تمهيد
المقدمة:
اعلم أخى الحبيب أن للسير الى الله أصولا وضوابط وثمة أمر مهم وهو أن للسائرين الى الله هم المصطفون من خلق الله، قال تعالى " ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ " (فاطر 32). فكلهم مصطفون مختارون لسلوك هذا الطريق..فان سلكت فأبشر، ولكن انضبط واشكر كى لا تطرد.
ومن سنة البشر فى حياتهم أن الطريق لا يمكن أن تسلك الا بعلامات للاهتداء واشارات للمسير توضح المراحل وتدفع المخاطر وتسهل اجتياز العقبات وتيسر قطع الفلوات، وقد تكون هذه العلامات سمعية او بصرية كما انها قد تكون للتوضيح والارشاد او للتنبيه والاعتراض. وهكذا فان المسافر فى طريق الوصول الى الله يحتاج الى التوعية والتنبيه بمواعظ هى اشارات ساطعة فى دربه الطويل وتنبيهات تقيه شر المنعطفات.
وهذه الطريق – أيها الاخ الكريم – تحتاج الى علم مهم جدا وخطير هو علم السلوك.. يقول ابن القيم – عليه رحمة الله – فى " طريق الهجرتين ": " السائر الى الله تعالى والدار الاخرة بل كل سائر الى مقصد لا يتم سيره ولا يصل الى مقصوده الا بقوتين: قوة علمية وقوة عملية.فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق ومواضع السلوك فيقصدها سائرا فيها ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل. فقوته العلمية كنورعظيم بيده يمشى به فى ليلة مظلمة شديدة الظلمة فهو يبصر بذلك النور ما يقع الماشى فى الظلمة فى مثله من الوهاد والمتالف ويعثر به من الاحجار والشوك وغيره ويبصر بذلك النور ايضا اعلام الطريق وأدلتها المنصوبة عليها فلا يضل عنها فيكشف له النور عن الامرين: اعلام الطريق، ومعاطبها. وبالقوة العملية يسير حقيقة، بل السير هو حقيقة القوة العملية، فان السير هو عمل المسافر وكذلك السائر الى ربه اذا ابصر الطريق وأعلامها وابصر المعاثر والوهاد والطرق الناكبة عنها فقد حصل له شطر السعادة والفلاح، وبقى عليه الشطر الاخر وهو ان يضع عصاه على عاتقه ويشمر مسافرا فى الطريق قاطعا منازلها منزلة بعد منزلة فكلما قطع مرحلة استعد لقطع للاخرى واستشعر القرب من المنزل فهان عليه مشقة السفر ".
نعم ايها الحبيب المحب: ان الطريق الى الله تعالى تقطع بالقلوب لا بالاقدام..نعم: هى طريق طويلة ونعم هى مأهولة فقد سارها قبلك المصطفون الاخيار من خيرة خلق الله على مدار العصور.
ولكن هذه الطريق فى عصرنا صارت مجهولة لاكثر الناس وذلك لاعراض الناس عنها بل وتنكبها.
فلذا انت تحتاج الى علم..علم حقيقى بهذه الطريق.. وكما ذكر ابن القيم- عليه رحمة الله – أنك تحتاج الى قوة علمية يعنى ان تتعلم..ولا يظنن ظان أن السائر الى الله لا علاقة له بطلب العلم.. فما له والعقيدة أو الفقه او المصطلح او الاصول، بل وما أشغله عن الدعوة الا الله. وقع هذا الظن من أحوال الصوفية فقد اعتقد أكثر الناس أن معنى " سائر " و " الطريق " وغيرها من هذه الكلمات هى الصوفية وهى مرتبطة بالابتداع..وما حصل هذا الابتداع الا بسبب الجهل والانصراف عن العلم والاكتفاء بمجرد الرياضات الروحية. ولكن عندنا وفى منهجنا أن طلب العلم أصل الوصول وهو لا يفارق السائر أبدا.. فلابد أولا من منهج علمى منضبط ذى مراحل فى كل فروع العلم: عقيدة وفقه وتفسير وسيرة وحديث....العلم قبل القول والعمل والا ضللت ولم تصل..لابد من قوة علمية، ثم القوة العملية: أن تبدأ تنفيذ هذا العلم فى الواقع.. أن تسير حقيقة. واننى أطالبك – أيها الحبيب- ان تستشعر هذا المعنى: أنك سائر..أنك مسافر..أنك راحل.. " يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ " (الانشقاق:6).. " ما لى وللدنيا انما انا كراحل ".. هذا شعارك فى هذه الدنيا.. ولا بد ان تتوازى وتتوازن القوتان العلم والعمل، والا فهلاك آخر وضلال من نوع آخر، والجنون فنون يقول ابن القيم – عليه رحمة الله -: " ومن الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفا فى القوة العملية يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فاذا حضر العمل شارك الجهال فى التخلف وفارقهم فى العلم، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمه الله ولا قوة الا بالله. ومن الناس من تكون له القوة العملية الارادية وتكون أغلب القوتين عليه وتقتضى هذه القوة السير والسلوك والزهد فى الدنيا والرغبة فى الاخرة والجد والتشمير فى العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات فى العقائد والانحرافات فى الاعمال والاقوال والمقامات كما كان الاول ضعيف العقل عند ورود الشهوات،فداء هذا من جهله، وداء الاول من فساد ارادته وضعف عقله، وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم بل على طريق الذوق والوجد والعادة، يرى أحدهم أعمى عن مطلوبه لا يدرى من يعبد ولا بماذا يعبده، فتارة يعبده بذوقه ووجده، وتارة يعبده بعادة قومه وأصحابه من لبس معين أو كشف رأس أو حلق لحية ونحوها، وتارة يعبده بالاوضاع التى وضعها بعض المتحذلقين وليس له أصل فى الدين، وتارة يعبده بما تحبه نفسه وتهواه كائنا ما كان. وهنا طرق ومتاهات لا يحصيها الا رب العباد. فهؤلاء كلهم عمى عن ربهم وعن شريعته ودينه لا يعرفون شريعته ودينه الذى بعث به رسله وأنزل به كتبه ولا يقبل من أحد دينا سواه كما انهم لا يعرفون صفات ربهم التى تعرف بها الى عباده على ألسنة رسله ودعاهم الى معرفته ومحبته من طريقها، فلا معرفة له بالرب ولا عبادة له. ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره الى الله تعالى ورجى له النفوذ وقوى على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته ".
وهكذا – اخى الحبيب – فهمت ان بعض الناس له قوة علمية.. يعنى تعلم العلم وعرف الطريق ثم لم يسلكها فهو منافق عليم النفاق، قال سبحانه: " مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " (الجمعة 5).
والذى عنده قوة عملية بدون علم..يعنى هو نشيط فى العبادة جدا متحمس للدين جدا فانه ولا شك سيخطىء ويبتدع.. ولذلك فلابد فى هذا الطريق- أيها الاخ الكريم- أن تتوازن القوتان العلمية والعملية، وأن يكون لك منهج للعلم ومنهج للعبادة والعمل ويسير المنهجان فى ذات الوقت وتتم المتابعة عليهما ويكون التدرج فيهما حتى يتم الوصول. وثمة شروط أخر..هذه الشروط هى أولى الومضات التى تنير لك الطريق فيشرق بها.. فيسهل المسير الى الله... ان شاء الله.
مختارات