خلق المياه والبحار
خلق المياه والبحار
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)} [النحل: 10، 11].
وقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} [الأنبياء: 30].
وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)} [النحل: 14].
الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، خلق الماء، وأودع بعضه في السحاب، وأرسل عليه الرياح تحمله بأمر الله، وتسوقه إلى ما شاء الله من البلاد والعباد: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)} [الفرقان: 48 - 50].
إن خلق الماء بذاته آية، يجتمع ويتفرق بأمر الله، إن شئت رأيته قطرات، وإن شئت رأيته بحراً محيطاً بهذه الأرض، وبهذا الماء جعل الله كل شيء حي.
ثم جمعه في السحاب آية أخرى، ثم سير هذا البحر العظيم في جو السماء آية أخرى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)} [الأعراف: 57].
ثم نزول الماء من السحاب إلى الأرض على شكل قطرات آية أخرى.
ثم جمعه وإسكانه في الأرض وحفظه آية أخرى.
ثم تفجره بعد ذلك من الأرض ينابيع وعيوناً آية أخرى.
ويد الله تمسكه فلا يذهب في الأغوار البعيدة التي لا يظهر منها أبداً: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)} [الزمر: 21].
وحياة النبات التي تعقب نزول الماء وتنشأ عنه آية عجيبة من آيات ربك.
وقبول الأرض لهذا الماء وابتهاجها به، وإظهارها زينتها بسببه آية أخرى.
ورؤية النبتة الصغيرة وهي تكشف حجاب الأرض عنها، وتزيح أثقال الركام من فوقها، وتتطلع إلى الفضاء والنور والحرية آية أخرى.
ورؤية النبتة والشجرة، وهي تصعد رويداً رويداً إلى الفضاء آية أخرى.
كل ذلك كفيل بأن يملأ القلب المفتوح ذكرى، وأن يثير فيه الإحساس بالله الخالق المبدع: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 2، 3].
وهذا الزرع المختلف الألوان في البقعة الواحدة.. بل في النبتة الواحدة.. بل في الزهرة الواحدة.. يسقى بماء واحد.. ويخرج من أم واحدة.. إنه معرض لإبداع قدرة الرب تبارك وتعالى.
وهذا الزرع النامي، له أجل وله عمر يبلغ تمامه، ويستوفي أيامه، ثم يهيج فتراه مصفراً، وقد بلغ غايته المقدرة له، فينضج للحصاد، ثم يكون حطاماً، قد استوفى أجله، وأدى دوره، وأنهى دورته مطيعاً نافعاً، كما قدر له واهب الحياة سبحانه، وفي ذلك ذكرى لأولي الألباب والعقول.
وكما ينزل الله الماء من السماء، فيحيي به الأرض بعد موتها، وينبت للعباد به زرعاً مختلفاً ألوانه، كذلك ينزل سبحانه من السماء وحياً وذكراً تتلقاه القلوب الحية فتنفتح وتنشرح، وتغير به بإذن الله وجه الحياة البشرية، بأحسن الأخلاق، والآداب، والعبادات، والمعاملات، والمعاشرات.
وتتلقاه القلوب القاسية فلا تنتفع به، كما تتلقى الصخرة القاسية الماء فلا يؤثر فيها: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} [الزمر: 22].
والله عزَّ وجلَّ عليم حكيم، يشرح للإسلام قلوباً يعلم منها الخير، فيصلها بنوره، فتشرق به وتستضيء.
أما القلوب القاسية فهي مظلمة جافة معتمة، لا تقبل الهدى وإن رأته وسمعته، كما لا يقبل الحجر الإنبات مع نزول المطر عليه.
فسبحان من أنزل من السماء الماء والهدى، وجعل من القلوب ما يقبل الهدى، ومنها ما لا يقبل، وجعل من الأرض ما يقبل الماء، ومنها ما لا يقبل، والله بكل شيء عليم، وبعباده خبير بصير.
ألا ما أجهل الإنسان بربه، وما أجهله بمخلوقاته، وما أجهله بنعمه؟.
هذه المياه الغزيرة المتوفرة في العالم من خلقها؟.
وهذه المياه التي يحملها السحاب من أنزلها من السماء؟.
وهذه المياة المجموعة في بطن السحاب من فرقها على الجبال والسهول والوهاد والبطاح؟.
ومن سيّرها في الأنهار؟.. ومن فجّرها من العيون؟.
ومن ساقها شراباً عذباً للبهائم والأنعام، والناس والنبات؟
{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)} [الواقعة: 68 - 70].
والماء الذي ينزل من السماء في كل لحظة في العالم يعرفه كل إنسان، ويراه كل إنسان، ولكن أكثر الناس يمرون عليه ويمر بهم، وهم في غفلة لا يذكرون من خلقه وأنزله وقسمه، وذلك لطول الإلفة والتكرار: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)} [يوسف: 105].
والله سبحانه ينزل الماء بقدر إلى الأرض، لا يزيد فيغرق الأرض ومن عليها، ولا يقل فتجف الأرض، وتذبل الحياة ويهلك من عليها: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21].
فالله أنزل الماء بقدر معلوم، ليحيي به الأرض بعد موتها، ويسقي به العباد والبهائم، وليدل على البعث والنشور.
فالذي أنشأ الحياة أول مرة، كذلك يعيدها سبحانه، والذي أخرج الأحياء أول مرة من الأرض الميتة، كذلك يخرج الأحياء منها يوم القيامة: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)} [الزخرف: 11].
فسبحان من خلق هذه المياه العظيمة، وصرفها في البلاد والعباد، وجعل منها ما يجري في جو السماء، ومنها ما يجري على ظهر الأرض كالأنهار، وما يستكن في باطن الأرض، وما يستقر في البحار، وما ينبع من الأرض.
وسبحان من خلق الماء نوعاً واحداً، وجعل منه الحار والبارد.. والحلو والمر.. والعذب والمالح.. والساكن والجاري.. والسائل والجامد.
ومنه ما يعيش فيه هذا النبات، وهذا الحيوان، ومنه ما لا يعيش فيه إلا هذا النبات وهذا الحيوان، كما في البحار والأنهار.
وسبحان من جعل من هذا الماء بحرين، وجعل فيهما من المنافع والأرزاق والنعم ما لا يحصيه إلا الله، وجعل لكل بحر طبيعة وأحياء لا تعيش إلا فيه، وخلائق ومنافع تحصل منهما معاً: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)} [فاطر: 12].
ومن آيات الله عزَّ وجلَّ، وعجائب مخلوقاته، هذه البحار العظيمة المكتنفة لأقطار الأرض والمحيطة بها، حتى إن المكشوف من الأرض بالنسبة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم، وبقية الأرض مغمور بالماء، فالأرض في البحر كبيت في جملة الأرض.
ولولا إمساك الرب تعالى للماء بقدرته، لطفح على الأرض وعلاها كلها، وهذا طبع الماء، ولكن الذي خلقه وطبعه حبسه وقهره.
وخلق الله عزَّ وجلَّ في البحار أجناساً مختلفة من الحيوانات، لها أشكال ومقادير وألوان، ولها منافع ومضار، حتى إن فيها حيواناً كالجبل لا يقوم له شيء، وما من صنف من أصناف حيوان البر إلا وفي البحر مثله غالباً، وفيه أجناس كثيرة لا يعهد لها نظير في البر أصلاً.
وقد خلق الله هذه البحار العظيمة، وجعلها داراً وسكناً ومسرحاً لما لا يحصيه إلا الله من الأسماك المختلفة الأشكال والأحجام:
فمنها الكبير والصغير.. والطويل والقصير.. والمسالم والمفترس.. وما يبيض وما يلد.. وما يعيش في أعلاه.. وما يعيش في أسفله.. وما يعيش في البحار.. وما يعيش في الأنهار.
والأسماك أمم وقبائل لا يعلمها إلا الله، ولا يحصيها إلا الذي خلقها، وتكفل بأرزاقها، وقام بأمرها، وأذن ببقائها.
فسبحانه من إله ما أرحمه، ومن رب ما أعظمه، ومن غني ما أكرمه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} [الزمر: 6].
وخلق الله الحكيم العليم السمك بدون قوائم، لأنه لا يحتاج إلى المشي، إذ كان مسكنه الماء الذي يسبح فيه.
وخلق له سبحانه عوضاً عن القوائم أجنحة شداداً، يقذف بها من جانبيه، وكسى جلده قشوراً متداخلة ليقيه من الآفات، وأعين بقوة الشم، لأن بصره ضعيف والماء يحجبه، فصار يشم الطعام من بعد فيقصده ويأكله.
وجعل سبحانه من فيه إلى صماخه منافذ، فهو يصب الماء فيها بفيه، ويرسله من صماخيه فيتروح بذلك، كما يأخذ الحيوان البري النسيم البارد بأنفه، ثم يرسله ليتروح به.
فالماء للحيوان البحري كالهواء للحيوان البري، فهما بحران، أحدهما ألطف من الآخر، وفي كل بحر أمم تعيش فيه.
بحر الهواء يسبح فيه حيوان البر.
وبحر الماء يسبح فيه حيوان البحر.
ولو فارق أحد الصنفين بحره إلى البحر الآخر لمات، فكما يختنق الحيوان البري في الماء، يختنق كذلك الحيوان البحري في الهواء.
فسبحان من خلق هذا وهذا، وجعل لهذا عالم من الحيوان والنبات يناسبه، ولهذا عالم آخر يناسبه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)} [الرعد: 3].
والسمك أكثر الحيوانات نسلاً، ولهذا يوجد في السمكة الواحدة من البيض أعداد هائلة، وحكمة ذلك أن يتسع لما يتغذى به من أصناف الحيوان، فإن أكثرها يأكل السمك.
فالناس تأكل السمك.. والطير تأكله.. والحيوانات والسباع تأكله.. ودواب الأرض تأكله.. والسمك الكبار تأكله.. فكثَّره جل وعلا ليكون غذاء وطعاماً لهذه الأصناف التي لا يحصيها إلا الله.
والبحر قسمان:
علوي.. وسفلي.
فأما البحر السفلي فهو في الأرض، وهو نوعان: عذب، ومالح.
وأعظمها وأكبرها وأوسعها، هذا البحر الأعظم المحيط بجميع الأرض، وهو البحر المالح، ويغمر نحو ثلاثة أرباع الأرض، ويتصل بعضه ببعض، ويشغل اليابس الربع، وهذا اليابس كجزيرة صغيرة في بحر عظيم.
وأما البحرالعذب فيشمل الوديان والأنهار.
وقد خلق الله البحرين، وجعلهما يلتقيان، ولكنهما لا يبغيان، ولا يتجاوز كل منهما حده المقدر، ووظيفته المقسومة، وبينهما برزخ من صنع الله وآياته العجيبة: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)} [الرحمن: 19 - 21].
وتقسيم الماء على هذا النحو في الأرض، لم يجيء مصادفة ولا جزافاً، بل هو مقدر تقديراً عجيباً من العزيز العليم.
وهذا القدر الواسع من الماء المالح، هو اللازم بدقة لتطهير جو الأرض، وحفظه دائماً صالحاً للحياة والعافية.
ومن هذا البحر الواسع تنبعث الأبخرة بأمر الله، تحت تأثير حرارة الشمس، وتأتي الرياح فتثيرها سحاباً يجري في السماء، وهي التي تعود بأمر الله فتسقط أمطاراً، يتكون منها الماء العذب، فيروي الأرض، وتجري منه الأنهار: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)} [الروم: 48].
وعلى هذا الماء العذب الذي ينزله الله من السماء، ويفرقه في البلاد، تقوم حياة النبات والحيوان والإنسان.
وتصب جميع الأنهار في البحار، وهي التي تنقل إليها أملاح الأرض، ومستوى سطح الأنهار أعلى في العادة من مستوى سطح البحر، ومن ثم لا يبغي البحر على النهر الذي يصب فيه، ولا يغمرمجراه بمائه المالح فيحوله عن وظيفته: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)} [الفرقان: 53].
وهذا البحر العظيم لولا أن الله يمسكه لفاض على الأرض وأغرق ما فيها، ولكن الله يحبسه ويمسكه، وسيفجره عند قيام الساعة ويجره.
وفي البحر نباتات وأشجار لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله وحده.
ومن آيات الله في البحرين أنه: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)} [الرحمن: 22].
واللؤلؤ أصله حيوان، ففي البحر عجائب، ولعل اللؤلؤ من أعجب ما في البحار، فهو يهبط إلى الأعماق، وهو داخل صدفة، وله شبكة تسمح بدخول الماء والهواء والغذاء إلى جوفه، وتمنع دخول الرمل والحصى، وتحت الشبكة أفواه الحيوان، فإذا دخلت ذرة رمل أو حصاة إلى الصدفة سارع الحيوان إلى إفراز مادة لزجة يغطيها بها، ثم تتجمد مكونة لؤلؤة، وعلى حسب حجم الجسم الذي دخل يختلف حجم اللؤلؤة.
والمرجان من عجائب مخلوقات الله التي تعيش في البحار، يثبت نفسه على صخرة أو عشب، وفتحة فمه محاطة بزوائد إذا لمست الفريسة أصيبت بالشلل في الحال، فتأكلها بعد دخولها الفم.
ومن اللؤلؤ والمرجان يتخذ الناس حلياً غالية الثمن، جميلة المنظر.
هذا مع ما فيه من العنبر، وأصناف النفائس التي يقذفها البحر، أو يستخرجها الناس بوسائل الصيد.
ثم انظر إلى عجائب السفن وسيرها في البحر، تشقه وتمخره بواسطة الرياح التي سخرها الله، فإذا حبس الله القائد والسائق ظلت راكدة على ظهره: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)} [الشورى: 32 - 33].
وهذه البحار العظيمة، والمحيطات الواسعة من أنشأها؟.
ومن أودع هذه البحار خصائصها من كثافة وعمق وسعة، حتى تحتضن ما لا يحصيه إلا الله من الأسماك والمخلوقات والنباتات؟.
ومن سخرها لتحمل السفن الضخام، والسفن الجواري، وحفظها من أمواج البحار والعواصف والقواصف؟.
وهذه السفن التي كالجبال من أنشأ مادتها، وأودعها خصائصها، وجعلها تطفو على وجه الماء بما فيها من الأجسام الثقيلة؟.
وهذه الريح التي تدفع ذلك النوع من السفن، وغير الريح من القوى التي دل الله الإنسان عليها وسخرها له من بخار أو ذرة أو وقود، تدفع تلك السفن الضخام، من جعلها قوة في هذا الكون تحرك الجواري في البحر كالأعلام؟.
إن الله تبارك وتعالى هو الذي يسير المخلوقات في البر والبحر، لو شاء أسكن الريح، أو عطل محركات السفن، فظلت هذه الجواري راكدة على ظهر البحر.
وإنها لتركد أحياناً، فتهمد هذه الجواري وتركد كما لو كانت قد فارقتها الحياة، إن في إجرائهن وركودهن على السواء لآيات لكل صبار شكور: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)} [الشعراء: 8، 9].
فسبحان من خلق المياه، وسقى بها البلاد والعباد.
وسبحان من أسكنها في باطن الأرض، وأجراها في الأنهار، وجمعها في البحار، وحملها في السحاب، وفرقها على النبات والحيوان والإنسان.
وسبحان الكريم الذي ملأ البحر بضروب من الحيوانات والنباتات، واللؤلؤ والمرجان، والجواهر والنفائس.
وما أوسع ملكه.. وما أكثر خلقه وجنوده التي لا يعلمها إلا هو: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)} [لقمان: 11].
وهذا الماء العذب الذي نشربه كل يوم ما دور الإنسان فيه؟.
دوره أنه يشربه وينتفع به، أما الذي أنشأه من عناصره، وأما الذي أنزله من سحائبه فهو الله سبحانه.
وهو سبحانه الذي قدر أن يكون الماء عذباً فكان.
فمتى يشكر الإنسان فضل الله عليه في خلق رزقه وسوقه إليه حيثما كان: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)} [الواقعة: 68 - 70].
فسبحان من جمع المياه العظيمة في السحاب، وأمسكها بقدرته، وسيرها في هذا الكون العظيم، ثم أنزلها على شكل قطرات لا يحصيها إلا الله، وفرقها على الجبال والسهول والوديان والبحار، ثم جمعها في العيون والأنهار والبحار.
وسبحانه من حكيم عليم يجمعها إذا شاء لمن شاء، ويفرقها حيناً إذا شاء لمن شاء: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)} [النازعات: 26].
وأما البحر العلوي فهو البحر الذي فوق السماء السابعة، الذي عليه عرش الرحمن، وهو بحر عظيم لا يعلم عظمته وسعته إلا علام الغيوب: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلائِقِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السموات وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاء» أخرجه مسلم
فسبحان من خلق هذه الروايا العظيمة، وحملها على ظهر الريح، وسيرها بأمره حيث شاء، فهي مأمورة مدبرة بأمر ربها.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتاً فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ» أخرجه مسلم
اللهم إنا نستغفرك من جهلنا.. وظلمنا.. وتقصيرنا.. فاغفر لنا.. إنك أنت الغفور الرحيم.
مختارات