فقه الإيمان باليوم الآخر (٢)
والدين بالنسبة للعباد قسمان:
دين شرعي أمري.
ودين حسابي جزائي.
وكلاهما لله وحده، فالدين كله أمراً وجزاءً لله وحده لا شريك له.
والمحبة أصل ذلك كله:
فما شرعه الله لعباده وأمر به، فإنه يحبه ويرضاه، وما نهى عنه فإنه يكرهه ويبغضه، لمنافاته لما يحبه ويرضاه.
ودين العبد لله به إنما يقبل إذا كان عن محبة ورضى.
وكذلك دين الله الجزائي، فإنه يتضمن مجازاة المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وكل من الأمرين محبوب للرب عزَّ وجلَّ، فإنهما عدله وفضله، وكلاهما من صفات كماله.
والله عزَّ وجلَّ يحب أسماءه وصفاته، ويحب من يحبهما، ويحب من يعمل بموجبهما.
وكل واحد من الدينين:
الأمري الشرعي، والحسابي الجزائي.
صراطه المستقيم الذي هو عليه.
فهو سبحانه على صراط مستقيم في أمره ونهيه، وفي ثوابه وعقابه كما قال هود - صلى الله عليه وسلم - عن ربه: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)} [هود: ٥٦].
فكل ما يقضيه الله ويقدره ويأمر به فلا يخاف العبد ظلمه ولا جوره، ولا يخرج تصرفه في عباده عن العدل والفضل.
إن أعطى سبحانه وأكرم وهدى ووفق وأسعد فبفضله ورحمته.
وإن منع وأهان وأضل وخذل وأشقى فبعدله وحكمته.
وهو سبحانه على صراط مستقيم في هذا وهذا.
ولله سبحانه حكم عظيمة في بعثه الأموات بعدما أماتهم:
منها: أن يبين الله للناس الذي اختلفوا فيه، وهذا بيان عياني تشترك فيه الخلائق كلهم، والذي في الدنيا بيان إيماني بالآخرة اختص به بعضهم.
الثانية: علم الكافر المبطل بأنه كان كاذباً، وأنه كان على باطل، فيخزيه الله بذلك أعظم خزي كما قال سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (٣٩)} [النحل: ٣٨، ٣٩].
الثالثة: جزاء العامل على عمله كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٧)} [غافر: ١٧].
الرابعة: ظهور عدل الله في الحكم بين عباده، وعظمة فضله عليهم، ورحمته لهم كما قال سبحانه: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٥٧)} [الحج: ٥٦، ٥٧].
الخامسة: تقرير كمال علم الرب وكمال قدرته كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨٦)} [الحجر: ٨٥ - ٨٦].
السادسة: تقرير كمال حكمة الرب كما قال سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)} [المؤمنون: ١١٥ - ١١٦].
وقد أقسم الله جل جلاله على وقوع المعاد والجزاء بسيد الجبال وهو الطور.
وأقسم بسيد الكتب المنزلة من عند الله لعظمته وجلاله، وما تضمنه من آيات ربوبيته وهداية خلقه وهو القرآن.
وأقسم بسيد البيوت وهو البيت المعمور الذي فوق السماء السابعة.
وأقسم بسقف العالم وهو السماء العظيمة وما فيها من الآيات.
وأقسم بالبحر المسجور، وهو آية عظيمة من آيات الله وعجائبه لا يحصيها إلا الله.
فقال سبحانه: {وَالطُّورِ (١) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (٨)} [الطور: ١ - ٨].
وأقسم الله عزَّ وجلَّ على ثبوت الجزاء، ومستحق الجزاء، وجمع بين محل الجزاء وهو يوم القيامة، ومحل الكسب وهو النفس اللوامة فقال: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (٣) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (٤)} [القيامة: ١ - ٤].
وأمر سبحانه أصدق خلقه أن يقسم للناس بوقوع المعاد كما قال سبحانه: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣)} [يونس: ٥٣].
مختارات

