فقه اليقين (٤)
واليقين الكامل يحصل للعبد بأربعة أمور هي:
اليقين الأول: أن يعلم العبد بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا تصريف ولا تدبير لجميع المخلوقات إلا بأمر الله وحده، فكل المخلوقات والموجودات ليس بيدها شيء.
والأشكال والأسباب، والبواعث والنتائج، لا تأتي ولا تحصل ولا تفعل إلا بأمر الله وإذنه وإرادته سبحانه، ولا ينفع شيء في الكون ولا يضر إلا بإذن الله، وهذا هو معنى (لا إله).
اليقين الثاني: أن يتيقن العبد أن الله هو القادر وحده لا شريك له، وأن قدرته مطلقة، وأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يحتاج لغيره في إرادته وأفعاله، وأنه خالق كل شيء، وبيده الأمر كله، وهو المعبود الذي يستحق العبادة وحده دون سواه، وهذا هو معنى (إلا الله).
اليقين الثالث: أن السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة هي بالإيمان والتقوى، ولا يمكن أن ينالها الإنسان في حياته إلا باقتدائه بالأسوة الحسنة محمد - صلى الله عليه وسلم - في جميع أحواله، وعدم الاقتداء بشخصية أحد سواه كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١)} [الأحزاب: ٢١].
فقد علمنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كيفية الاستفادة من خزائن الله بالإيمان والتقوى، وإن كاننت الأسباب طريقاً آخر.
فعلمنا كيفية العبادة وأوقاتها، وكيفية المعاشرات والمعاملات، وأداء الحقوق، والحلال والحرام، وكل ما تحتاج الإنسانية لسعادة الدارين.
اليقين الرابع: أن جميع الأجسام والأشكال، والأسباب والأعمال لا تفيد بغير طريق ومنهج الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
فالتجارة والصناعة والزراعة، والوظائف والمعاملات، والحكم والولايات هي وأصحابها في خطر دائم إن لم يكونوا جميعاً على طريق محمد - صلى الله عليه وسلم -.
ويقيننا على أي قوة غير قوة الله يسلطها الله علينا، وإذا نزعنا من قلوبنا اليقين على المخلوقات ولم نتأثر بها ولا منها سلب الله قوتها فوراً، وسخرها لنا.
فإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حينما ألقي في النار، لم يتوجه إلى أي مخلوق، وإنما توجه إلى الله طالباً منه النجاة وحده.
فسلب الله الإحراق من النار فوراً، وجعلها برداً وسلاماً عليه.
وموسى - صلى الله عليه وسلم - لما تبعه فرعون وجنوده، ووقف أمام البحر: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢)} [الشعراء: ٦١، ٦٢].
فسلب اليقين على ضر الماء والعدو فجاءته نصرة الله، وأنجاه الله ومن آمن معه، وفتح له البحر فعبره ونجا، وعبره فرعون ومن معه فأغرقهم الله.
ويحصل اليقين وكمال الطاعة والعبودية بأمور أهمها:
التوحيد، فيرى الأشياء والأحوال كلها من مسبب الأسباب سبحانه، ولا يلتفت إلى الوسائط، بل يرى الوسائط مسخرة لا حكم لها.
فينزل الوسائط في قلبه منزلة القلم في حق المنعم بالتوقيع، فإنه لا يشكر القلم ولا يغضب عليه، بل يشكر المنعم بالتوقيع.
ومنها الثقة بضمان الله له بالرزق، ومهما غلب على ظنه كان مجملاً في الطلب، ولم يشتد حرصه وشرهه وتأسفه على ما فاته.
ومنها أن يغلب على قلبه أن من يعلم مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، فيقبل على الطاعات، ويجتنب المعاصي.
وذلك يثمر صدق مراقبة الله في الحركات والسكنات، والتحرز من السيئات.
ومنها اليقين بأن الله مطلع عليك في كل حال، ومشاهد لهواجس ضميرك.
وثمرة ذلك أن يكون الإنسان في خلوته متأدباً في جميع أحواله، كالجالس بمشهد ملك معظم، ينظر إليه محترزاً من كل هيئة تخالف هيئة الأدب والوقار، وكذا في فكره.
وهذا يورث الحياء والخوف، وذلك يورث فعل الطاعات، واجتناب المعاصي والسيئات: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤)} [الجمعة: ٤].
والقلب إذا زاد نور الإيمان فيه أناب إلى الله، وتوكل عليه وحده، وأحب الطاعات، وكره المعاصي.
وبامتثال أوامر الله وفعل كل سنة يزداد نور القلب، وبمخالفة السنن يزيد ظلام القلب، وتحصل العقوبات.
والإيمان يزيد بالطاعات والدعوة، والنظر في الآيات الكونية، والآيات الشرعية، ولكن الباطل لا يزول إلا بالتضحية بكل شيء من أجل إعلاء كلمةالله.
والتضحية بكل شيء من أجل إعلاء كلمة الله.
والمخلوق كله أوله وآخره.
صغيره وكبيره.
فقيره وغنيه.
أميره ومأموره.
تدبيره وتصريفه.
كله بيد الله وحده لا شريك له.
فهو خالقه ومالكه ومصرفه.
فكما أن أعضاء الإنسان تتحرك كلها بوجود روحه.
فكذلك هذا العالم وما فيه من المخلوقات لا يتحرك إلا بأمره سبحانه.
وجميع المخلوقات نواصيها بيد الله وحده، فالأحوال الشديدة لما حصلت في غزوة بدر، النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة لم يتفكروا من سيكون معهم الفرس أو الروم، ومن يستعينون به منهما؟.
بل هم اجتهدوا كيف يكون الله معنا، فتوجهوا إليه، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - وما زالوا في الدعاء والبكاء حتى نزلت عليهم نصرة الله كما قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)} [الأنفال: ٩، ١٠].
ورحمة الناس تكون بتوجيه الناس إلى الله، وإلى عبادة الله، وإلى امتثال أوامر الله، ليفوزوا برضاه، ويستفيدوا من خزائنه، ويسعدوا بجنته.
وباليقين يحصل المسلم على نور التوحيد.
ويستفيد من خزائن الله.
وبالرحمة يحصل على روح الرسالة.
وينفع الخلق.
لأنه يحب لهم ما يحب لنفسه.
وقد أعطى الله كل نبي سلاحين:
سلاح الدعوة.
وسلاح الدعاء.
فبالأول تنزل الهداية، وبالثاني تقضى الحاجات.
والشيطان أول من أفسد يقين آدم على ربه وعلى أوامره، حين أغراه بالأكل من الشجرة، ليحصل له الملك والخلد، فلما خالف أمر الله بالأكل من الشجرة، أخرجه الله من الجنة، وأهبطه والشيطان إلى الأرض بعد أن تاب عليه، وحذره وذريته من الشيطان بقوله: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٧)} [الأعراف: ٢٧].
ولا يزال الشيطان يفسد يقين الخلق، فاتبعوه إلا قليل منهم: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠)} [سبأ: ٢٠].
فهل من داعٍ إلى الله؟.
وهل من مذكر بالله.
وهل من ناصح لعباده؟.
{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٥٢)} [إراهيم: ٥٢].
مختارات

