الأصل السادس : يومك يومك
الأصل السادس: يومك يومك
أيها الاخوة، الله – جل جلاله – حين خلق العبد ما خلقه الا ليعبده، قال – تعالى – " وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون " (الذاريات: 56) ثم أجرى الله اللطيف الرحيم تكاليفه على العبد فكلفه ما يطيق.
قال الملك: " ولو شاء الله لأعنتكم " (البقرة: 220) يعنى: ولو شاء الله لأوقعكم فى العنت والمشقة والتعب، ولكن الله يقول: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " (البقرة: 185) ويقول – سبحانه وتعالى -: " يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا " (النساء: 28).
فمن رحمة الله ولطفه بالعبد فى التكاليف أنه كلفك كل يوم على قدر يومك، لكى لا يعنتك، ولذا فإن من ظلم العبد لنفسه أن يحمل هم غد.. من رحمته – سبحانه – أن جعل التكاليف يوما بيوم.. فلو صليت العشاء لا يطالبك الله بشىء أو فرض حتى أذان الفجر، فكل وقت له واجب، والله لا يطالبك الا بواجب الوقت.. لا يطالبك – سبحانه – بواجب الغد.. أما اليوم فنعم.
إنك لو مت الآن قبل صلاة العشاء لن يسألك الله عن العشاء.. لو مت قبل أن يمر العام ويحول الحول، لن تسأل عن زكاة هذه السنة.. لو عشت عمرك ولم يبلغ مالك النصاب لا يسألك الله عن الزكاة.. وهذا كله من رحمة الله.. فمن ظلم العبد لنفسه حمل هم غد.
تجد الرجل اليوم جالسا يفكر: آخر الشهر من أين سنأتى بالنقود.. يا أخى أين أنت وأين آخر الشهر؟!.. تجده يتكلم ويقول: الأولاد عندما يكبرون أين سيعيشون؟.. يا أخى عندما يكبرون فلهم رب يتكفل بهم أحن عليهم منك.. وهكذا يحمل الهمّ فينشغل به.
تجد الأب فى زماننا – للاسف الشديد – مشغولا بشراء قطعة أرض ليبنى بيتا للاولاد.. مشغولا بسعادتهم الدنيوية وراحتهم البدنية، فينسى فى خضم المشاكل والظروف أن يعرفهم طريق الله.
سبحان الله العظيم !!.. عمر بن عبد العزيز كان له أحد عشر ولدا ذكرا، غير الاناث، فلما جاءه الموت قال له كاتبه رجاء بن حيوة: لو أوصيت بهم أحدا.. أوص عليهم أحدا ينفق عليهم.. قال له ذلك، لأن عمر بن عبد العزيز لم يترك وهو يموت الا عشرة دراهم.. أحد عشر ولدا ورثهم أحد عشر درهما. قال له عمر بن عبد العزيز: والله لست أوصى بهم أحدا الا الله، ان يكونوا صالحين فالله يتولى الصالحين، ثم جمعهم فقال: إنى أموت ولم أترك لكم شيئا، غير أنكم ما مررتم بأحد من المسلمين إلا وهو يعلم أن لكم عليه حقا.
وهذه الكلمة الاخيرة كلمة جميلة.. أنك حين تترك أولادك ويكون لك ذكرى طيبة عند الناس، تجدهم كلما مر عليهم الأولاد يقولون: اللهم ارحم أباكم، لقد كان رجلا صالحا.. وهذه تكفى.
نعم، هذا هو الوالد الحقيقى الذى عرف الطريق الى الله فعرفه لأبنائه، لا ذالكم الأب الذى ضيع أيامه وانشغل بالدنيا.. وتعجب حين تعلم أن هذا الأب كلما انشغل بالأولاد ليرضيهم لا يرضون فتزداد المشاكل والهموم، ولو أنه شغل نفسه وعياله بالله لحلت المشاكل.
إننا اليوم ونحن ننظر فى واقع المسلمين، لا نجد أحدا يعيش يومه فالكل ينظر للمستقبل وناس أنه يمكن ألا يكمل يومه.. قال ابن عمر: " إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ". لقد تعجبت لبعض الافكار والاخلاقيات التى وصلت الى القرى !! وكيف لا أدهش ونحن دائما نعد هؤلاء الفلاحين أصولنا..هؤلاء أولاد الأصول.. هؤلاء هم الناس الذين يفهمون فى الأصول، ألا لعنة الله على الظالمين الذين لوثوا صفاء الريف الروحى.
أفسد التلفاز أخلاقياتهم، فتجد الرجل يرسل ابنته لتتعلم وقد تسافر وحدها وترجع بالليل فتقول له: لماذا تعلم البنت؟ فهى فى النهاية ستتزوج وتجلس فى البيت، يقول لك: حتى يكون فى يديها " سلاح " وتقول له: وإذا طلقت بسبب السلاح أو لم تتزوج فما الحل؟ ! وهل كان مع أمها سلاح؟ هل كان معها " بكالوريا " ؟! وأمك أنت ماذا كان معها؟! ماذا كان سلاحهم؟!! ان السلاح هو رضا الله.
نعـــم: فهؤلاء الناس ينظرون الى المستقبل ولا يعيشون واقعهم، لا يعيشون يومهم.. وانظر حولك لترى الناس كيف يعيشون، وكيف تعلقت قلوبهم بالغد.
ولهذا، فلكى تصل الى رضا الله عش يوما بيوم، فاجعل كل يوم هدفا تصل به الى أعلى درجة فى الجنة.. ابدأ يوما جديدا من صلاة الفجر، وضع فى حسبانك أنه آخر يوم فى عمرك، ولذا تسأل نفسك ماذا سأفعل؟.. أول شىء: أتوب – اللهم تب علينا يا رب.
إخوتاه، هل فيكم أحد يود أن يتوب اليوم؟ إذا قال: نعم تبت، قلت: من ماذا؟ قال: من كل شىء، قلت: لست صادقا.. إن الذى يقول: تبت من كل شىء يريد أن يخادع الله.. أخىّ، قل لى، حدد لى من أى ذنب تبت؟ من النظر للنساء، من الكذب، من السجائر، أم من النوم عن صلاة الفجر، أم من النفاق.. تبت من ماذا؟ من أكل الحرام، أم من حلق اللحية.. من أى شىء تبت؟!
سأعطيك فرصة أخرى الآن – وسمها اختبارا إن شئت -: استحضر فى ذهنك الآن ذنبا، ذنبا ثقيلا وتب منه الآن.. اذا هيا نتوب.. الآن الآن.. اللهم تب علينا يا رب.. اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا.
نعم – أيها الاخوة – تبدأ اليوم فتقول: اليوم سأتوب من النظر الى النساء.. وعد يا رب.. وعهد بينى وبينك، اليوم لن أنظر وليكن ما يكون، اليوم تحد.. اليوم سأحفظ ربعا، اليوم سأقرأ ثلاثة أجزاء، اليوم سأصوم، اليوم سأتصدق بخمسة جنيهات،.. وهكذا كل يوم تسأل نفسك: ماذا سأعمل اليوم؟ فيكون لك خطة عمل واضحة، فتنجز كل يوم شيئا جديدا، فيصبح لحياتك معنى.
يقول ابن القيم: " العبد من حين استقرت قدمه فى هذه الدار فهو مسافر فيها الى ربه، ومدة سفره هى عمره الذى كتب له. فالعمر هو مدة سفر الانسان فى هذه الدار الى ربه – تعالى – ثم قد جعلت الايام والليالى مراحل لسفره، فكل يوم وليلة من المراحل فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهى السفر. فالكيّس الفطن هو الذى يجعل كل مرحلة نصب عينيه، فيهتم بقطعها سالما غانما، فإذا قطعها جعل الاخرى نصب عينيه ولا يطول عليه الامد فيقسو قلبه ويمتد أمله ويحضره بالتسويف والوعد والـتأخير والمطل، بل يعد عمره تلك المرحلة الواحدة فيجتهد فى قطعها بخير ما بحضرته، فإنه إذا تيقن قصرها وسرعة انقضائها هان عليه العمل وطوعت له نفسه الانقياد الى التزود، فإذا استقبل المرحلة الاخرى من عمره استقبلها كذلك، فلا يزال هذا دأبه حتى يطوى مراحل عمره كلها فيحمد سعيه ويبتهج بما أعده ليوم فاقته وحاجته، فإذا طلع صبح الاخرة وانقشع ظلام الدنيا، فحينئذ يحمد سراه وينجلى عنه كراه، فما أحسن ما يستقبل يومه وقد لاح صباحه واستبان فلاحه ".
إذا نريد أن نجعل كل يوم وحدة مستقلة نعيشها ونخطط لها فى حينها، أما " غدا " فلا علاقة لنا به، فحينما يأتى سنفكر له فى حينه، وأما " أمس " فقد انقضى وانتهى فلا علاقة لنا به أيضا، نحن الآن فى " اليوم " ماذا سنصنع به، هل سنضيعه بالتفكير فى " أمس " و " غد "، أم أننا سنجعل حياتنا وحدة مستقلة نعيشها يوما بيوم لنريح ونستريح؟.
أخى فى الله، فاتتك صلاة بالأمس، فاعزم اليوم على الا تضيع فرضا فى جماعة.. بالأمس لم يكن فى القراءة خشوع ولا فهم ولا تركيز، وكانت دماغك مشغولة، فتوكل اليوم على الله، وارم حمولك عليه لتصل اليه، وعش يومك الذى أنت فيه.
ابن يومك وارفع بناءه بأداء ما يرضى الله، ويقرب اليه، بحيث أنك لو مت فى هذا اليوم دخلت الجنة – اللهم ارزقنا الجنة يا رب.
ويقول ابن القيم أيضا: " السنة شجرة، والشهور فروعها، والايام أغصانها، والساعات أوراقها، والانفاس ثمرها، فمن كانت أنفاسه فى طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت فى معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجداد يوم المعاد، فعند ذلك يتبين حلو الثمار من مرها " اهـ.
البنات اللواتى كنّ يتزين فى " الكوافير " فى دمياط وانهدم عليهن البيت متنّ.. أربع عرائس والبنات اللاتى معهن متنّ جميعا.. ولو كانت تلك البنت العروس تظن أنها ستموت لما دخلت، ولما ذهبت، ولعملت بطاعة الله فى آخر يوم تفارق فيه الحياة استعدادا للقاء الله.. وهكذا يومك، لابد أن تملأه بطاعة الله معتقدا أنه اليوم الاخير لك على الدنيا، والا فسيأتيك الموت كما اتى العرائس، فتموت ولم تصل الى الله.
أخى فى الله، حبيبى فى الله، أوصيك بوصية الامام الموفق ابن قدامة رحمه الله إذ يقول:
" فاغتنم – يرحمك الله – حياتك النفيسة، واحتفظ بأوقاتك العزيزة، واعلم أن مدة حياتك محدودة، وأنفاسك معدودة، فكل نفس ينقص به جزء منك. والعمر كله قصير، والباقى منه هو اليسير، وكل جزء منه جوهرة نفيسة لا عدل لها ولا خلف منها، فإن بهذه الحياة اليسيرة خلود الأبد فى النعيم أو العذاب الاليم، وإذا عادلت هذه الحياة بخلود الأبد، علمت أن كل نفس يعادل أكثر من ألف ألف عام فى نعيم، وما كان هكذا فلا قيمة له، فلا تضيع جواهر عمرك النفيسة بغير طاعة أو قربة تتقرب بها، فإنك لوكان معك جوهرة من جواهر الدنيا لساءك ذهابها، فكيف تفرط فى ساعاتك، وكيف لا تحزن على عمرك الذاهب بغير عوض؟! " اهـ.
وعن عمر بن ذر أنه كان يقول: " اعملوا لانفسكم – رحمكم الله – فهذا الليل وسواده، فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار، والمحروم من حرم خيرهما، إنما جعل سبيلا للمؤمنين الى طاعة ربهم، ووبالا للاخرين للغفلة عن أنفسهم، فأحيوا لله أنفسكم بذكره، فإنما تحيا القلوب بذكر الله عز وجل. كم من قائم لله – جل وعلا – فى هذا الليل قد اغتبط بقيامه فى ظلمة حفرته، وكم من نائم فى هذا الليل قد ندم على طول نومته عندما يرى من كرامة الله للعابدين غدا، فاغتنموا ممر الساعات والليالى والايام – رحمكم الله -، وراقبوا الله – جل وعلا – فى كل لحظة، وداوموا شكره " اهـ.
فلذلك أطالبك – أخى فى الله – لكى تصل الى رضوان الله جل جلاله بأمر مهم: هو ان تحصل لك عزلة شعورية تماما عن المستقبل وما يجرى فيه، لأنك لا تعلم الغيب، قال ربنا – جل جلاله -:
" وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا " (لقمان: 34)، ولا تخف من المستقبل فالله معك يعينك، وهو – سبحانه – لا يضيع عباده الصالحين " إن ولىّ الله الذى نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين "
(الاعراف: 196)، فدع عنك هم غد لغد، فرزق غد عند ربك، ولربما جاء " غد " فلم يجدك.. الهم ارزقنا حسن الخاتمة.
فالزم يومك الذى أنت فيه، وابذل قصارى جهدك فى أن تجعل من هذا اليوم مطية للوصول الى الله – تعالى -، فقد يكون آخر يوم لك فى هذه الحياة.. فيومك يومك يا طالب الوصول.
يقول ابن القيم رحمه الله: " هلمّ الى الدخول على الله ومجاورته فى دار السلام بلا نصب ولا تعب ولا عناء، بل من أقرب الطرق وأسهلها، وذلك أنك فى وقت من بين وقتين وهو فى الحقيقة عمرك، وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل، فالذى مضة تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار، وذلك شىء لا تعب عليك فيه ولا نصب ولا معاناة عمل شاق، وإنما هو عمل القلب، وتمتنع فيما فيما يستقبل من الذنوب، وامتناعك ترك وراحة، ليس هو عملا بالجوارح يشق عليك معاناته، وإنما هو عزم ونية جازمة تريح بدنك وقلبك وسرك، فما مضى تصلحه بالتوبة، وما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية، وليس للجوارح فى هذين نصب ولا تعب، ولكن الشأن فى عمرك، وهو وقتك الذى بين الوقتين، فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك، وإن حفظته مع إصلاح الوقتين الذى قبله وبعده بما ذكرت، نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم ".
هذه خلاصة الكلام أيها السائر: يومك يومك.
* * *
مختارات