*مختار*
في حيطان المدرسة السعودية في بلدتنا لوحة مكتوبة بخط جميل
(القناعة كنز لا يفنى) كتبها مدرس الفنية المصري الذي كان مستأجرا بيتا لوالدي رحمهم الله جميعا وكان رجلا مسنا (ربما كانوا قديما لا يبالون بالعمر عند التعاقد)
مختار قبل خمسين سنة جاء في أعوامه الأخيرة من مصر إلى قريتنا الهادئة الساكنة التي تنام عند غروب الشمس حيث لا كهرباء ليسكن الفنان في غرفة متواضعة يشتكى من البراغيث فيها.
كبر السن لم يقطعه من الطموح والأمل والبحث مع أن ظروف المصريين كانت جيدة في ذالك الوقت والجنيه تقريبا يساوي ٥ ريالات.
كانت البلدة بلدتنا راكدة لا تشبه القاهرة في شيء
جامدة كالسكون صامتة كالموت.
.
بطيئة كنمو الشجر.
تشرق الشمس ثم تغرب ولوحة الحياة كأنها معلقة في متحف.
.
البيوت القديمة والحقول والناس.
.
.
وليكسر مختار كآبة الركود جعل يعيد صبغ سيارته بالألوان
ولم يكن هناك تعليمات تمنع التغيير ولا استمارات بل ولا مرور أصلا
يصبغها حمراء.
.
ثم يجد دهانا أزرق.
.
ثم أخضر وهكذا
لا أعرف ما الذي كان يريد؟
هل كان عنده أمل أن تطول حياته حتى تفنى طبقات الدهان.
.
رحل مختار وترك سيارته التي صارت مضرب المثل عندنا في التلون.
.
فيقال مثل سيارة مختار.
.
تركها تحت شجرة
تنسلخ طبقة طبقة ويولد لون بعد كل لون يبلى ويزول.
.
وترك لوحته الشهيرة على الحيطان
(القناعة كنز لا يفنى).
.
مثل مختار: نحن
ننقش عبارات القناعة بأقلامنا.
.
وننشدها حديثا في مجالسنا.
.
ثم نتركها على جدران الحياة ونستدبرها لننغمس في معترك الطمع
شيء ما يجعلنا مثل مختار نترك النيل وحدائق الأزبكية والقناطر والسيدة زينب
لتأخذنا الأطماع إلى لدغات البراغيث في قرية ممتلئة بضجيج الصمت.
القناعة شيء لا نعرفه إلا في لوحة مختار
ليس لأننا لا نحبه
وليس لأننا غير مؤمنين بأن حقيقة السعادة فيه.
ولا أننا لا نحاول البحث عنه
لكن لأننا قصرنا في الطريق الوحيدة الموصلة إليها
وهي الإيمان والعمل الصالح
حين رجح الطبري قول علي رضي الله عنه وابن عباس والحسن ووهب ومحمد بن كعب في تفسير الحياة الطيبة
أنها القناعة.
.
في قوله تعالى
مَنۡ عَمِلَ صَـٰلِحࣰا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَلَنُحۡیِیَنَّهُۥ حَیَوٰةࣰ طَیِّبَةࣰۖ وَلَنَجۡزِیَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ
ومعنى هذا أن القناعة هبة وعطية من الله لمن آمن وعمل صالحا
ليس التخلي عن الدنيا يمنح القناعة
بل الإيمان والعمل الصالح
كل طاعة تتقرب بها إلى الله تطرد طمعا وجشعا
وكل تقصير أو معصية فهو خسارة لحظك من القناعة
وفضاء تحتله الأطماع في قلبك.
لا حل لجشعنا التاريخي الضارب في أعماق غريزتنا
الثائر كل صباح في قلوبنا
إلا بما نصت عليه الآية
الإيمان والعمل الصالح.
.
المسجد يضعف بهحة العقار
والسجدة تطفئ بريق الذهب
والتلاوة تدفن شهوات المنصب في التراب.
.
مختارات