وفيها حصل العطف واللطف.. فالعطف: أن السيارة تكسرت لكنه خرج هو وأولاده سالمين.. هذا عطف..
أما اللطف: فإنه نزل من السيارة ساجدا يقول: الحمد لله.. يقولون له: السيارة انتهت، يقول: يا أخى، الحمد لله، الحمد لله.. فهذا لطف.. وعلى العكس: من يحلق لحيته: فيعصى فيؤذى فيتلفظ بما يسخط الله.. فلا هو نفذ الامر فعاش بعطف الله، ولا هو سكت فعاش سعيدا وفاز بلطف الله.
وهكذا.. إذا عشت لله فنفذت أوامره، وسلمت له زمام نفسك فأطعته فى كل مايأمرك به، سلمت، وسيرك بين عطفه ولطفه – اللهم احفظنا بعطفك ولطفك يا رب.. فسلم تسلم لتصل فالامر كله لله.
* * *
مختارات