فقه الإيمان بالملائكة (٣)
وميكائيل - صلى الله عليه وسلم - ملك من الملائكة وكله الله بالقطر والنبات الذي به حياة الأبدان، فكم من المياه يكيلها ويفرقها في العالم بأمر الله؟، وكم من الأرزاق التي يكيلها للخلائق كل يوم بأمر الله؟.
فسبحان من أعطاه القدرة على معرفتها وقسمتها وتوزيعها في العالم.
وأحد حملة العرش خلقه الله ما بين شحمة أذنه ومنكبه مسيرة سبعمائة عام.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إلى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ» أخرجه أبو داود (١).
وإذا كانت المسافة من الأذن إلى العاتق سبعمائة سنة، فكم تكون المسافة من رأسه إلى رجليه؟.
وكم تكون قوة هذا الملك الذي يحمل العرش الذي السموات والأرض بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في أرض فلاة؟.
وكم عظمة العرش الذي هذا الملك أحد حملته؟.
فكيف بقوة وعظمة الذي خلق العرش وخلق حملته، وخلق جميع ما في الكون؟.
فما أجهلنا بالرب وأسمائه وصفاته.
وما أجرأنا على معصية أوامره.
فاللهم: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣)} [الأعراف: ٢٣].
وخلق الملائكة سابق على خلق آدم أبي البشر، ولما كانت أجسام الملائكة نورانية لطيفة، فإن البشر لا يستطيعون رؤيتهم إلا إذا تمثلوا في صورة بشر.
ولم ير الملائكة من هذه الأمة إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنه رأى جبريل مرتين في صورته التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق.
والملائكة ليسوا على درجة واحدة في الخلق والمقدار.
فبعض الملائكة له جناحان.
وبعضهم له ثلاثة.
وبعضهم له أربعة.
وجبريل له ستمائة جناح.
وفي خلقهم يقول سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)} [فاطر: ١].
ومقاماتهم عند ربهم متفاوتة معلومة كما قال سبحانه: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦)} [الصافات: ١٦٤ - ١٦٦].
وقال سبحانه في جبريل - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠)} [التكوير: ١٩، ٢٠].
ومنازل الملائكة ومساكنهم في السماء، وينزلون إلى الأرض بأمر الله، لتنفيذ مهمات أوكلت إليهم كما قال جبريل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤)} [مريم: ٦٤].
ويكثر نزولهم في مناسبات وأوقات خاصة كليلة القدر التي: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤)} [القدر: ٤].
والملائكة يموتون عند النفخ في الصور كما يموت الإنس والجن، وتقبض أرواحهم حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم بالبقاء كما قال سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: ٨٨].
والملائكة أنصح خلق الله وأنفعهم لبني آدم، وعلى أيديهم حصل لهم كل سعادة وعلم وهدى، يستغفرون لمسيئهم، ويثنون على مؤمنيهم، ويدعون لهم، ويعينونهم على أعدائهم من الكفار والشياطين.
والشياطين أغش خلق الله لعباده، وعلى أيديهم حصل لهم كل شر وإضلال وغواية وإفساد.
والملائكة أهل طاعة مطلقة، فقد كانوا أولى الخلق بالطمأنينة، ولكنهم دائبون في تسبيح ربهم واستغفاره:
استدراراً لمغفرته ورحمته.
ولما يحسون من علوه وعظمته.
ولما يعلمون من جماله وجلاله.
ولما يخشون من التقصير في طاعته وحمده.
بينما أهل الأرض المقصرون الضعاف يكفرون وينحرفون في أقوالهم وأفعالهم، حتى إن السموات ليكدن يتفطرن من فوقهن من شذوذ بعض أهل الأرض، وإشراكهم بالله وكفرهم به.
بينما الملائكة الكرام يستغفرون لمن في الأرض جميعاً من هذه الفعلة الشنعاء التي جاء بها بعض المنحرفين: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥)} [الشورى: ٥].
فتشفق الملائكة من غضب الله، ويروحون يستغفرون لأهل الأرض، مما يقع في الأرض من معصية وتقصير لفاطر السموات والأرض، ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، كما أخبر الله عنهم بقوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٧)} [غافر: ٧].
وقد وكل الله بالعرش ملائكة يحملونه.
وملائكة حوله يطوفون به.
لهم زجل بالتسبيح والتقديس والتعظيم لربهم.
صافون لا يسأمون ولا يفترون عن العبادة لربهم.
لا يغشاهم نوم العيون.
ولا سهو العقول.
ولا فترة الأبدان.
ولا غفلة النسيان.
ولا شراب ولا طعام.
يا حسرة على العباد ماذا علموا، وماذا جهلوا، من عظمة الرب وقدرته وجلاله وجماله وكبريائه؟.
وما الذي غرهم حتى أعرضوا عن ربهم، فعصوه وأطاعوا عدوه؟.
{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (٣٨)} [فصلت: ٣٨].
وقد وكل الله سبحانه بالرياح ملائكة تصرفها بأمره.
ووكل بالقطر ملائكة.
ووكل بالسحاب ملائكة تسوقه وتفرغه حيث أمرت.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتاً فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ» أخرجه مسلم (١).
ووكل سبحانه بالجبال ملائكة يقومون عليها.
ويحركونها ويرفعونها بأمر الله.
ووكل سبحانه بالرحمة ملائكة.
ووكل بالعذاب ملائكة.
ووكل بالوحي ملائكة يؤدونه إلى أنبيائه ورسله كما قال سبحانه: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)} [النحل: ٢].
ووكل سبحانه بالجنة ملائكة يبنونها ويفرشونها.
ويصنعون أرائكها وسررها.
وصحافها ونمارقها.
وزرابيها وقصورها.
ووكل بالنار ملائكة يبنونها، ويوقدونها ويسجرونها.
ويصنعون أغلالها وسلاسلها.
ويقومون بأمرها: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٦)} [التحريم: ٦].
ووكل سبحانه بالبحار ملائكة تسجرها وتمنعها أن تفيض على الأرض فتغرق أهلها.
ووكل جل جلاله ملائكة بأعمال بني آدم.
خيرها وشرها.
تحصيها وتحفظها وتكتبها كما قال سبحانه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨)} [ق: ١٨].
وقال سبحانه: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠)} [الزخرف: ٨٠].
(١) أخرجه مسلم برقم (٢٩٨٤).
(١) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (٤٧٢٧)، صحيح سنن أبي داود رقم (٣٩٥٣).
انظر السلسلة الصحيحة رقم (١٥١).
مختارات

