فقه الإحسان (٤)
ومن أعظم الإحسان إلى الخلق تعليمهم ما ينفعهم في دينهم، وما يكون سبباً لنجاتهم في الدنيا والآخرة، من العلم بالله وأسمائه وصفاته، ودينه وشرعه، وتحذيرهم مسالك الشر والهلكات.
وهي وظيفة الأنبياء والرسل وأتباع الرسل، وبهذا كانوا أعظم الناس إحساناً إلى الخلق، لما يحملونه من الخير للبشرية، ولهم عليهم من المنّة والفضل ما لا يؤدي شكره أحد كما قال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١٦٤)} [آل عمران: ١٦٤].
والله سبحانه غني كريم يحسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة منه وإحساناً.
فهو لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة، ولا ليعتز بهم من ذلة، بل هو القوي العزيز، ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة.
لا يوالي سبحانه من يواليه من الذل كما يوالي المخلوق المخلوق، وإنما يوالي أولياءه إحساناً ورحمةً ومحبةً لهم.
وأما العباد فهم لفقرهم وحاجتهم يحسن بعضهم إلى بعض لحاجته إلى ذلك، وانتفاعه عاجلاً أو آجلاً.
ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه فهو في الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه، وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة إلى وصول نفع ذلك الإحسان إليه.
فإنه إنما يحسن إليه لتوقع جزائه في العاجل، أو معاوضة إحسانه، أو لتوقع حمده وشكره.
وكذلك هو إنما يحسن إليه ليحصل منه ما هو محتاج إليه من الثناء والمدح، فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى الغير، وإما أن يريد الجزاء من الله تعالى في الآخرة فهو أيضاً محسن إلى نفسه بذلك، وإنما أخر جزاءه إلى يوم فقره وفاقته، فهو غير ملوم على هذا القصد فإنه فقير محتاج.
فكل محسن إنما يحسن إلى نفسه في الحقيقة كما قال سبحانه: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: ٧].
فالله سبحانه لم يخلق الجن والإنس لحاجة منه إليهم، ولا ليربح عليهم، لكن خلقهم جوداً وإحساناً ليعبدوه، فيربحوا هم عليه كل الأرباح التي مع كونها لا تخسر تضاعف لهم كما قال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤)} [الروم: ٤٤].
وقال الله سبحانه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٦)} [العنكبوت: ٦].
والله جل جلاله إذا أعطى عبده مالاً فإنما يريد منه أن يمتثل أمر الله فيه، وينفقه فيما شرعه الله، ويتحرى أفضل ما عنده فينفق منه، وخير ما لديه فيشارك الآخرين فيه.
فالإنفاق تطهير للقلب، وتزكية للنفس، ثم منفعة للآخرين وعون.
أما وجوه الإنفاق والإحسان:
فقد علم الله أن الإنسان يحب ذاته فأمره أولاً بكفايتها قبل أن يأمره بالإنفاق على من سواها، وأباح له الطيبات من الرزق، وحثه على الانتفاع بها في غير إسراف ولا مخيلة.
وعلم الله أن الإنسان يحب أول ما يحب أفراد أسرته الأقربين عياله ووالديه، فسار به خطوة في الإنفاق وراء ذاته إلى هؤلاء الذين يحبهم، ليعطيهم من ماله وهو راض، ويكفل أقرب الناس إليه.
فأخذهم من القريب، أكرم لهم من أخذهم من البعيد، وفي ذلك إشاعة للحب والسلام في المحضن الأول بمكافأة والديه على إحسانهم له، ورحمة صغاره وزوجه الذين هم أقرب الناس إليه.
وعلم الله كذلك أن الإنسان يمد حبه وحميته بعد ذلك إلى أهله كافة، فسار به الرحمن الرحيم خطوة أخرى في الإنفاق وراء أهله الأقربين.
تساير عواطفه الفطرية.
وتقضي حاجة هؤلاء.
وتقوي أواصر الأسرة البعيدة: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)} [الأنفال: ٧٥].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» أخرجه الترمذي والنسائي (١).
وعندما يفيض ما عند المسلم عن حاجة هؤلاء وهؤلاء بعد ذاته فإن الإسلام يأخذ بيده لينفق على طوائف من البشرية، يثيرون بضعفهم، وحرج موقفهم عاطفة النخوة والرحمة فيه، وفي أولهم الفقراء من اليتامى والمساكين، ثم أبناء السبيل، والمؤلفة قلوبهم، والغارمون.
وهكذا، وهو في كل ذلك مأجور كما قال سبحانه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)} [البقرة: ٢٧٤].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا».
يَقُولُ: «فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ» أخرجه مسلم (٢).
ثم يربط الله هذا الإحسان وهذا الإنفاق بالأفق الأعلى فيستجيش في القلب صلته بالله فيما يعطي وفيما يفعل وفيما يضمر: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٢٧٢)} [البقرة: ٢٧٢].
وهؤلاء الذين أحسنوا الاعتقاد، وأحسنوا العمل، وأحسنوا القول، وأحسنوا إلى أنفسهم، وأحسنوا إلى غيرهم، وأحسنوا معرفة الصراط المستقيم المؤدي إلى دار السلام.
هؤلاء ماذا أعد الله لهم من النعيم والثواب الجزيل؟: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٦)} [يونس: ٢٦].
فلهم الحسنى جزاء ما أحسنوا، وعليها زيادة من فضل الله غير محدودة، وهم ناجون من كربات يوم الحشر، ومن أهوال الموقف، والنجاة من هذا كله غنيمة وفضل من الله يضاف إلى ما سبق.
والوالدان يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد والإحسان إليهما، والتضحية بكل شيء من أجلهم.
وكما تمتص النابتة الخضراء كل شيء في الحبة فإذا هي فتات، كذلك يمتص الأولاد كل رحيق، وكل عافية، وكل جهد، وكل هم من الوالدين، فإذا هما شيخوخة فانية عاجزة، وهما مع ذلك سعيدان.
ولكن الأولاد سرعان ما ينسون هذا كله.
ويندفعون إلى الأمام.
إلى الزوجات والذرية.
ومن ثم يحتاج الأولاد إلى استجاشة وجدانهم بقوة.
ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف وهم الوالدان.
ومن هنا يأتي الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله، يحمل معنى الأمر المؤكد بعد الأمر المؤكد بعبادة الله كما قال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (٢٤)} [الإسراء: ٢٣، ٢٤].
(١) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (٦٥٨)، صحيح سنن الترمذي رقم (٥٣١).
وأخرجه النسائي برقم (٢٥٨٢)، وهذا لفظه، صحيح سنن النسائي رقم (٢٤٢٠).
(٢) أخرجه مسلم برقم (٩٩٧).
مختارات

