فقه الإحسان (٥)
والله تبارك وتعالى هو المحسن إلى عباده بصنوف النعم، وهو الذي خلق كل شيء، وكل ما خلقه الله يتجلى فيه الإحسان والإتقان.
فلا تجاوز ولا قصور.
ولا زيادة عن حد الإحسان ولا نقص.
ولا إفراط ولا تفريط.
في حجم أو شكل أو وظيفة.
كل شيء مقدر بحكمة، كل شيء من الذرة الصغيرة إلى أكبر الأجرام، كلها يتجلى فيها الإحسان والإتقان.
وكذلك الأعمال والأعمار، والأطوار والحركات كلها من خلق الله، مقدرة تقديراً دقيقاً في موعدها وفي عملها وفي مآلها.
وكل مخلوق أوجده الله ليؤدي دوره المقدر له في هذا الوجود، قد أعده الله لهذا الدور، وزوده بما يؤهله لأداء هذا الدور.
هذه الخلية الواحدة المجهزة بشتى الوظائف.
هذا النبات الصاعد.
هذه الحيوانات التي تجول في هذا الكون، وهذه الأسماك التي تسبح في بحاره.
وهذا الطائر الذي يسبح في الفضاء.
وهذه الزواحف التي تدب على وجه الأرض.
وهذا الإنسان المختلف الألوان والأجناس واللغات.
وهذه الكواكب الثابتة والسيارة.
وهذه الشمس الملتهبة.
وهذا القمر الساري.
وهذه الأفلاك والعوالم، وكل شيء تبصره أو لا تبصره.
متقن الصنع.
بديع التكوين.
يتجلى فيه الإحسان والإتقان.
هذا: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (٨٨)} [النمل: ٨٨].
فسبحان: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣)} [الأعلى: ٢، ٣].
وسبحان: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (٩)} [السجدة: ٧ - ٩].
إن العين المفتوحة والقلب البصير يرى الحسن والإحسان في هذا الوجود بتجمعه، ويراه في كل أجزائه وأفراده.
والنظر والتأمل في مخلوقات الله حيثما اتجه النظر أو القلب أو الذهن يمنح الإنسان رصيداً ضخماً من ذخائر الحسن والجمال المبثوث في هذا الكون، فتسكب الإيمان والإجلال للرب في القلب، وهو يتجول في هذا المعرض الإلهي الكبير، ويتملى ما فيه من آيات الإحسان والإتقان، في كل ما يراه، وما يسمعه، وما يدركه.
ويتصل من وراء هذه الأشكال الحسنة الفانية بالمحسن الباقي: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: ٦، ٧].
ولا يدرك الإنسان شيئاً من هذا النعيم في رحلته على الأرض إلا حين يستيقظ من همود العادة، ويبصر بنور الله، فتنكشف له الأشياء عن جواهرها الثمينة الجميلة.
فيتذكر الله الخالق البارئ المصور كلما وقعت عينه أو حسه على شيء من بدائعه، فيحس الصلة بين الخالق وما خلق، والمبدع وما أبدع، فيزيد شعوره بجمال ما يرى وما يحس، لأنه يرى من ورائه جمال الله وجلاله.
والإحسان لب الإيمان وروحه وكماله بكمال الحضور مع الله عزَّ وجلَّ، ومراقبته الجامعة لخشيته ومحبته ومعرفته والإنابة إليه، والإخلاص له.
ويتم الإحسان ويكمل بثلاثة أمور:
الأول: الإحسان في القصد بأن يجعله تابعاً للعلم، والعلم هو اتباع أمر الله وشرعه، خالصاً لله صافياً من الأكدار.
الثاني: الإحسان في الأحوال بأن يحفظها ويصونها بدوام الوفاء، وتجنب الجفاء، والانقياد للهدى.
الثالث: الإحسان في الوقت بأن تعلق همتك بالحق وحده، ولا تعلق همتك بأحد غيره، وأن تجعل هجرتك إلى الله سرمداً.
ولله على كل عبد هجرتان:
هجرة إلى الله سبحانه بالتوحيد والإيمان، والإخلاص والإنابة، والمحبة والذل، والخوف والرجاء، والعبودية.
وهجرة إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالتحكيم له، والتسليم والتفويض والانقياد لحكمه، وطاعته وتلقي الأحكام من مشكاته.
والإحسان نوعان:
أحدهما: إحسان قاصر على النفس لا يتعداها إلى سواها، وأعلاه حملها على الإيمان بالله وطاعته وطاعة رسوله.
الثاني: إحسان يتعدانا إلى غيرنا وهو يتعلق بالقلوب والأبدان.
فإحسان القلوب يكون بإرادة كل نفع للعباد، والصبر على المظالم، وأن يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه، ويوقر من يستحق التوقير.
وإحسان الأبدان أقسام:
ومنه نقل الملك إلى الغير بالهبات والصدقات.
وإباحة المنافع والأعيان كالعواري والضيافات.
والإسقاط كالعتق والإبراء من الديون.
والعفو عن القصاص والحدود وسائر العقوبات.
ومنه الإعانة على الطاعات بتعليمها والمساعدة على فعلها.
ومنه الإعانة بكل نفع عاجل أو آجل فعليّ أو قوليّ كهداية الضال، وخدمة العاجز، وفك الأسير، وإرشاد الحيران.
ومنه حسن الأخلاق كإظهار البِشر، وطلاقة الوجه، والتبسم في وجوه الإخوان.
وإحسان الإحسان أن يفعل أعلى مراتبه خلياً من الشبه والأذية، والإذلال والمنّة، بالاستقامة على الدين، والدعوة إليه.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣)} [افصلت: ٣٣].
مختارات

