العلي - الأعلى - المتعال (( جل جلاله وتقدست أسماؤه ))
العلي - الأعلى - المتعال
( جل جلاله وتقدست أسماؤه )
المعنى اللغوي:
يأتي العُلُو في اللغة على أربعة معاني:
1- علو كل شيء ارتفاعه، ويقال: علا فلانٌ الجبل إذا رقيه ويعلو عُلُوًا.
2- القهر والغلبة: يقال: علا فلانٌ فلانًا إذا قهره، وعلوتُ الرجل غلبتُه، ومن قول العرب:
3- رفعة الشأن وعُلُو القدر: تقول العرب: ( على كعبه أي ارتفع شأنه، كقوله تعالى: { وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَى } [ طه: 4 ]، والمعنى: هي الأشرفُ والأفضل بالإضافة إلى هذا العالم، وتعالى: أي ترفَّع.
4- الكبر: كما قال تعالى في فرعون: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ } [ القصص: 4 ]. وقال أيضًا: { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ } [ يونس: 83 ]، وأيضًا كما قال تعالى في قوم فرعون: { فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ } [ المؤمنون: 46 ].
ورود هذه الأسماء في القرآن الكريم:
ورد اسم اللَّه ( العليُّ ) في ثمانية مواضع منها:
- قوله تعالى: { وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ البقرة: 255 ].
- وقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ الحج: 62 ].
- وقوله تعالى: { فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [ غافر: 12 ].
وأما اسم ( الأعلى ) فقد جاء في موضعين:
- في قوله تعالى: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } [ الأعلى: 1 ]، وقوله: { إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى } [ الليل: 20 ].
وأما ( المتعال ) فقد جاء مرة واحدة في قوله: { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } [ الرعد: 9 ].
معنى الأسماء في حق اللَّه تعالى:
قال ابن كثير رحمه اللَّه: ( وقوله: { وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ الحج: 62 ] كما قال: { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ البقرة: 255 ]، وقال: { الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } [ الرعد: 9 ] فكل شيءٍ تحت قهره وسلطانه وعظمته لا إله إلا هو ولا رب سواه ؛ لأنه العظيم الذي لا أعظم منه، العلي الذي لا أعلى منه، الكبير الذي لا أكبر منه تعالى وتقدس، وتنزَّه عزَّ وجلَّ عما يقول الظالمون المعتدون علوًا كبيرًا([1]).
فتعالى اللَّهُ عما يقول الجهميةُ وأشباهُهُم أن اللَّهَ في كل مكان، وأنه أعلى وأسفل ووسط ومع كل شيء وفي كل موضع من أرض وسماء وفي أجواف جميع الحيوان، تعالى اللَّه عما يقولون علوًا كبيرًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه: ( وهو سبحانه وصف نفسه بالعلو، وهو من صفات المدح له بذلك، والتعظيم ؛ لأنه من صفات الكمال كما مدح نفسه بأنه العظيم، والعليم، والقدير والعزيز والحليم ونحو ذلك وأنه الحي القيوم، ونحو ذلك من معاني أسمائه الحسنى فلا يجوز أن يتصف بأضداد هذه الصفات ).
فلا يجوز أن يوصف بضد الحياة والقيومية والعلم والقدرة مثل الموت والنوم والجهل والعجز واللغوب ولا بضد العِزة وهو الذُّل ولا بضد الحكمة وهو السفه، فكذلك لا يُوصف بضد العلو وهو السفول، ولا بضد العظيم وهو الحقير، بل هو سبحانه مُنزَّه عن هذه النقائص المنافية لصفات الكمال الثابتة له، فثبوت الكمال له ينفي اتصافه بأضدادها وهي النقائص([2]). اهـ.
وقال ابن القيم رحمه اللَّه:
* * *
من آثار الإيمان بهذه الأسماء الكريمة
1- وجوب الإيمان بالعلو المطلق لله تبارك وتعالى من كل الوجوه:
قال ابن القيم رحمه اللَّه:
وقال السعديُ ( العليُّ الأعلى ): وهو الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه: علو الذات وعلو القدر والصفات، وعلو القهر والكبرياء، فهو الذي على العرش استوى، وعلىالملك احتوى، وبجميع صفات العظمة والكبرياء والجلال والجمال وغاية الكمال اتصف وإليه فيها المنتهى([4]). اهـ.
إذن فجميع أنواع ومعاني العلوم ثابتة له سبحانه وتعالى دون أن نُعطِّل أو نُؤول شيئًا منها، ومن أنواع العلو الثابتة لله جلَّ جلاله ما يلي:
أولاً: إن اللَّه هو العلي في ذاته([5]):
فقد قال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه: 5 ]، وأخبر تعالى أن الأعمال الصالحة والكلام الطيب إليه يصعدان. قال تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر: 10 ]. وقال تعالى: { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ } [ غافر: 15 ].
قال ابن كثير في تلك الآية: يقول تعالى مخبرًا عن عظمته وكبريائه وارتفاع عرشه العظيم على جميع مخلوقات([6]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى([7]) عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها )([8]).
ثانيًا: هو العلي في كلامه:
قال تعالى: { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } [ التوبة: 40 ]، فكلام اللَّه أعلى الكلام وأحكام الله أعلى الأحكام، ومن ذلك كلامه الشرعي وكلامه القدري، فأما كلامه الشرعي فقد قال تعالى عن القرآن الكريم: { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ الزخرف: 4 ]، وقال تعالى: { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ } [ عبس: 13، 14 ].
قال ابن كثير: جميع القرآن في صحف مكرمة أي معظمة موقرة، ( مرفوعة ) أي عالية القدر، ( مطهرة ) أي من الدنس والزيادة والنقص([9]).
وقد وصف الوليد بن المغيرة - وهو رجل كافر - كلام الله بقوله: ( وإنه يعلو ولا يُعلى عليه ).
أما كلامه القدري، فإن الله إذا أراد شيئًا فَعَلَه وإذا أَمَرَ بشيءٍ حدث، قال تعالى: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس: 82 ]. وقال تعالى: { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا }.
ثالثًا: العلي في أسمائه وصفاته:
فهو العلي في الملك، قال تعالى: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ }، والعلي في أسمائِه قال تعالى: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى }.
رابعًا: واللَّه تعالى هو العلى في حكمه:
قال تعالى: { فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ }.
خامسًا: وهو العلى في وحدانيته: ( فليس له زوجة أو ولد ).
فهو العلي المنزه أن تكون له صاحبةٌ أو ولد، وهذا ما آمنت به الجن واعترفت به في قوله: { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَخَّذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا } [ الجن: 3].
وهو العلي أن يكون له شركاءٌ أو أندادٌ:
قال تعالى: { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } [ الإسراء: 42، 43 ].
2- النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي اللَّه عنهم يؤمنون بأن اللَّه في السماء:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحًا ومساء؟ )([10]).
وعن أنس رضي الله عنه أن زينب زوجة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: ( زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ، وزوجني اللَّهُ تعالى من فوق سبع سماوات ). وفي رواية: وكانت تقول: ( إن اللَّه أنكحني في السماء )([11]).
تعني قوله تعالى: { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا }. وكذلك كانت عقيدة التابعين بإحسان للسلف الصالح. فقد قال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب ( الإبانة ): ( وأَئِمتنا كسفيان الثوري، ومالك بن أنس، وسفيان بن عُيَيْنَة وحماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، والفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي، متفقون على أن اللَّه سبحانه بذاته فوق العرش وأن علمه بكل مكان وأنه يُرى يوم القيامة بالأبصار، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا )([12]).
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في العقيدة المشهورة عنه: ( طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأُمة، فما اعتقدوه اعتقدناه، فممَّا اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها، من غير تكييف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، وأن اللَّه بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يَحِلُّ فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستوٍ على عرشه في سمائه دون أرضه )([13]).
3- ثبوت الإيمان لمن آمن بعلو الله تبارك وتعالى:
من غير تعطيل ولا تأويل، فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يشهد بالإيمان لمن آمن بعلو الله. فعن معاوية بن الحكم السُّلمي رضي الله عنه قال: وكان لي جارية ترعى غنمًا لي قِبَلَ أُحدٍ والجوانية، فاطَّلَعْتُ ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها وأنا رجل من بني آدم، أسف كما يأسفون، لكني صَكَكْتُها صكَّةً، فأتيت رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فعظَّم ذلك عليَّ قلتُ: يا رسول اللَّه، أفلا أعْتِقُها ؟ قال: ( ائتني بها ). فأتَيْتُه بها، فقال لها: ( أين اللَّه ؟ ) قالت: في السماء، قال: ( من أنا ؟ ) قالت: أنت رسول اللَّه. قال: ( اعتقها فإنها مؤمنة )([14]).
قال أبو سعيد الدارمي: ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا دليل على أن الرجل إذا لم يعلم أن اللَّه عز وجل في السماء دون الأرض فليس بمؤمن، ولو كان عبدًا فأُعتق لم يَجُزْ في رقبة مؤمنة إذ لا يعلم أن اللَّه في السماء([15]). اهـ.
4- التواضع وذم التعالي والتكبر:
قال ابن مسعود رضي الله عنه: من تواضع لله تخشعًا رفعه اللَّه، ومن تكبَّر تجبرًا قسمه اللَّه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس تواضعًا لربه، فكان يقول: ( آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد )([16]).
وانظر إلى ذكائه صلى الله عليه وسلم وكم كان ربانيًّا، فعندما نزل قوله تعالى: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } قال: ( اجعلوها في ركوعكم )، وعندما نزلت: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } [ الأعلى: 1 ] قال: اجعلوها في سجودكم([17])، فاختار للناس تعظيم اللَّه في حال الخضوع وهو الركوع، وأمرهم في أعظم موقف تذل فيه جباهُهُم وتغبر فيه وجوههم بأن يذكروا الله ويسبحوه باسمه الأعلى ليتذكروا ذِلتهم لعزته وخضوعهم لقوته، فيكون ذلك سبب عزهم وهو أقرب المواقف للعبد من ربه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء )([18]).
5- ما علا شيءٌ من الدنيا إلا وُضِع:
عن أنس رضي الله عنه قال: كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تُسْبق أو لا تكاد تُسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ( حقٌ على اللَّه أن لا يرتفع شيءٌ من الدنيا إلا وضعه )([19]).
وصدق من قال: الدنيا إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست، وكم من مَلِكٍ له عَلاَمَاتٌ، فلما عَلاَ ماتَ.
أما التعالي الذي يعني التكبر ورغبة الترفع بالنفس عن الناس يجعل العبد جبارًا متكبرًا حتى يظن نفسه ندًا لله جل جلاله فيكون في ذلك هلاكه، كما قال فرعون لقومه: { أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى }.
والمتكبر الذي يريد التعالي عن خلق اللَّه إنما ينازع اللَّهَ صفاته، وقد قال تعالى في الحديث القدسي: ( العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني بشيءٍ منهما عذَّبتُه )([20]).
6- الإخـلاص
فإذا علم العبد أن الله تعالى هو العلى الأعلى فوق خلقه فهو فوقهم قاهر وعليهم قادر فلابد وأن يخشاه وحده ويرجوه وحده ويطلب منه الثوابَ وحده وقد وصف الله المخلصين بذلك كما قال تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل: 19، 20].
7- إن الله يحب معالي الأمور:
إن اللَّه تبارك وتعالى هو العلي، ولذلك فهو يحب معالي الأمور في كل شيء كالتوحيد والجهاد وحسن الخُلق... وهكذا.
وقد رُوى في بعض الحديث قال: ( إن اللَّه يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها )([21]).
8- ( أولئك لهم الدرجات العُلى ):
فإن اللَّه عز وجل هو العلي وهو الذي يرفع ويخفض ولا يعلو أحدٌ إلا بطاعته، ولعلوِ الناس عند اللَّه تبارك وتعالى أسباب.
فمن أسباب العلو:
1- الإيمان، والعلم. قال تعالى: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة: 11].
فإن الله يرفع بالعلم العبدَ المملوك حتى يجلسه مجالس الملوك وقد جاء فى الصحيح أن نافع بن الحارث أتى عمر بن الخطاب بعسفان وكان قد استعمله على أهل مكة فقال له عمر: ( من استخلفت على أهل الوادى ؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى فقال: ومن ابن أبزى ؟ فقال: رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى ؟ فقال: إنه قارىء لكتاب الله عالم بالفرائض. فقال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين )([22]).
قال إبراهيم الحربى: كان عطاء بن رباح عبدًا أسودًا لامرأة من مكة وكان أنفه باقلاه، قال: وجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه فجلسوا إليه وهو يصلى فلما صلى انفتل إليهم فمازالوا يسألونه عن مناسك الحج وقد حول قفاه إليهم، فقال سليمان لابنيه قوما فقاما، فقال: يا بنيا لا تُقصرا فى طلب العلم فإنى لا أنسى ذُلَّنا بين يدى هذا العبد الأسود.
وقال الحربى: وكان محمد ابن عبد الرحمن الأوقص عنقه داخلة فى بدنه وكان منكباه خارجين كأنهما زجان فقالت أمه: يا بنى لا تكون فى مجلس قومٍ إلا كنت المضحوك منه المسخور به فعليك بطلب العلم فإنه يرفعك، فوَلِىَ قضاء مكة عشرين سنة، قال وكان الخصم إذا جلس إليه بين يديه يرتعد حتى يقوم.
وقال عبد الله بن داود: سمعت سفيان الثورى يقول: ( إن هذا الحديث عز فمن أراد به الدنيا وجدها ومن أراد به الآخرة وجدها.
قال سفيان بن عيينة: أرفع الناس منزلة عند الله من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء.
وصدق القائل:
ما الفَضْلُ إلاَّ لأَهْلِ العِلْـم إنَّهُمُ عَلَى الهُدَى لِمَن اسْتَهْدى أَدلاَء
وقَدْرَ كُلِّ امْرىءٍ ما كَانَ يُحْسَنُه والجَاهِلُونَ لأهْلَ العلِم أَعَدَاءُ
فَفُزْ بِعلم تَعش حـــيا به أَبدًا الناسُ مَوْتَى وأَهْلُ العِلْم أَحْيَاءُ
2- القرءان تلاوته وحفظه والعمل به
عن عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين )([23]).
فإن الله يرفع صاحب القرءان فى الدنيا والآخرة فأما فى الدنيا بالبركة فى العمر والسعة فى الرزق وحب الناس.
وأما فى الآخرة فإن صاحب القرءان يرفعه الله فى الجنة ولا يزال يُرَّقِيَه حتى آخر آية معه.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضى الله عنهما) عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (يُقال لصاحب القرءان: اقرأ وارتقِ([24]) ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤوها )([25]).
وعن عائشة (رضى الله عنها) قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الذى يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة والذى يقرأن القرءان ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران )([26]).
والماهر: أى الذى يُجيد لفظه على ما ينبغى بحيث لا يتشابه ولا يقف فى قراءته، (مع السفرة) أى الملائكة أو الرسل (عليهم الصلاة والسلام) أى معهم فى منازلهم فى الآخرة.
قال القاضى: يُحتمل أن يكون معنى كونه مع الملائكة أن له فى الآخرة منازل يكون فيها رفيقًا للملائكة السفرة لإتصافه بصفتهم مِنْ حَمْل كتاب الله تعالى قال ويُحتمل أن يراد أنه عامل بعملهم وسالك مسلكهم)([27]).
3- التواضع:
لله ما أجمل هذه الصفة وما أعظمها فكم قرَّبت من الله عبدًا بعيدًا وكم أعقبت بعد تعبٍ عهدًا سعيدًا، وكم أثمرت بعد خمول ذكرٍ صيتًا مجيدًا، وكم رفعت بعد ذُلٍّ عبدًا رشيدًا.
والجزاء من جنس العمل.
قال تعالى: { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا } [ القصص: 183 ].
وقال النبى صلى الله عليه وسلم: ( ما نَقَصُتْ صدقةٌ من مال وما زاد اللهُ عبدًا بعفو إلا عِزَّا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله ) ([28]).
وعن ابن عباس (رضى الله عنهما) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من آدمى إلا فى رأسه حَكَمَة([29]) بيدِ مَلَك، فإذا تواضع قيل للملك: ( ارفعْ حكمته، وإذا تكبر قيل للملك: ضع حكمته )([30]).
ولذلك فإن المتكبر والذى يُريد العلو على الخلق فإن الله يجزيه بضد ما قصد.
فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ( يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر فى صور الناس يعلوهم كل شىء من الصغار حتى يدخلوا سجنا فى جهنم يقال له بولس تَعلوهم نار الأنيار يُسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار )([31]).
وقيل أن التواضع: ( هو أن تخرج من بيتك فما تلقى أحدًا إلا ظننته خيرًا منك).
4- " الشهادة فى سبيل الله " :
فإن الشهيد قد قاتل لتكون كلمةُ اللهِ هى العُليا وقُتِل من أجل ذلك فجازاه الله بأن رفعه وأعلى درجاته فى الجنة فمن ذلك.
( أولاً ) جُعِل مأواهم تحت العرش:
عن ابن مسعود (رضى الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أرواح الشهداء فى جوف طير خضر، لها قناديل تحت العرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوى إلى تلك القناديل … ) ([32]).
( ثانيًا ) للمجاهدين فى الجنة مائة درجة:
عن أبى هريرة (رضى الله عنه) عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( وإن فى الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض أعدها اللهُ للمجاهدين فى سبيله )([33]).
( ثالثًا ) من الشهداء من يسكن الفردوس الأعلى.
عن أنس (رضى الله عنه) أن أم الربيع بنت البراء وهى أم حارثة بن سراقة أتت النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ألا تحدثنى عن حارثة، (وكان قتل يوم بدر) فإن كان فى الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه فى البُكاء فقال: ( يا أم حارثة إنها جنان فى الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى )([34]). الله أكبر. ما أهنئه من عيش، وما أعظمه من رزق فى الفردوس الأعلى أتدرى أخى الحبيب ما هى الفردوس ؟
لقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: ( إذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة )([35]).
رابعًا: من الشهداء من يكلمه الله بغير حجاب:
عن جابر بن عبد الله (رضى الله عنهما) قال: لقينى رسول اللهصلى الله عليه وسلم فقال لى: ( يا جابر مالى أراك منكسرًا ؟ ).
قلت: يا رسول الله استُشْهِدَ أبِى، قُتِل يوم أُحُدٍ وترك عِيَالاً ودَيْنًا.
قال: ( أفلا أبشرك بما لَقِى اللهُ به أباك ؟).
قال: قلت بلى يا رسول الله. قال: ( ما كَلَّم اللهُ أحدًا قطُّ إلا من وراء حجاب ). وأحيا أباك فكلَّمه كِفاحًا([36]) فقال: ( يا عبدى تمَنَّ على أُعْطِك )، قال يارب تحيينى فأُقْتَل فيك ثانيةً، قال الربُّ عز وجل: ( إنه قد سبق منِّى: أنهم إليها لا يرجعون ). قال: وأُنزلت هذه الآية: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا } [آل عمران: 16]([37]).
9- ليس كمثله شيءٌ في عُلُوِّهِ:
فإن اللَّه هو العلي الأعلى جل جلاله وتقدست أسماؤه، فلا يدانيه أحدٌ في علوه، ولا يماثله شيءٌ في رفعته، وذلك من وجوه منها:
1- له العلو المطلق من جميع الوجوه:
فما من أحد من الخلق بلغ علوًا إلاَّ كان علوًا ناقصًا، فقد يعلو في مالٍ ولا يعلو في رياسة أو حُكم، أو يعلو في الدنيا ولا يعلو في الآخرة، وقد يعلو في وقتٍ دون آخر، أو في حال دون حال، كمثل من يعلو في حال قوته دون ضعفه، أو صحته دون مرضه، أو شبابه دون هرمه.
أما العلو المطلق من جميع الوجوه وفي كل الأحوال فهو لله عز وجل، فإن اللَّه تعالى هو العلي الذي لا أعلى منه ولا يعلو عليه بل لا يدانيه أحدٌ من خلقه.
ولذلك قال اللَّه عز وجل: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ... }. فإنه قد علا في الأرض وتكبر فيها ولم يستطع أن يعلو في السماء.
2- علو اللَّه دائم:
فعلو الخلق مؤقت يسبقه العدم ويلحقه الفناء.
أما علو اللَّه عز وجل فهو علوٌ لم يسبقه انخفاض ولا يلحقه دنو، دائم لا يتغير، ثابت لا يتبدل.
3- رحمته في علوه:
فكل من أصابه شيءٌ من علو الدنيا فإنه يبتعد عن الضعفاء والمساكين، وقد يأنف منهم.
أما اللَّه سبحانه وبحمده قريب في علوه، رحيم في كبريائه، ودودٌ في عظمته، عفوٌ في قدرته، لا يمنعه شيءٌ عن خلقه إذا دُعي أجاب، ولا يقف على بابه الحُجَّاب، قال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة ].
([1]) تفسير ابن كثير (3/222، 223).
([2]) ( مجموع الفتاوى ) (16/97- 98).
([3]) النونية (2/213- 214).
([4]) تيسير الكريم الرحمن (5/300).
([5]) فقد تضمنت هذه الأسماء إثبات علو ذات ربنا سبحانه وأنه عال على كل شيء وفوق كل شيء ولا شيء فوقه، بل هو فوق عرشه كما أخبر عن نفسه، وهو أعلم بنفسه.
([6]) تفسير ابن كثير (4/72).
([7]) فتأبى عليه. قال الشيخ الألباني: أي تمتنع إلا كان الله تبارك وتعالى ساخطًا عليها حتى يرضى عنها زوجها. والحديث دليل من عشرات الأدلة على أن اللَّه تعالى في السماء أي العلو المطلق، فوق العرش والمخلوقات كلها.
([8]) رواه مسلم (2/1436 - 121).
([9]) تفسير ابن كثير (4/455).
([10]) رواه البخاري (8/67)، ومسلم (2/742) مطولاً.
([11]) رواه البخاري (13/7420، 7421).
([12]) نقض تأسيس الجهمية (2/38).
([13]) تلبيس الجهمية لابن تيمية (2/40).
([14]) رواه أحمد (5/448)، ومسلم (1/573).
([15]) الرد على الجهمية (ص 39).
([16]) تقدم تخريجه.
([17]) أخرجه الطيالسي (1093)، وأحمد 4/155، وأبو داود (869)، وابن ماجه (887)، وابن خزيمة (600، 670)، وابن حبان (1898)، والحاكم 1/225. وصححه أيضًا الحاكم، وتعقبه الذهبي. وانظر فتح الباري لابن رجب الحنبلي 7/176، والإرواء 2/40.
([18]) رواه مسلم.
([19]) رواه البخاري.
([20]) صحيح: أخرجه البخاري في الأدب المفرد (552).
([21]) عزاه الشيخ الألباني إلى ابن عساكر، والضياء في المختارة عن سعد تبعًا للسيوطي في زوائد الجامع الصغير، وصححه الشيخ الألباني. (صحيح الجامع الصغير 2/123).
([22]) رواه مسلم (6/98) صلاة المسافرين.
([23]) سبق تخريجه.
([24]) وارتق: أى فى درج الجنة بقدر ما حفظته من آى القرءان.
([25]) رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
([26]) متفق عليه.
([27]) شرح الحديث فى صحيح مسلم (6/84) بشرح النووى " فضيلة حافظ القرءان ".
([28]) رواه مسلم.
([29]) الحَكَمَة هى لجام الدابة ولكل إنسان من بنى آدم حكمة يمسكها ملك من الملائكة.
([30]) صحيح لغيره. أخرجه الطبراني في الكبير (ج 2 /12939).
([31]) رواه الإمام أحمد، ورُوى عن ابن عمرو وقال ابن حجر فى المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: موقوف، إسناده حسن. انظر (4/375) حديث رقم 4629 عن المطالب.
و(الذرُّ) هو النمل الصغير.
([32]) رواه مسلم، والترمذي عن ابن مسعود.
([33]) رواه البخاري (6/11)، ومسلم (13/28) الإمارة، والترمذي (10/8) صفة الجنة، وابن ماجه (4331) الزهد.
([34]) أخرجه البخاري (2809) من حديث أنس، رضي الله عنه.
([35]) أخرجه البخاري (2790، 7423) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
([36]) كفاحًا: أى مواجهةً ليس بينهما حجاب ولا رسول.
([37]) حسن: أخرجه الترمذي (5/3010)، وابن ماجه (1/190، 2/2800).
مختارات