فقه الإيمان باليوم الآخر (٣)
ويوم القيامة يوم عظيم يجمع الله فيه الأولين والآخرين والمؤمنين والكافرين، والمطيعين والعاصين، ويجازي كلاً بعمله كما قال سبحانه: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠)} [التغابن: ٩، ١٠].
يجمع هؤلاء الخلائق ويحاسبهم الذي يجمع عظام الإنسان بعدما فرقها البلى ومزقها.
ويجمع للإنسان يومئذ جميع عمله الذي قدمه وأخره من خير وشر.
ويجمع ذلك من جمع القرآن في صدر رسوله وعباده المؤمنين.
يجمع المؤمنين في دار الكرامة فيكرم وجوههم بالنظر إليه.
ويجمع الكافرين في دار الهوان فيهينهم بحجابهم عنه.
وهو قادر على جمع الخلق كما جمع خلق الإنسان من نطفة من مني يمنى، ثم جعله علقة مجتمعة الأجزاء، بعدما كانت نطفة متفرقة في جميع بدن الإنسان.
فكيف ينكر الإنسان أن يجمع الله عظامه، وأن يجمع الله بينه وبين عمله وجزائه، وأن يجمع مع جنسه اليوم الجمع، وأن يجمع عليه من أمر الله ونهيه وعبوديته، فلا يترك سدى مهملاً معطلاً لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (٣٧) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣٩) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (٤٠)} [القيامة: ٣٦ - ٤٠].
بلى.
وهو الخلاق العليم.
العزيز الحكيم.
والإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، له قيمة كبرى في تعليق أنظار بني آدم وقلوبهم بعالم آخر بعد عالم الأرض.
فلا تستبد بهم ضرورات الحياة، ولا يسيطر عليهم الهم والقلق، وعندئذ يملكون العمل لوجه الله، وانتظار الجزاء حيث يقدره الله في طمأنينة ويقين.
إن حياة البشر لا تستقيم على منهج الله ما لم تطمئن قلوبهم إلى أن جزاءهم على الأرض ليس هو نصيبهم الأخير، وما لم يتق المسلم المحدود العمر إلى أن له حياة أخرى أدوم وأسعد، تستحق أن يجاهد لها، وأن يضحي لنصرة الحق والخير معتمداً على ما وعده الله من العوض فيها.
والإيمان بالحياة الآخرة نعمة يفيضها الإيمان على القلب، ونعمة يهبها الله للفرد الفاني العاني المحدود الأجل.
وما أغلق أحد على نفسه هذا المنفذ إلا وحياته ناقصة، أو مطموسة، أو مضطربة.
فالإيمان بالآخرة فوق أنه إيمان بعدل الله المطلق، وجزائه الأوفى، هو ذاته باعث للحيوية في النفس دافع لها نحو الدار الباقية، والمنازل العالية، والنعيم المقيم.
والإيمان باليوم الآخر نعمة يفيض السلام منها على روح المؤمن وعالمه، وينفي عنه القلق والسخط والقنوط.
فالحساب الختامي للبشرية ليس في هذه الأرض، والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (٢٦)} [الغاشية: ٢٥ - ٢٦].
فلا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة، فسوف يوفاه قطعاً بميزان الله غداً تاماً كاملاً أحوج ما يكون إليه.
ولا قنوط كذلك من العدل إذا توزعت الحظوظ في رحلة الحياة الدنيا على غير ما يريد ويراه الإنسان، فالعدل لا بد واقع في الدار الآخرة، وحين يحكم الله وحده بين عباده فهناك العدل والفضل والكرم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (٤٠)} [النساء: ٤٠].
والإيمان باليوم الآخر، حاجز عن الصراع والمنافسة في حطام الدنيا وملذاتها، والخوض في الحرمات والمحرمات، بلا تحرج ولا حياء.
فهناك الدار الآخرة فيها عطاء، وفيها غناء، وفيها عوض عما يفوت.
والإيمان بالآخرة يخفف من السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذ العمر القصير المحدود، فيطمئن قلبه أن النعيم الأوفى والأدوم ينتظره في الآخرة.
والإيمان باليوم الآخر أعظم أركان الإيمان بعد الإيمان بالله، ذلك أن الإيمان باليوم الآخر يقوم على أساس أن الله خلق الإنسان ليستخلفه في الأرض، بعهد منه يتناول كل صغيرة وكبيرة من نشاط الإنسان في الأرض.
وأن الله خلقه واستخلفه ليبتليه في حياته الدنيا ثم ينال جزاءه بعد نهاية الابتلاء.
وهذا الإيمان هو الذي يكف قلب المسلم وسلوكه وعمله في هذه العاجلة، فهو يمضي في طريق الطاعة، والقيام بالحق، وفعل الخير، سواء كانت ثمرة ذلك في الأرض راحة له أم تعباً، نصراً له أم هزيمة، حياة له أم موتاً، لأن جزاءه هناك في الدار الآخرة بعد نجاحه في الابتلاء جنة عرضها السموات والأرض.
مختارات

