فقه الخوف (٢)
والخوف متعلق بالذنب، ولا يخرج عن كون سببه جناية العبد، فهي سبب المخافة.
فإن قيل: ما وجه خوف الملائكة وهم معصومون من الذنوب التي هي سبب المخافة؟، وشدة خوف النبي - صلى الله عليه وسلم - مع علمه بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟
قيل: إن هذا الخوف على حسب القرب من الله، والمنزلة عنده، وكلما كان العبد أقرب إلى الله كان خوفه منه أشد؛ لأنه يطالب بما لا يطالب به غيره، ويجب عليه ما لا يجب على غيره كما قال سبحانه عن الملائكة: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩)} [النحل: ٤٩].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمَا والله إِنِّي لأخْشَاكُمْ لله وَأتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أصُومُ وَأفْطِرُ، وأُصَلِّي وَأرْقُدُ، وَأتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» متفق عليه (١).
وأيضاً فإن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب، وأنه يحول بين المرء وقلبه، وأنه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، فما يؤمنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه، ولولا خوف الإزاغة لما سأل المؤمنون ربهم بقولهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨)} [آل عمران: ٨].
وكذلك الله عزَّ وجلَّ خالق العباد وأفعالهم الظاهرة والباطنة، فهو الذي يجعل الإيمان والهدى في القلوب، ويجعل فيها التوبة والإنابة، وأضدادها، وكل عبد مفتقر في كل لحظة إلى هداية يجعلها الله في قلبه، وحركات يحركه بها في طاعته، وهذا إلى الله سبحانه فهو خلقه وقدره.
فمن هداه وصلاحه ونجاته بيد غيره من أحق بالخوف منه؟
ومن هنا كان خوف أولياء الله من فوات الإيمان.
والعلماء هم الذين يخشون الله ويخافونه، والعلم بالذات لا يكفي في الخوف، بل لا بدَّ من العلم بأمور ثلاثة:
الأول: العلم بقدرة الله، فإن الملك مثلاً عالم باطلاع رعيته على سوء أفعاله، لكنه لا يخافهم لعلمه بأنهم لا يقدرون على دفعها.
الثاني: العلم بكونه عالماً، فالسارق من مال السلطان يعلم قدرته، ولكنه يعلم أنه غير عالم بسرقته فلا يخافه.
الثالث: العلم بكونه حكيماً، فالعامل عند السلطان عالم بكونه قادراً على منعه، وعالم بفعله للقبائح، لكنه يعلم أنه قد رضي بما لا ينبغي فلا يحصل الخوف.
فثبت أن خوف العبد من الله لا يحصل إلا إذا علم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات، قادراً على جميع الكائنات، غير راض بالفواحش والمنكرات.
ولا حرج على العبد أن يخاف من المؤذيات طبعاً كالسباع والحيات ونحو ذلك، فيتحرز منها بالأسباب الواقية.
كما أنه لا حرج على المسلمين في الخوف من عدوهم حتى يعدوا له العدة المادية مع الاعتماد على الله، فنأخذ بالأسباب ولا نعتمد إلا على الله وحده.
والخوف الذي نهى الله عنه بقوله: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)} [آل عمران: ١٧٥]، هو الخوف من المخلوق على وجه يحمل صاحبه على ترك الواجب، أو فعل المحرم خوفاً منه، وهكذا الخوف من غير الله على وجه العبادة لغيره، واعتقاد أنه يعلم الغيب، أو يتصرف في الكون، أو ينفع أو يضر بغير مشيئة الله، كما يفعل المشركون مع آلهتهم.
وأسباب الخوف كثيرة:
فقد يكون الخوف بسبب جناية قارفها الخائف.
وقد يكون عن صفة في المخوف كمن وقع في مخالب سبع.
وقد يكون الخوف من صفة جبلية للمخوف منه كخوف من وقع في مجرى سيل، أو جوار حريق، فالماء من طبيعته الإغراق، والنار من طبيعتها الإحراق.
وكذلك الخوف من الله تعالى تارة يكون لمعرفة الله تعالى، ومعرفة صفاته، وأنه لو أهلك العالمين لم يبال، ولم يمنعه مانع.
وتارة يكون لكثرة الجناية من العبد بمقارفة المعاصي.
وتارة يكون بهما جميعاً.
فإذا كملت معرفة العبد بربه أورثت جلال الخوف، واحتراق القلب، ثم يفيض أثر الحرقة من القلب على البدن، وعلى الجوارح، وعلى الصفات.
وأقل درجات الخوف مما يظهر أثره على الأعمال أن يمنع عن المحظورات والمحرمات والشبهات.
ولا سعادة للعبد إلا في لقاء مولاه والقرب منه، ولا وصول إلى ذلك في الآخرة إلا بمحبته والأنس به في الدنيا، ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة ولا تتم المعرفة إلا بالعمل ودوام الفكر، وانقطاع حب الدنيا من القلب، ولا ينقطع ذلك إلا بترك لذات الدنيا وشهواتها، ولا يمكن ترك ذلك إلا بقمع الشهوات، ولا تنقمع الشهوة بشيء كما تنقمع بنار الخوف الذي يحرق كل شهوة.
فالخوف هو النار المحرقة للشهوات، وفضيلته بقدر ما يحرق من الشهوات، وبقدر ما يكف عن المعاصي، ويحث على الطاعات، ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف.
وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة، وبه تحصل العفة والورع، والتقوى والمجاهدة، وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى الله.
وليس الخوف بكثرة الذنوب، بل بصفاء القلوب، وكمال المعرفة بالله، فما أخطر الجهل، وما أعظم الغفلة؟
فلا قرب الرحيل ينبهنا.
ولا كثرة الذنوب تزعجنا.
ولا رؤية الخائفين تخوفنا.
ولا خطر الخاتمة يزعجنا.
ولا عظمة الجبار وقوة بطشه تزجرنا.
ونحن نخاف من يوم القيامة؛ لأننا لا ندري هل يعاملنا الله بعدله، أم يعاملنا بفضله؟ فنسأل الله أن يعاملنا بفضله لا بعدله، ولا ندري هل تكون أعمالنا مقبولة أو مردودة؟.
ولا ندري بم تواجهنا ملائكة الله؟
فأهل الإيمان: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (٧)} [الانسان: ٧].
والخائفون من الله درجات:
فمنهم من يخاف هيبة الوقوف بين يدي الله تعالى.
والخوف من المناقشة.
والخوف من النار.
أو حرمان الجنة.
أو الحجاب عن الله سبحانه وتعالى.
ومنهم من يغلب على قلبه خوف الموت قبل التوبة.
ومنهم من يغلب عليه خوف الاستدراج بالنعم.
أو خوف الميل عن الاستقامة.
ومنهم من يغلب عليه خوف سوء الخاتمة.
وأعلى من هذا خوف السابقة.
ومنهم من يخاف سكرات الموت وشدته.
أو سؤال منكر ونكير.
أو عذاب القبر.
ومنهم من يخاف كل ذلك أو بعضه بحسب قوة المعرفة واليقين وضعفهما.
فالخوف نعمة من الله يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل، لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى.
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٥٠٦٣) واللفظ له، ومسلم برقم (١٤٠١).
مختارات