فقه الإيمان بالله (٢٣)
فالإيمان والأعمال الصالحة هي السبب الوحيد للفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، وهي حق مبذول لكل أحد.
وكذلك مكان الإيمان وهي القلوب أعطاها الله لكل أحد، ومكان الأعمال وهي الجوارح مملوكة ومسخرة لكل أحد.
فمن في قلبه الإيمان وصدرت من جوارحه الأعمال الصالحة فاز في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)} [النحل: ٩٧].
ومن كان في قلبه الكفر صدرت منه الأعمال السيئة فخسر في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)} [البقرة: ١٦١، ١٦٢].
والقلوب مصادر الإيمان.
ولها مصرفان:
مصرف للطاعة.
ومصرف للمعصية.
والجوارح مصادر الأعمال.
ولها مصرفان:
مصرف للطاعة.
ومصرف للمعصية.
ومن لم يكن في قلبه نور الإيمان بالله يرى العزة بالأموال والأشياء لا بالإيمان والأعمال الصالحة، وبذلك يحرم من الأعمال الصالحة ويتعلق قلبه بالفانية، ويعبد غير الذي خلقه وأحياه ورزقه.
والمصيبة أن كثيراً من المسلمين بسبب ضعف الإيمان يقتدون بالكفار، والكافر أصم أبكم أعمى كما قال سبحانه عن الكفار: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧)} [البقرة: ٧].
وقال سبحانه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٧١)} [البقرة: ١٧١]
وكل من سار خلف العمى ألقوه في الحفر والمزابل والمكاره.
{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (٧٢)} [الإسراء: ٧٢].
والواجب أن يقتدي المسلم بأهل الإيمان والتقوى من الأنبياء والمرسلين والصديقين والصالحين: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (٦٩) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (٧٠)} [النساء: ٦٩، ٧٠].
وبسبب ضعف الإيمان جاء الشك في الدعاء، فمنا من يسأل الله فإذا لم تقض حاجته توجه إلى أبواب المخلوق، ومنا من يسأل المخلوق فإذا أيس منه توجه إلى الله ليقضي حاجته.
وكل ذلك خطأ سببه ضعف الإيمان واليقين، وكلما ضعف الإيمان.
نقص الدين.
فتوجه الناس إلى غير الله.
فقاضي الحاجات واحد لا شريك له، والذي تكفل بإجابة الدعوات والسؤالات واحد لا شريك له، وخزائنه مملوءة بكل شيء مما يسعد الإنسان وينفعه في الدنيا والآخرة، وهو حي قيوم لا تأخذه سِنة ولا نوم يسمع ويرى:
يجيب الداعين.
ويعطي السائلين.
ويغفر للمستغفرين.
قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)} [البقرة: ١٨٦].
وقال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١)} [الحجر: ٢١].
وقال سبحانه في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شيئاً يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ» أخرجه مسلم (١).
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَىثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ! وَمَنْ يَسْألُنِي فَأُعْطِيَهُ! وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه (٢).
فأين الداعون؟.
وأين السائلون؟.
وأين المستغفرون؟.
والله سبحانه أعلم بمن يستحق العطاء ومن يستحق المنع، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وإذا أراد سبحانه أن يعطي جزيلاً أعطاه مباشرة، وإذا أراد أن يرزق أقل جعل لذلك سبباً وهو المخلوق والأسباب.
فالعطاء الجزيل لأهل الإيمان والتقوى، والعطاء العام لكافة المخلوقات: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦)} [الأعراف: ٩٦].
وليس الإيمان كلمة تقال.
ولا مشاعر تجيش.
ولا شعائر تقام.
بل هو مع ذلك طاعة الله ورسوله في كل أمر ونهي كما قال سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٣٢)} [آل عمران: ٣٢].
فالإسلام ليس مجرد المعرفة فقط.
ولا المعرفة والإقرار فقط.
بل المعرفة، والإقرار، والانقياد مع المحبة.
وطاعة الله ورسوله ظاهراً وباطناً.
والمؤمن همه العلم والإيمان، وعبادة الله ومحبته، والإنابة إليه، والطمأنينة به، والسكون إليه، وإيثار ما يحبه ويرضاه، ويأخذ من الدنيا بقدر ما يستعين به على الوصول إلى فاطره، لا لينقطع به عنه.
فمن آمن بالله واستقام على دينه.
وقام بحق الله وعبد الله في حال العسر واليسر.
وفي حال الشدة والرخاء.
كفاه الله كل ما يريد.
وحفظه من كل شيطان مريد: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٦)} [الزمر: ٣٦].
فالكفاية التامة مع الإيمان التام والعبودية التامة.
والناقصة مع الناقصة.
والعقود هي ضوابط الحياة التي أمر الله بها سبحانه، وفي مقدمتها عقد الإيمان بالله وتوحيده، ومعرفته بأسمائه وصفاته، والاعتراف بذلك لله عزَّ وجلَّ، ومقتضيات هذا الاعتراف من العبودية الكاملة، والطاعة المطلقة، والاستسلام لله.
هذا العقد أخذه الله على آدم - صلى الله عليه وسلم - ابتداء وهو يسلمه مقاليد الخلافة.
ثم تكرر هذا العقد مع ذرية آدم وهم بعد في ظهور آبائهم مع كل فرد كما قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣)} [الأعراف: ١٧٢ - ١٧٣].
وعلى عقد الإيمان بالله والعبودية لله تقوم سائر العقود في كل أمر، وفي كل نهي، وفي كل عبادة، وفي كل معاملة، فكلها عقود ينادي الله بها الذين آمنوا أن يوفوا بها كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (١)} [المائدة: ١].
فالتحليل والتحريم في الذبائح.
وفي الأنواع.
وفي الأماكن.
وفي الأوقات.
كلها من العقود القائمة على عقد الإيمان بالله وحده.
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا.
وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان.
اللهم إنّا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وعملاً متقبلاً.
اللهم: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٦)} [آل عمران: ١٦].
اللهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٠)} [الحشر: ١٠].
(١) أخرجه مسلم برقم (٢٥٧٧).
(٢) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (١١٤٥)، ومسلم برقم (٧٥٨) واللفظ له.
مختارات

