فقه الإيمان بالله (٢٢)
والقلوب التي ضعف فيها الإيمان تتأثر بالشيء أكثر من خالق الشيء، فتتعلق بالشيء وتغفل عن خالق الشيء، وإذا قوي الإيمان تجاوزت المخلوق إلى الخالق، وتعدت الصور إلى المصور الذي خلقها وصورها.
فدانت له بالطاعة والعبادة وحده لا شريك له: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢)} [الأنعام: ١٠٢].
الرابع: أن نعلم ونتيقن أن خزائن جميع الأشياء عند الله وحده لا عند غيره، فكل شيء في الوجود خزائنه عند الله: خزائن الطعام والشراب.
وخزائن الحبوب والثمار.
وخزائن المياه والبحار.
وخزائن الجواهر والأموال.
وخزائن النبات والأشجار.
وغير ذلك مما لا يعلمه ولا يحصيه إلا الله.
فكل ما نحتاجه نطلبه من الله الذي يملك خزائنه، ونكثر من العبادات والطاعات لنحصل على رضاه، فهو سبحانه قاضي الحاجات، ومجيب الدعوات، وهو خير المسئولين وخير المعطين، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)} [البقرة: ١٨٦].
وخزائن الله مملوءة بكل شيء، والله غني عن كل شيء، والعباد محتاجون من الله كل شيء: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١)} [الحجر: ٢١].
الخامس: أن نعلم أن مصير الخلائق كلها إلى الله يوم القيامة، وأنهم سوف يعرضون على ربهم مع أعمالهم، فكل ما قالوه وكل ما فعلوه محفوظ في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)} [الزلزلة: ٧، ٨].
ومن ثم يصير أهل الإيمان والطاعات إلى الجنة.
ويصير أهل الكفر والمعاصي إلى النار، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فتذكر ذلك اليوم العظيم وأهواله.
ونتذكر البعث والحشر، والحساب والميزان.
والحوض والصراط.
ونتذكر عفو الله ورحمته.
ونتذكر غضبه وشدة عقوبته.
ونتصور الجنة ونعيمها.
ونتذكر النار وجحيمها.
نتكلم ونسمع.
ونتأمل ونتفكر.
حتى يكون الغيب كالشهادة، ويكون اليوم الآخر ماثلاً أمامنا.
وبذلك يزيد الإيمان وتنبعث الجوارح للطاعة والعبادة، ثم تسعد بالنعيم والرضوان: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ (٢٨١)} [البقرة: ٢٨١].
هذا بالنسبة للمخلوقات، أما بالنسبة للأحوال:
فأولاً: نعلم ونتيقن أن الله له الخلق والأمر، وأنه وحده خالق جميع الأحوال من الغنى والفقر.
والصحة والمرض.
والفرح والحزن.
والأمن والخوف.
والحياة والموت.
والنور والظلام.
والحر والبرد.
والعزة والذلة.
والهداية والضلالة.
والسعادة والشقاوة.
فهذه وغيرها من الأحوال خلقها الله وحده.
وثانياً: نعلم ونتيقن أن الذي يدبر الأمر ويصرف هذه الأحوال هو الله وحده لا شريك له.
فلا يتبدل الفقر أبدً بالغنى إلا بأمر الله.
ولا يتبدل المرض بالصحة أبداً إلا بأمر الله.
ولا يتغير الحر بالبرد إلا بأمر الله.
ولا يأتي الليل ولا النهار إلا بأمر الله.
ولا تتبدل الذلة بالعزة إلا بأمر الله.
ولا يموت حي إلا بإذن الله.
ولا تهب ريح إلا بأمر الله.
ولا تنزل قطرة من السماء إلا بأمر الله.
ولا تتبدل الضلالة بالهداية إلا بأمر الله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤)} [الأعراف: ٥٤].
فتأتي جميع الأحوال بأمره.
وتزيد بأمره.
وتنقص بأمره.
وتبقى بأمره، وتنتهي بأمره: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)} [يس: ٨٣].
فعلينا أن نطلب تغيير الأحوال ممن يملكها بالتقرب إليه وحده بما شرع: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢٧) [آل عمران: ٢٦، ٢٧].
ثالثاً: أن نعلم ونتيقن أن خزائن جميع الأحوال السابقة وغيرها عند الله وحده لا شريك له.
فعلينا أن نطلب ما ينفعنا منها ممن يملك خزائنها وهو الله وحده لا شريك له.
وهو سبحانه الغني، فلو أعطى الصحة أو الغنى أو غيرهما كل الناس، لم ينقص ما في خزائنه إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، لا إله إلا هو الغني الحميد.
عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً، فَلا تَظَالَمُوا.
يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ.
يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ.
يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ.
يَا عِبَادِي! ِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ.
يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي.
يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شيئاً.
يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شيئاً.
يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ.
يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم (١).
وقد مكن الله كل إنسان من الأخذ بأسباب الفوز والفلاح، والأسباب التي ليس فيها فوز ولا فلاح كالمال والجاه أعطى منها بعض الناس دون بعض.
(١) أخرجه مسلم برقم (٢٥٧٧).
مختارات

