طهارته شرط الدخول
والسبب الثالث في أهمية القلب أن طهارته شرط دخول الجنة، لذا ذم الله خبثاء القلوب فقال: ﴿ أُولِئك الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ في الدُّنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظيْمٌ ﴾ [المائدة: 41]، والآية دليل دامغ على أن من لم يطهِّر قلبه فلا بد أن يناله الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة، ولهذا حرَّم الله سبحانه الجنة على من كان في قلبه مثقال ذرة من خبث، قال صلى الله عليه وسلم: « لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ».
ولا يدخلها أحد إلا بعد كمال طيبه وطهره، لأنها دار الطيبين، ولذا يُقال لهم وهم على مشارف الجنة: ﴿ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [الزمر: 73].
ويُبشَّرون عند موتهم دون غيرهم على لسان الملائكة: ﴿ الّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجنَّةَ بِمَا كُنْتمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 32].
قال ابن القيِّم: " فالجنة لا يدخلها خبيث، ولا مَن فيه شيء من الخبث، فمن تطهَّر في الدنيا ولقي الله طاهراً من نجاساته دخلها بغير معوِّق، ومن لم يتطهر في الدنيا ؛ فإن كانت نجاسته عينية كالكافر لم يدخلها بحال، وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر فى النار من تلك النجاسة، ثم يخرج منها حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط حُبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيهَذَّبون وينقَّون من بقايا بقيت عليهم قصرت بهم عن الجنة، ولم توجب لهم دخول النار، حتى إذا هُذِّبوا ونقوا أُذِن لهم في دخول الجنة ".
من أجل ذلك جاء الأمر جازما للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 4].
قال ابن القيِّم: " وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب ها هنا القلب، والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والأخلاق ".
النجاسة الكبرى
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾ [التوبة: 9]
فعبَّر سبحانه وتعالى عن نجاستهم بالمصدر للمبالغة ؛ وكأنهم عين النجاسة لأن خبائث الباطن أولى بالاجتناب وهل أخبث من الشرك؟! فإن خبائث القلب مع خبثها في الحال مهلكات في المآل، ومعنى آخر: هو أن الطهارة والنجاسة غير مقصورة على الظاهر، فالمشرك قد يكون نظيف الثوب مغسول البدن ولكنه نجس القلب، وهذا الذي ذهب إليه أهل المذاهب الأربعة إلى أن الكافر ليس بنجس الذات لأن الله سبحانه أحلّ طعامهم، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من فعله وقوله، فأكل في آنيتهم، وشرب منها، وتوضأ فيها، وأنزلهم في مسجده.
وإضافة إلى هذا ؛ فالنجاسات المعنوية ليست على درجة واحدة بل تتفاوت، وليس محلها قلوب الكفار فحسب، بل قد توجد في قلوب المسلمين، فالغضب والكبر والحسد وغيرها من أمراض القلوب نجاسة، وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد قال: « لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة »، فإن أبا حامد الغزالي [ت: 505] قد تأمل في هذا الحديث تأملا قد يكون بعيدا عن الظاهر لكنه ذو دلالة فقال:
" والقلب بيت هو منزل الملائكة، ومهبط أثرهم، ومحل استقرارهم، والصفات الرديئة مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب، ونور العلم لا يقذفه الله تعالى في القلب إلا بواسطة الملائكة، وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء، وهكذا ما يرسل من رحمة العلوم إلى القلوب إنما تتولاها الملائكة الموكلون بها، وهم المقدسون المطهرون المبرءون عن الصفات المذمومات، فلا يلاحظون إلا طيبا، ولا يعمرون بما عندهم من خزائن رحمة الله إلا طيبا طاهرا ".
مختارات