فقه الصبر (٩)
والصبر: مصارعة باعث الدين والعقل لباعث الهوى والنفس.
وكل متصارعين أراد أن يتغلب أحدهما على الآخر فالطريق فيه تقوية من أراد أن تكون الغلبة له، وإضعاف الآخر.
فإذا قوي باعث شهوة الزنى مثلاً، وغلب بحيث لا يملك معها فرجه، أو يملكه ولكن لا يملك قلبه، وشغله ذلك، وبذل كل شيء من أجله.
فإذا عزم على التداوي ومقاومة هذا الداء، فعليه أن يضعفه أولاً بأمور:
أحدها: أن ينظر إلى مادة قوة الشهوة، فيجدها من الأغذية المحركة للشهوة إما بنوعها، أو بكميتها، فيحسم هذه المادة بتقليلها، فإن لم تنحسم فليبادر إلى الصوم، فإنه يضعف مجاري الشهوة ويكسر حدتها.
الثاني: أن يجتنب محرك الطلب وهو النظر، فداعي الإرادة والشهوة إنما يهيج بالنظر، والنظر يحرك القلب بالشهوة، والنظر سهم مسموم من سهام إبليس.
وإذا أطلق العبد نظرة، ونصب قلبه غرضاً، فيوشك أن يقتله بسهم من تلك السهام المسمومة.
الثالث: تسلية النفس بالمباح المعوِّض عن الحرام، فإن كل ما يشتهيه الطبع في ما أباحه الله سبحانه غنية عنه، وهذا هو الدواء النافع في حق أكثر الناس.
فالأول: يشبه قطع العلف عن الدابة الجموح لإضعاف قوتها.
والثاني: يشبه تغييب الشعير عن البهيمة؛ لئلا تتحرك قوتها.
والثالث: يشبه إعطاؤها من الغذاء ما يميل إليه طبعها بحسب الحاجة لتبقى معه القوة.
الرابع: التفكر في المفاسد الدنيوية المتوقعة من قضاء هذا الوطر فإنه لو لم تكن جنة ولا نار، لكان فيه من المفاسد ما ينهي عن إجابة هذا الداعي، ولكن عين الهوى عمياء.
الخامس: الفكرة في مقابح الصورة التي تدعوه نفسه إليها، إن كانت معروفة بالإجابة له ولغيره.
فيعز نفسه أن يشرب من حوض ترده الكلاب والذئاب والحشرات.
ومن له أدنى مروءة ونخوة يأنف من هذا القبح الذي يغطي كل جمال وملاحة في الوجه والبدن.
فالزنى قبيح وخبيث، وقبحه وخبثه ينتشر على الزاني والزانية.
وإذا أراد الإنسان معرفة ذلك، فلينظر إلى القبح والخبث الذي يعلو وجه أحدهما في كبره، وكيف يقلب الله تلك المحاسن مقابح، حتى تعلو الوحشة والقبح وجهه: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (٣٢)} [الإسراء: ٣٢].
وأما تقوية باعث الدين فإنه يكون بأمور:
أحدهما: إجلال الله تبارك وتعالى أن يُعصى وهو يرى ويسمع.
وأن يشهد محبته سبحانه، فيترك معصيته محبة له، فإن المحب لمن يحب مطيع، وأفضل الطاعة طاعة المحبين، وأفضل الترك ترك المحبين.
الثاني: مشهد النعمة والإحسان، فالكريم لا يقابل بالإساءة من أحسن إليه، وإنما يفعل هذا لئام الناس، فليمنعه مشهد إحسان الله إليه ونعمته عليه عن معصيته حياءً منه.
فلا يحسن أن تكون نعم الله تنزل عليه، ومعاصيه وقبائحه صاعدة إلى ربه، فملك ينزل بهذا.
وملك يعرج بهذا.
فأقبح بها من مقابلة.
الثالث: مشهد الغضب والانتقام، فإن الرب جل جلاله إذا تمادى العبد في معصيته غضب، وإذا غضب جل جلاله لم يقم لغضبه شيء، فضلاً عن هذا العبد الضعيف.
الرابع: أن يتذكر كم يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة، وما يحدث له بها من كل اسم مذموم شرعاً وعقلاً وعرفاً، وتزول عنه من الأسماء الممدوحة شرعاً وعقلاً وعرفاً.
ويكفيه أنه فاته اسم الإيمان الذي أدنى مثقال ذرة فيه خير من الدنيا وما فيها، فكيف يبيعه بشهوة تذهب لذتها، وتبقى تبعتها؟.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً، يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» متفق عليه (١).
فينزع الإيمان عن الزاني كما ينزع القميص، فإن تاب صادقاً رد إليه الإيمان.
الخامس: مشهد القهر والظفر، فإن قهر الشهوة، وغلبة الشيطان، له حلاوة ومسرة عند من ذاق ذلك، وعاقبته أحمد عاقبة.
السادس: مشهد المعية وهو نوعان:
معية عامة.
ومعية خاصة.
فالمعية العامة: اطلاع الرب عليه، وكونه بعينه لا تخفى عليه حاله.
والخاصة كقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦)} [الأنفال: ٤٦].
فهذا المعية الخاصة خير له وأنفع في دنياه وآخرته ممن قضى شهوته ونال وطره على التمام.
فكيف يؤثر عليها لذة منغصة منكدة في يسير من العمر؟
السابع: مشهد العوض، وهو ما وعد الله سبحانه من تعويض من ترك المحارم لأجله، ونهى نفسه عن هواها، وليوازنه بين العوض والمعوض، فأيهما كان أولى بالإيثار اختاره وارتضاه لنفسه.
الثامن: مشهد معاجلة الموت له، واخترام أجله، وهو أن يخاف أن يغافصه الأجل، فيأخذه على غرة لاهياً بشهواته، فيحال بينه وبين ما يشتهي من لذات الآخرة.
التاسع: مشهد البلاء والعافية، فإن البلاء في الحقيقة ليس إلا الذنوب وعواقبها،والعافية المطلقة هي الطاعات وعواقبها.
فأهل البلاء هم أهل المعصية إن عوفيت أبدانهم، وأهل العافية هم أهل الإيمان والطاعة وإن مرضت أبدانهم.
العاشر: أن يُعود العبد باعث الدين مصارعة داعي الهوى ومقاومته على التدريج قليلاً قليلاً حتى يدرك لذة الظفر، فتقوى حينئذٍ همته، ومن ترك المجاهدة بالكلية ضعف فيه باعث الدين، وقوي فيه باعث الشهوة.
الحادي عشر: كف الباطل عن حديث النفس، وإذا مرت به الخواطر نفاها، وقطع العلائق التي تدعوه إلى موافقة الهوى.
وليس المراد، أن لا يكون له هوى، بل المراد أن يصرف هواه إلى ما ينفعه، ويستعمله في تنفيذ مراد الرب تعالى، فإن ذلك يرفع عنه شر استعماله في معاصيه.
فكل شيء في الإنسان يستعمله لله فإن الله يقيه شر استعماله لنفسه وللشيطان، وما لا يستعمله لله، استعمله لنفسه وهواه ولا بد.
فالعلم إن لم يكن لله كان للنفس والهوى، والعمل إن لم يكن له كان للرياء والنفاق.
والمال إن لم ينفق لله أنفق في طاعة الهوى والشيطان.
والقوة إن لم يستعملها لله استعملها في معصيته.
فمن عود نفسه العمل لله لم يكن أشق عليه من العمل لغيره.
ومن عود نفسه العمل لهواه لم يكن أشق عليه من الإخلاص والعمل لله، وهذا جارٍ في جميع أبواب الأعمال.
الثاني عشر: صرف الفكر إلى عجائب آيات الله التي ندب عباده إلى التفكر فيها، وهي آياته المتلوة، وآياته الكونية، فذلك يرفع عنه محادثة الشيطان ووسواسه.
الثالث عشر: التفكر في الدنيا وسرعة زوالها، وقرب انقضائها، فلا يرضى لنفسه أن يتزود منها لدار بقائه وخلوده أخس ما فيها وأقله نفعاً إلا ساقط الهمة، دنيء المروءة، ميت القلب، فإن حسرته تشتد إذا عاين حقيقة ما تزوده، وتبين له عدم نفعه، فكيف إذا ترك تزود ما ينفعه على زاد يعذب به، ويناله بسببه غاية الألم.
الرابع عشر: تعرضه إلى من القلوب بين إصبعيه، وأزمة الأمور بيديه، فلعله أن يصادف أوقات النفحات، ولا يستوحش من ظاهر الحال.
فالله سبحانه يعامل عبده معاملة من ليس كمثله شيء في أفعاله وصفاته، فإنه ما حَرَمه إلا ليعطيه، ولا أمرضه إلا ليشفيه، ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا أماته إلا ليحييه، وما أخرج أبويه من الجنة إلا ليعيدهما إليها على أكمل حال.
الخامس عشر: أن يعلم العبد أن فيه جاذبين متضادين هو ممتحن بهما، جاذب يجذبه إلى الرفيق الأعلى، وجاذب يجذبه إلى أسفل سافلين.
فكلما انقاد إلى الجاذب الأعلى صعد درجة، حتى ينتهي إلى حيث يليق به من المحل الأعلى.
وكلما انقاد إلى الجاذب الأسفل نزل درجة، حتى ينتهي إلى موضعه من سجين.
وإذا أراد أن يعلم هل هو مع الرفيق الأعلى أو الأسفل، فلينظر أين روحه في هذا العالم، فإنها إذا فارقت البدن تكون في الرفيق الأعلى الذي كانت تجذبه إليه في الدنيا فهو أولى بها.
وكل مهتم بشيء فهو منجذب إليه وإلى أهله بالطبع.
فالنفوس العلوية تنجذب بذاتها وأعمالها إلى أعلى، والنفوس السافلة إلى أسفل.
السادس عشر: أن يطهر العبد قلبه ويفرغه من إرادات السوء وخواطره، ويبذر فيه بذر الذكر والفكر، والمحبة والإخلاص.
فعند ذلك يقوى الرجاء لإصابة نفحات الرحمن جل جلاله في الأوقات الفاضلة، والأحوال الشريفة.
وفضل الله لا يرده إلا المانع الذي في العبد، فلو زال ذلك المانع لسارع إليها الفضل من كل صوب.
السابع عشر: أن يعلم العبد أن الله سبحانه خلقه لبقاء لا فناء له، ولعز لا ذل معه، وأمن لا خوف فيه، وغنى لا فقر معه، ولذة لا ألم معها، وكمال لا نقص فيه.
وامتحنه في هذه الدنيا بالبقاء الذي يسرع إليه الفناء، والعز الذي يقارنه الذل، ويعقبه الذل، والأمن الذي معه الخوف، وبعده الخوف.
وكذلك الغنى واللذة، والفرح والسرور، الذي هنا مشوب بضده، فغلط أكثر الخلق في هذا فطلبوا النعيم والبقاء، والعز والملك، والجاه والشرف في غير محله ففاتهم في محله.
وأكثرهم لم يظفر بما طلبه من ذلك، والذي ظفر به إنما هو متاع قليل زائل.
والله عزَّ وجلَّ أرسل رسله وأنزل كتبه بعبادة الله وحده، والدعوة إلى النعيم المقيم، والملك الكبير في الجنة.
فمن أجابهم حصل له ألذ ما في الدنيا وأطيبه، فكان عيشه فيها أطيب من عيش الملوك فمن دونهم؛ لأن العبد إذا ملك شهوته وغضبه فانقادا معه لداعي الدين فهو الملك حقاً.
لأن صاحب هذا الملك حر، والملك المنقاد لشهواته وغضبه عبد شهوته وغضبه، فهو مسخر مملوك في زي مالك.
الثامن عشر: أن يتخلص من الشر بالبعد عنه، وعن أسبابه ومظانه ويستعين على الخروج عن العوائد بالهرب عن مظان الفتنة.
ولا يعتز بما في مظان الشر من بعض الخير، فإن الشيطان يخدعه بذلك، فإذا قرب منه صاده وألقاه في الشبكة.
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٢٤٧٥) واللفظ له، ومسلم برقم (٥٧).
مختارات