فقه الإيمان باليوم الآخر (٤)
إن الإيمان باليوم الآخر يعطي الإنسان طاقة وقوة، فلا يزحزحه عن الطاعة والحق، والخير والبر أن تقف له الدنيا كلها بالمعارضة والأذى، والشر والقتل، فهو إنما يتعامل مع ربه العزيز الرحيم، وينفذ عهده وشرطه، وينتظر الجزاء المضمون هناك.
وما أقصر هذه الحياة الدنيا التي تزحم حسن الناس، وتشغل نفوسهم، وتأكل أوقاتهم، إنها رحلة سريعة يقضيها الإنسان هناك، ثم يعود إلى مقره الدائم، وداره الأصلية: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥)} [يونس: ٤٥].
حقاً كأنها ساعة من نهار قضاها الخلق في التعارف ثم رحلوا، وكأن الناس دخلوا ثم خرجوا ولم يفعلوا شيئاً سوى التعارف.
فهل هؤلاء الأفراد الذين يتنازعون ويتعاركون فيما بينهم، ويقع بينهم من سوء التفاهم كل ساعة ما يقع، هل هؤلاء تم تعارفهم كما ينبغي؟.
وهل هذه الأمم والشعوب المتناحرة، والدول المتخاصمة، التي تتعارك على الحطام والأعراض، هل هذه عرف بعضها بعضاً؟.
حقاً إنها الخسارة الفادحة لمن جعلوا همهم كله هو هذه الرحلة الخاطفة، وكذبوا بلقاء الله، وشغلوا عنه، فلم يستعدوا لهذا اللقاء بشيء يلقون به ربهم.
ولم يستعدوا كذلك بشيء للإقامة الطويلة في الدار الباقية.
فماذا ينتظر مثل هؤلاء من العذاب والتوبيخ والإهانة؟.
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)} [الأحقاف: ٢٠].
والاعتقاد باليوم الآخر ليس طريقاً لنيل الثواب في الآخرة فحسب، وإنما هو كذلك حافز على فعل الخير في الحياة الدنيا، وحافز على إصلاحها وإنمائها حسب أمر الله، على أن يراعى في هذا النماء على أنه ليس هدفاً في ذاته، وإنما هو وسيلة لتحقيق حياة لائقة بالإنسان، الذي نفخ الله فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وكرمه على كثير من خلقه، ورفعه عن درك الحيوان.
ولتكون أهداف حياته أعلى من ضرورات الحيوان، ولتكون دوافعه وغاياته أرفع من دوافع الحيوان وغاياته.
إن الإيمان بالآخرة هو الزمام الذي يكبح الشهوات والنزوات، ويضمن القصد والاعتدال، فالذي لا يؤمن بالآخرة لا يملك أن يحرم نفسه شهوة، أو يكبح فيها نزوة.
فالذي لا يحسب حساب الوقفة بين يدي الله، ولا يتوقع ثواباً ولا عقاباً يوم القيامة، ما الذي يمسكه عن إرضاء شهواته ونزواته، وتحقيق لذاته ورغباته؟:
{إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (٢٨)} [النبأ: ٢٧، ٢٨].
ومن لا يتوقع الحساب في الآخرة يندفع لنيل جميع شهواته بلا معوق من تقوى أو حياء.
والنفس مطبوعة على حب ما يلذ لها، وأن تجده حسناً جميلاً، ما لم تهتد بآيات الله ورسالاته إلى الإيمان بعالم آخر باق بعد هذا العالم الفاني، فإذا هي تجد لذتها في أعمال أخرى، وأشواق أخرى، تصغر إلى جوارها لذات البطون والأجسام.
والله تبارك وتعالى هو الذي خلق النفس البشرية، وجعلها مستعدة للاهتداء إن تفتحت لدلائل الهدى.
وجعلها مستعدة للعمى إن طمست منافذ الإدراك فيها.
ومشيئة الله نافذة وفق سنته التي خلق النفس البشرية عليها في حالتي الاهتداء والضلال.
فالذين لا يؤمنون بالآخرة نفذت فيهم سنة الله، في أن تصبح أعمالهم وشهواتهم مزينة لهم حسنة عندهم، فهم يعمهون لا يرون ما فيها من شر وسوء، حائرون لا يهتدون فيها إلى صواب، وعاقبتهم الخسران وسوء العذاب في الدنيا والآخرة: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥)} [النمل: ٤، ٥].
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة يعيشون في عذاب كما يعيشون في ضلال، فالذي يعيش بلا عقيدة في الآخرة يعيش في عذاب نفسي لا أمل له ولا رجاء في إنصاف ولا عدل ولا جزاء ولا عوض عما يلقاه في هذه الحياة.
وفي الحياة مواقف مخيفة، وابتلاءات جسيمة، لا يقوى الإنسان على مواجهتها إلا وفي نفسه رجاء الآخرة، وثوابها للمحسن، وعقابها للمسيء، وابتغاء وجه الله والتطلع إلى رضاه في ذلك العالم الاخر، الذي لا تضيع فيه صغيرة ولا كبيرة.
والذي يحرم هذه النافذة المضيئة، الندية المريحة، يعيش بلا ريب في العذاب والضلال في الدنيا والآخرة، فماذا عند الكفار من النعيم والسرور: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (٨)} [سبأ: ٨].
مختارات

