فقه الإحسان (٣)
ومراتب الدين ثلاث:
الإسلام.
والإيمان.
والإحسان.
وكل مرتبة لها أركان، والإحسان أعلاها.
فالإسلام يمثل أعمال الجوارح.
والإيمان يمثل أعمال القلوب.
والإحسان إتقان تلك الأعمال، وحسن أدائها، مع كمال التوجه بها إلى الله.
والإحسان في العبادة له مرتبتان:
الأولى: أن يعبد الإنسان ربه كأنه يراه عبادة طلب وشوق، ورغبة ومحبة، وهذه أعلى المرتبتين.
الثانية: إذا لم تعبد الله كأنك تراه فاعبده كأنه هو الذي يراك عبادة خائف منه، هارب من عذابه وعقابه، معظم له ولأمره.
والناس متفاوتون في هذه الرتب.
فالحب لله يولد الشوق والطلب، والتعظيم يولد الخوف والهرب.
وفي هذا كمال العبودية لله.
وكمال الحب له.
وكمال التعظيم له.
وهذا هو الإحسان في عبادة الله سبحانه كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢)} [لقمان: ٢٢].
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إلى النَّبِيِّ، فَأسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: «الإِسْلامُ أنْ تَشْهَدَ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ، إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا» قال: صَدَقْتَ.
قال فَعَجِبْنَا لَهُ.
يَسْألُهُ وَيُصَدِّقُهُ.
قال: فَأخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ.
قال: «أنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الاخِرِ.
وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» قال: صَدَقْتَ.
قال فَأخْبِرْنِي عَنِ الإحْسَانِ.
قال: «أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» أخرجه مسلم (١).
والإحسان درجات، والمحسنون درجات، أفضلهم الأنبياء ثم أتباع الأنبياء.
وكان الأغنياء من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يذهبون إلى الفقراء لإعطائهم الصدقات والزكاة، ولما فقدت الدعوة إلى الله قعد الأغنياء فجاء الفقراء إلى أبواب الأغنياء فحدث في المسلمين أربع آفات:
الكبر في الأغنياء.
والذلة في الفقراء.
وشكوى الخالق إلى المخلوق.
وانشغال الخلق بطلب ما تكفل الله به عن أداء ما أمر الله به.
وجاءت الذلة على المسلمين في أكثر بلاد الإسلام، ووقف أكثر الناس بأبواب المخلوقين ينشدون العزة والغنى عند الذليل الفقير، وتركوا باب الغني الحميد.
والناس يتفاوتون في الأنس بالله، والأنس بغير الله.
فالمؤمن أنسه بالله وطاعته وامتثال أمره ولذة مناجاته.
فمن وجد أنسه بالله في الوحدة، وفقده بين الناس فهو صادق ضعيف.
ومن وجده بين الناس، وفقده في الخلوة فهو معلول.
ومن فقده في الخلوة وبين الناس فهو ميت مطرود.
ومن وجده في الخلوة وبين الناس فهو المحب الصادق القوي في حاله.
ومن كان فتحه في الخلوة لم يكن مزيده إلا منها، ومن كان فتحه بين الناس بنصحهم وإرشادهم كان مزيده معهم.
والراغبون ثلاثة أقسام:
راغب في الله.
وراغب فيما عند الله.
وراغب عن الله.
فالمحب راغب في الله.
والعامل راغب فيما عند الله.
والراضي بالدنيا من الآخرة راغب عنه.
ولا صلاح للقلب ولا نعيم له إلا بأن تكون رغبته إلى الله عزَّ وجلَّ وحده في جميع أحواله.
ومن كانت رغبته في الله كفاه الله كل مهم، وتولاه في جميع أموره، ودفع عنه كل شر، وصانه من جميع الآفات، ومن آثر الله على غيره آثره الله على غيره،
ومن كان لله كان الله له، ومن عرف الله لم يكن شيء أحب إليه منه، ولم تبق له رغبة فيما سواه إلا فيما يقربه إليه، ويعينه على سفره إليه.
وكلما ازدادت معرفة العبد بربه ازدادت هيبته له، وخشيته إياه كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: ٢٨].
وأعقل الخلق من آمن بالله ورسوله ورغب فيما عند الله، وأسفههم من رغب عن ذلك كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠)} [البقرة: ١٣٠].
ومن رغب عن الله ونسيه فعقوبته أن ينساه الله، وينسيه حظ نفسه كما قال سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (١٩)} [الحشر: ١٩].
وهذا تمام العدل من الرب بأن نسيهم كما نسوه، وأنساهم حظوظ أنفسهم ونعيمها وكمالها، وأسباب لذتها وفرحها، عقوبة لهم على نسيان المحسن إليهم بصنوف النعم، المتحبب إليهم بآلائه وإحسانه.
فقابلوا ذلك بنسيان ذكره، والإعراض عن شكره، فعدل فيهم: بأن أنساهم مصالح أنفسهم فعطلوها.
وليس بعد تعطيل مصلحة النفس إلا الوقوع فيما تفسد به.
وتتألم بفوته غاية الألم.
وإحسان الرب إلى الخلق لا يحيط به أحد، وأعظم إحسان الرب إلى عباده إنزال الوحي عليهم، وهدايتهم إلى الإيمان والتوحيد.
وأعظم إحسان العبد إحسان العبودية لربه، بأن يعبده كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه يراه.
وإحسان العبد له ثلاث حالات:
الأولى: إحسان إلى النفس بحملها على طاعة الله، والمسارعة إلى الخيرات، والأعمال الصالحة.
الثانية: إحسان في عبادة الله بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
الثالثة: إحسان إلى عباد الله تعالى، وذلك بإيصال جميع أنواع الخير لهم.
وقد وعد الله المحسنين بالثواب الجزيل كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠)} [التوبة: ١٢٠].
(١) أخرجه مسلم برقم (٨).
مختارات

