أنماط: (56) نمط الخائفين من التجديد
أخذٌ ورد.. ومحاوراتٌ ومناقشات طُرِحت عندما قَبِلَ الشيخ محمود خليل الحصري فكرة تسجيل القرآن على أسطوانات بصوته، ليكون بذلك أول من يُسجِّل القرآن كاملًا برواية حفص على مستوى العالم، وذلك في مطلع الستينيات من القرن العشرين، ولقد ذكر لي بعض علماء القراءات من المخضرمين بارك الله في أعمارهم، كيف أن الفكرة في البداية كانت مخيفة، وكيف أن جُلّ قُرَّاء هذا الزمان -إن لم يكن كلهم عدا الشيخ الحصري- قد رفضوها ابتداءً، كما تردَّدوا كثيرًا من قبلها حين بدأ الترتيل في إذاعة القرآن الكريم التي كان الشيخ الحصري من رُوَّادها أيضًا، وقد اختلفوا كثيرًا في ذكر أسباب هذا الرفض وبعضهم ذكر أسبابًا فقهية والبعض ذكر أسبابًا مادية، لن أُطيل في تفصيل ما قيل فأصل المسألة كان ببساطة تلك الرهبة.. رهبة الجديد.
لقد كان الخوف من المجهول، ومهابة أن تكون الأول والرائد، رغم أن خيرة الأمر ظاهرة، ونفعه واضح لا تخطئه عين فقيه، لكن فكرة أن يستعيض الناس عن أريكة القارئ العتيقة بجهاز جرامافون يستمعون من خلاله إلى تلاوة القرآن في أي وقت كانت على ما يبدو فكرة مرعبة..
فلما زالت الرهبة وأخذ الحصري زمام المبادرة فسجَّل المصحف بصوته الجميل، أقبلوا وبدأوا تِباعًا في تسجيل القرآن ليتردَّد صدى أصواتهم في أنحاء الدنيا، وليُصبِح الناس كل يوم على صوت الحصري الرخيم أو تلاوة المنشاوي الخاشعة أو روعة ترتيل عبد الباسط رحمهم الله جميعًا، لكن يظل السبق للشيخ الحصري فهو الذي استطاع أن يواجه رهبة الجديد، ويقتحم خوفه من المجهول، ولا يأبى باستهجان المستهجنين أو مزايدة المزايدين، وكذلك كل جديد دائمًا ما يواجه بعراقيل الخوف وعوائق الاستهجان، وربما التحقير من شأنه وامتهانه من البعض، فدائمًا ما كانت الرهبة من الوسائل الحديثة والطرق الجديدة والسُبل المبتكرة..
ولو رجعنا إلى دفاتر التاريخ وقلَّبنا صفحاته القديمة لوجدنا في البداية تحفُّظًا على جمع المصحف رغم الاحتياج الشديد، لذلك بعد مقتل الحفاظ في الحروب واتساع رقعة الأمة المسلمة، هنا قرَّر سيدنا أبو بكر رضي الله عنه أن يجمع المصحف، وزالت الرهبة وشرح الله صدور الصحب الكرام، وكان الفضل العظيم وصار بين أيدينا مصحف مجموع.
للأسف كثير من الخلق يظلون دائمًا مرتبطين بما اعتادوه أما المغيرون المُجدِّدون فلا ينبغي أن يخضعوا أبدًا لقيود الاعتياد والنمطية، وما كان لصاحب رؤية أن يُقدّم جديدًا، لو ظل يسير خلف ما اعتاده الناس وحسب، ولم يكن العالم ليشهد تلك الثورة التقنية والمعلوماتية الهائلة لو استمع أصحاب العقول لما يُمليه الجمهور من اعتياد ونمطية فرضخوا لوسائلهم القديمة وحسب، لذا تجد الشرع في نطاق الوسائل القابلة للتحديث يذر مجالًا للتجديد والتطوير ولا يغلق إمكانية التحديث والتغيير فقط يضبطها بضوابطه وحدوده، فتظل الوسائل لها أحكام المقاصد، فلا تستعمل وسيلة مُحرَّمة لمقصد حلال، بل لا بُدَّ أن تكون الطريقة جائزة لتؤدي إلى الغاية الجائزة..هذا هو الشرط.
أما من حيث التفاصيل والأدوات، فتجد {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال من الآية:60].. تأمَّل الإطلاق في قوله {مَا اسْتَطَعْتُمْ} لتعم كل قوة يستطيع الإنسان أن يُحصِّلها.
المسألة إذن.. ليست قاصرة على سيفٍ ورمح، أو خيل ودابة بل انطلِقوا وابتكِروا وجدِّدوا ما استطعتم، ما دام كل ذلك في إطار من الضبط وعدم التجاوز والانتهاك لحدود الله، لكن للأسف تظل لكل جديد رهبته ويظل منه خوف وفزع وأحيانًا استهجان وامتهان مهما كان هذا الجديد نافعًا ويحتاج إليه الخلق.
مختارات