" المطلب الثامن : إدارة الوقـت "
" المطلب الثامن: إدارة الوقـت "
ما المقصود بإدارة الوقت؟
إن الوقت لا يدار على الحقيقة، والذي يملك إدارته هو الله عز وجل يقلبه كيف يشاء، وأما البشر فإن الوقت يمر عليهم جميعًا بالتساوي (24 ساعة في اليوم) و (168 ساعة في الأسبوع) و (8766 ساعة في السنة).
فوقت أعظم العباقرة كوقت أعظم الأغبياء من حيث الكم، وإنما التمايز في كيفية استغلال الوقت، وهنا يتبين أن إدارة الوقت المراد بها: إدارة الذات حتى تكون ذاتًا مسيطرة على ما يعترض وقتها فيضيعه، وذاتًا مستغلة لكل دقيقة في عمل يزيد من رفعتها وشأنها؛ يقول " دركر ": «إن إدارة الوقت تعني إدارة الذات».
وقد فهم سلفنا الصالح هذه القاعدة فهمًا دقيقًا وطبقوها في حياتهم فسيطروا على أنفسهم وكبحوا شهواتهم وألجموا أهواءهم حتى لم يعد للنفس غير طريق واحد هو طريق سموها ورفعتها.
وقد حرص الإمام ابن القيم الإنسان على محاربة نفسه لأنها أكبر أعدائه المتسلطين على وقته وحياته «يا منفقًا بضاعة العمر في مخالفة حبيبه والبعد عنه ليس في أعدائك أشد شرًا عليك منك.
ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه (الفوائد)
إننا عندما ننظر إلى وقتنا وأنه غير قابل للسيطرة والإخضاع فإننا في الحقيقة ننظر إلى أنفسنا ومدى ضعفها وقلة تهذيبها؛ ومن هنا وجب على كل مسلم طالب للسمو يريد إخضاع الكون لهمته وخدمته أن يغير نفسه ويعلن الحرب على عاداتها القبيحة المردية وصفاتها البائسة الهزيلة؛ حتى يكون حقيقًا بالتغيير، ويكون بذلك موافقًا لسنة الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] وإليك أمثلة مختصرة على كبح النفس والمحافظة على الوقت: في ترجمة سليم الرازي أحد مشيخة الشافعية عبرة مضيئة؛ فقد كان رحمه الله «يحاسب نفسه على الأوقات لا يدع وقتًا يمضي بغير فائدة إما ينسخ أو يدرس أو يقرأ» (قيمة الزمن عند العلماء).
وفي ترجمة شيخ الحنابلة في عصره أبي الوفاء بن عقيل عبرة أخرى؛ فقد كان يحدث عن نفسه: «إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة، وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي حتى أختار سفّ الكعك وتحسيه بالماء على الخبز لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ...» (قيمة الزمن عند العلماء).
وعبرة ثالثة في سيرة أبي الريحان البيروني: فقد كان يتقن خمس لغات ويؤلف في علوم الفلك والطب والرياضيات والأدب واللغة والتاريخ ما قدره (120) مؤلفًا.
وهذا غيض من فيض حياتهم رحمهم الله، وما كان لهم أن يعيشوا هذه الحياة بهذه الهمة العالية والحرص على الوقت لولا توكلهم على ربهم وضبطهم لنفوسهم وإحساسهم بقيمة الدقائق والساعات.
إن الإحساس بقمة الزمن وأهميته هو بداية تحريك النفوس وبعث الهمم؛ لاستدراك الفائت واغتنام الحاضر والاستعداد للمستقبل (انظر حتى لا تكون كلا) وبفضل هذا الإحساس الفاعل نشأت حضارات وتكونت دول وصفت نفوس وبلغ القمة رجال؛ وهذا ما نبحث عنه ويبحث معنا كل طالب للسمو.
يقولون: «لو استغلّ الإنسان جميع طاقاته لدان له العالم بأسره» والتاريخ يشهد على هذه المقولة بأبطاله العظماء.
ولكن متى يستغل الإنسان جميع طاقاته؟
يكون ذلك: إذا حدد أهدافه ووثق بربه وتوكل عليه وألقى عزمه بين يديه وجعل العوارض دبر أذنيه وألزم نفسه قانونها الصارم.
وردد قول الرافعي: «أعمالنا في الحياة هي وحدها الحياة» (وحي القلم).
وهيهات حينها للقوى أن ترد عزمته وتطفيء وقدة همته.
مختارات