قال تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم، إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
من أقبل على الله قذف الله في قلبه نوراً يرى به الحق حقاً و الباطل باطلاً:
أيها الأخوة الكرام، لازلنا في آيات الأمثال، والآية اليوم:
﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
[سورة النور:35]
أيها الأخوة الكرام، بادئ ذي بدء: الله نَوَّر الكون بالشموس، ونَوَّر القلوب بأنواره، لذلك:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾
[سورة الحديد: 28]
أهم قضية في الإيمان أنك إذا أقبلت على الله قذف الله في قلبك نوراً، رأيت الخير خيراً والشر شراً، الإنسان قبل أن يعمل عملاً يسبق هذا العمل رؤيا، هذه الرؤيا إما أنها صحيحة، فيأتي عمله صحيحاً، وإما أنها رؤيا سيئة، فيأتي عمله سيئاً، أين يختلف الناس؟ في الرؤيا، الذي أقدم على السرقة، رأى أن السرقة كسب وفير بجهد قليل، أما المؤمن فيرى السرقة عدوان، والعدوان له عقاب، ولا بدّ للسارق من أن يدفع ثمن هذه المعصية غالياً، قضية رؤيا، سيدنا يوسف عندما دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها، لو أن مليون شاب وضع في ظرف سيدنا يوسف لرأى معظم هؤلاء أن هذا مغنماً كبيراً، لكن هذا النبي الكريم رأى أن الزنا جريمة كبيرة:
﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾
[سورة يوسف: 23]
أكبر شيء في الإيمان النور الذي يقذفه الله في قلب الإنسان:
أنت بالنهاية أمام شيء، إما أنك تملك نوراً تكشف حقيقته، فتقبل أو لا تقبل، بحسب ما رأيت، أو أن هذا الإنسان في بعد عن الله، في ظلام، في عمى، يقترف شيئاً يتوهمه صالحاً وهو غير ذلك، لذلك أكبر شيء في الإيمان هذا النور الذي يقذفه الله في قلبك، والدليل قرآني:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾
[سورة الحديد: 28]
هذا المعنى يتضح جلياً حينما تركب مركبة في ليلة ليلاء، والطريق متعرج، وخطر، وعن يمينه واد سحيق، والطريق فيه أكمات، وحفر، ومشكلات كثيرة بين الذي يملك مصباحاً وضاءً يرى كل شيء فيتقي الحفرة، ويبتعد عن الأكمة، وبين الذي يتحرك وليس معه مصباح، فالحادث حتمي، أي إنسان منقطع عن الله قلبه في ظلمة، يتحرك بشهوته، لا يرى عواقب الشهوات، هؤلاء المجرمون، هؤلاء القتلة، هؤلاء الزناة، ماذا رأوا حينما أقدموا على جريمتهم؟ رأوا هذا خيراً لهم فأقبلوا عليه.
الرؤيا التي تسبق العمل هي أخطر شيء في حياة الإنسان:
بالمناسبة أنت في الأصل أيها الإنسان جبلت على حبّ ذاتك، على حبّ سلامتك، على حبّ سعادتك، على حبّ استمرار وجودك، ليس على وجه الأرض إنسان من الستة آلاف مليون إلا وهو حريص حرصاً لا حدود له على سلامة وجوده، وعلى كمال وجوده، وعلى استمرار وجوده، ما دام الإنسان حريصاً على سلامته، من أين يأتي الشر؟ من أين يأتي الخطأ؟ يأتي الخطأ والشر من سوء الرؤيا، أكبر دليل أزمة أهل النار في النار أزمة علم فقط:
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾
[سورة الملك: 10]
اعتقد يقيناً أن الرؤيا التي تسبق العمل هي أخطر شيء في حياتك، فإن كانت هذه الرؤيا صحيحة، متطابقة مع كتاب الله، مع سنة رسول الله، مع وحي الله، فأنت مؤمن، وإن جاءت الرؤيا مختلفة عن منهج الله، مثلاً المؤمن يرى أن أي كسب حرام لا بدّ من أن يدمر هذا الكسب، لأن المال الحلال يذهب، لكن الحرام يذهب بأهله، فالمؤمن عنده قناعة لا يمكن أن يأكل قرشاً حرام، عنده يقينيات يتحرك برؤيا، يتحرك ببصيرة، يتحرك بنور، هذه الرؤيا هي أثمن ما تملك أيها المؤمن، بهذه الرؤيا تبتعد عن معصية الله، بهذه الرؤيا تبتعد عن كسب المال الحرام، بهذه الرؤيا تبتعد عن أن تعتدي على أعراض الناس، بهذه الرؤيا تبتعد عن أن تتوهم أنك إن كنت قوياً لك أن تفعل ما تشاء دون أن تحاسب، والحقيقة أن الإنسان مهما يكن قوياً سوف يحاسب حساباً عسيراً، لذلك البطولة أن تملك هذا النور، هذا النور سببه طاعة الله عز وجل، إذا استقمت على أمره، وأقبلت عليه، أعطاك أول مكافأة أنه يقذف في قلبك نوراً.
ثمار الصلاة التي تسبقها الاستقامة لا تقدر بثمن:
أيها الأخوة الكرام، وقد يسأل سائل ما الوسيلة؟ ومتى؟ وكيف؟ وأين؟ الجواب دقيق جداً: حينما أمرك الله أن تتصل به كل يوم خمس مرات، هذا الاتصال يعني أنك إذا أقبلت عليه ألقى في قلبك نوراً، لا تظن أن الصلاة قضية وقفت، وقرأت، وركعت، وسجدت، الأمر الإلهي أكبر من ذلك، والدليل حينما قال الله عز وجل:
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء َالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾
[سورة العنكبوت الآية: 45]
قال علماء التفسير: " ذكر الله أكبر ما فيها "، لكن الإمام ابن عباس الصحابي الجليل قال: " ذكر الله لك أيها المصلي وأنت في الصلاة أكبر من ذكرك له "، تقف أنت في الصلاة، تذكر الله، الحمد لله رب العالمين، إياك نعبد وإياك نستعين، أنت في الصلاة تذكره، لكنه إذا ذكرك في الصلاة ـ هنا الشاهد ـ منحك الحكمة، والله لا أبالغ إن أكبر عطاء على الإطلاق أن تؤتى الحكمة، وينبغي أن تصدق الله عز وجل حينما قال:
﴿ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً ﴾
[سورة البقرة: 269]
أنت حينما تتصل بالله يؤتيك الله الأمن، الشعور بالأمن شعور لا يقدر بثمن، وهو خاص بالمؤمنين، قال تعالى:
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴾
[سورة آل عمران الآيات: 81-82]
تملك الحكمة، تملك الأمن، تملك الرضا، تملك الحب، تملك السعادة، تملك السكينة، تملك التوفيق، تملك أن الله يدافع عنك، تملك أنك بعين الله:
﴿ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾
[سورة الطور: 48]
تملك أن الله لا يتخلى عنك، تملك وداً بينك وبين الله، أي ثمار الصلاة التي تسبقها الاستقامة لا تقدر بثمن.
المؤمن مبصر يرى ما لا يراه الآخرون ويسمع ما لا يسمعون:
لذلك:
﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ﴾
[سورة النور:35]
المشكاة الكوة في الحائط يوضع فيها المصباح، فصدر المؤمن كالمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري، أي نور الله الذي يقذفه الله في قلبك يصبح كوكباً درياً، المؤمن مبصر، المؤمن يرى ما لا يراه الآخرون، يسمع ما لا يسمعون، المؤمن ملهم، المؤمن مسدد، المؤمن موفق:
﴿ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ﴾
[سورة النور:35]
متألق.
المسلمون يستمدون مبادئهم وقيمهم من منهج الله عز وجل:
﴿ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ ﴾
[سورة النور:35]
عندنا فكر شرقي، وفكر غربي، وعندنا مبادئ علوية من الله، الآن العالم شرق وغرب، ومسلمون، المسلمون يستمدون مبادئهم وقيمهم من السماء، من منهج الله عز وجل، من منهج الواحد الديان:
﴿ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ ﴾
[سورة النور:35]
وكأن الله عز وجل أشار في هذه الآية إلى أن هذه الشجرة شجرة الزيتون إنها شجرة مباركة:
﴿ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾
[سورة النور:35]
أثمن عطاء يملكه الإنسان أن يقذف الله في قلبه نوراً يسدد خطاه:
أثمن عطاء تملكه أن يقذف الله في قلبك نوراً، هذا النور يسدد خطاك، تقف الموقف الكامل، الموقف العادل، الموقف المشرف، لا تستفزك الأحداث، لا يستثيرك الشيطان، لا تكون خطأ لإنسان، ضحية لجهل، ضحية لبعد عن الله عز وجل، هذا النور ثابت في القرآن الكريم:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾
[سورة الحديد: 28]
أيها الأخوة الكرام، هذا النور أثره واضح جداً، هذا الذي لا يفكر في غير الزواج، مسموح له أن يتزوج، لكن ليس مسموح له أن يلتقي بامرأة لا تحل له، مسموح له أن يسكب مالاً حلالاً عن طريق تجارة مشروعة، وليس مسموح له أن يأكل مالاً حراماً، تجد المؤمن عنده حالة اسمها السلام، ما دام على منهج الله هو في سلام، لا يوجد حالات دمار، دمار مال، دمار سمعة، لأنه يتحرك وفق منهج الله عز وجل، وأوضح مثل تركب مركبة في طريق متعرج، عن يمينه واد سحيق، وعن يساره واد سحيق، والوقت ظلام دامس، يمكن أن يكون المصباح سبب نجاتك، لا بدّ من حادث قطعي ما دام الطريق متعرجاً، وعن يمينه واد ولا تملك مصباحاً إطلاقاً، والطريق فيه عقبات، وأكمات، إذاً الدمار محقق، واعتقد يقيناً أن كل إنسان مقطوع عن الله عز وجل لابدّ من أن يقترف خطأ كبيراً، لكن بهذا النور الذي تستقيه من الله عز وجل من خلال الصلاة يسدد الله لك المشي في الطريق، تتضح الأهداف، تتضح الوسائل، تتضح معالم الطريق، فالمؤمن يتحرك هكذا:
﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
[سورة الملك: 22]
هناك نور، الطريق واضح.
وراء كل خطأ جسيم رؤيا خاطئة:
لذلك اعتقد يقيناً أن قلة قليلة لا تزيد عن خمسة بالمئة من البشر يعرفون سرّ وجودهم، وغاية وجودهم، ليس هناك فئة تزيد عن خمسة بالمئة من البشر يتحركون بنور الله عز وجل، كسبه حلال، إنفاقه حلال، علاقاته مع النساء مشروعة كلها، علاقة زواج مع زوجته، علاقة قرابة مع والدته، مع أخته، لا يوجد علاقات محرمة، لا يوجد كسب غير مشروع، لا يوجد عدوان على الآخرين، لا يوجد تطاول، لا يوجد كبر، هذه كلها من ضعف الصلة بالله، ومن ضعف الرؤيا، لذلك اعتقد أن وراء كل خطأ جسيم رؤيا خاطئة، سببها بعد عن الله عز وجل، وراء كل توفيق كبير رؤيا صالحة صحيحة سببها القرب من الله عز وجل، هذا معنى قوله تعالى:
﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ﴾
قوة،
﴿ فِيهَا مِصْبَاحٌ ﴾
القلب،
﴿ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ﴾
في الصدر،
﴿ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ﴾
قلبه مستنير، يقذف الله في قلبك النور،
﴿ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾
بعضهم قال: النبي عليه الصلاة والسلام،
﴿ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ ﴾
لا يمين ولا يسار، ولكن من وحي السماء،
﴿ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ ﴾
هناك رؤيا وهناك نص، النور الأول نور الرؤيا من الله عز وجل، النور الثاني نور النص، هناك زجاجات فيها مواد بيضاء، مسحوق أبيض، مكتوب هنا ملح، كلمة ملح تنير لك حقيقة هذه الزجاجة، هنا صودا، هنا فرضاً سكر، الكلمات تنير المضمون، فهناك نور على نور، نور رؤيا ونور نص، كلاهما يتعاونان،
﴿ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾
الهدى مبذول لكل الناس،
﴿ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
والحمد لله رب العالمين
مختارات