فقه الإحسان (١)
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (١٢٥)} [النساء: ١٢٥].
وقال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)} [فصلت: ٣٤، ٣٥].
الإحسان هو فعل الشيء الحسن، سواء كان المأمور به إحساناً إلى الناس، أو إحساناً إلى النفس.
وقد رغب الله عباده في هذا وهذا بقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)} [البقرة: ١٩٥].
وكلما كان العبد أكثر إحساناً إلى نفسه وإلى غيره كان أقرب إلى رحمة الله، وكان ربه قريباً منه برحمته كما قال سبحانه: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)} [الأعراف: ٥٦].
وأعظم الإحسان: الإيمان بالله، وتوحيده، وطاعته، والإنابة إليه، وأن تعبد الله كأنك تراه.
قال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما الإحسان؟، قال: «أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإنَّهُ يَرَاكَ» متفق عليه (١).
واختص أهل الإحسان برحمة الله، لأنها إحسان من الله، والإحسان إنما يكون لأهل الإحسان من خلقه، لأن الجزاء من جنس العمل، فكما أحسنوا بأعمالهم، أحسن الله إليهم برحمته كما قال سبحانه: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (٦٠)} [الرحمن: ٦٠].
ومعناه: هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن إليه ربه.
وقد أنعم الله على العباد وأحسن إليهم بنعم لا تعد ولا تحصى، ومن أعظم أنواع الإحسان والبر أن يحسن سبحانه إلى من أساء، ويعفو عمن ظلم، ويغفر لمن أذنب، ويتوب على من تاب إليه، ويقبل عذر من اعتذر إليه.
وقد ندب الله المحسن الكريم عباده إلى هذه الشيم الفاضلة، والأفعال الحميدة، وهو أولى بها منهم وأحق.
وإذا عصم الله العباد من الذنوب فعلى من يتوب ويغفر، ويعفو ويصفح، ولو شاء الله ألا يعصى في الأرض طرفة عين لم يعصَ، ولكن حكمته تأبى ذلك.
والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، يحسن إلى من أحسن إليه وإلى من أساء إليه، فالإحسان يطفئ نار العداوة والحسد والبغي.
وكلما زاد عدوك أذىً وشراً وحسداً وبغياً ازددت إليه إحساناً، وله نصيحة، وعليه شفقة.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ضربه المشركون حتى أدموه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» متفق عليه (٢).
فقابل إساءتهم العظيمة إليه بأربع مقامات من الإحسان:
عفوه عنهم عن حقه.
استغفاره لهم.
اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون.
استعطافه لهم بقوله قومي.
وكل إنسان له ذنوب بينه وبين ربه يخاف عواقبها، ويرجوه أن يعفو عنها، ويغفرها له.
ومع هذا لا يقتصر سبحانه على مجرد المسامحة والعفو حتى ينعم عليك ويكرمك، ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله.
وإذا كان الإنسان يرجو هذا من ربه فما أجدره أن يعامل به خلقه ويقابل به إساءتهم، ليعامله الله هذه المعاملة.
فالجزاء من جنس العمل، فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك، يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك جزاءً وفاقاً.
فانتقم بعد ذلك أو أعف، وأحسن أو اترك، فكما تدين تدان.
ومن تصور هذا المعنى وشغل به فكره هان عليه الإحسان إلى من أساء إليه، هذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيته كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)} [النحل: ١٢٨].
هذا مع ما يتعجله المحسن من ثناء الناس عليه، وكونهم معه على خصمه، فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكراً لا يعرفهم ولا يعرفونه، ولا يريدون منه مالاً ولا طعاماً.
ولا بد للمحسن إلى عدوه وحاسده من إحدى حالتين:
الأولى: إما أن يملكه بإحسانه فيستعبده وينقاد له ويذل له ويبقى من أحب الناس إليه.
الثانية: وإما أن يفتت كبده ويقطع دابره إن أقام على إساءته له، فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه.
والإحسان إلى الناس ومواساتهم بالمال له ثلاث مراتب:
الأولى: أن تنزل أخاك المسلم منزلة عبدك فتقوم بحاجته من مالك، وتعطيه ابتداء، ولا تحوجه إلى السؤال.
الثانية: أن تنزله منزلة نفسك، وترضى بمشاركته إياك في مالك.
الثالثة: وهي أعلاها أن تؤثره على نفسك، وتقدم حاجته على حاجتك، وهذه مرتبة الصديقين، ومنتهى درجات المتحابين.
فإن لم تصادف نفسك في مرتبة من هذه الرتب مع أخيك، فاعلم أن عقد الأخوة لم ينعقد بعد في الباطن، وإنما الجاري بينكما مخالطة رسمية لا وقع لها في العقل والدين.
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٥٠) واللفظ له، ومسلم برقم (٩).
(٢) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٣٤٧٧)، واللفظ له، ومسلم برقم (١٧٩٢).
مختارات

