فقه الرحمة (١)
قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)} [آل عمران: ١٥٩].
وقال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: ٢٩].
الله تبارك وتعالى أرسل رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، وقد منَّ الله على رسوله بالرحمة، فألان جانبه لأصحابه، وخفض لهم جناحه، ورقق لهم قلبه، وحسَّن لهم أخلاقه، فاجتمعوا عليه، وأحبوه، وامتثلوا أمره.
فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين تجذب الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والمحبة، والثواب الخاص.
والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين، وتبغضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص.
فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول فكيف بغيره؟.
أليس من أوجب الواجبات وأهم المهمات الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما يعاملهم به - صلى الله عليه وسلم - من اللين وحسن الخلق، وتأليف القلوب امتثالاً لأمر الله، واقتداءً برسول الله، وجذباً لعباد الله إلى دين الله.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم فاقوا البشرية كلها بأحسن الصفات، وأجمل الأحوال والأقوال والأعمال.
فهم أشداء على الكفار، جادون ومجتهدون في عداوتهم، ولذلك ذلوا لهم، وانكسروا أمامهم، وقهرهم المسلمون.
وهم كذلك رحماء فيما بينهم، متحابون، متراحمون، متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب الواحد منهم لأخيه ما يحبه لنفسه.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ: فِي تَرَاحُمِهِمْ، وَتَوَادِّهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْواً، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» متفق عليه (١).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» متفق عليه (٢).
هذه معاملتهم مع الخلق.
وأما معاملتهم مع الخالق فإنك: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: ٢٩].
فهذا دأبهم مع الخالق والمخلوق: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)} [السجدة: ١٦،١٧].
قد أثرت العبادة من كثرتها وحسنها في وجوههم حتى استنارت، ولما استنارت بالصلاة بواطنهم، استنارت بالجلال ظواهرهم.
والقلب إذا أشرق فيه نور الإيمان واليقين بالوعد، وامتلأ من محبة الله وإجلاله، رق وصارت فيه الرأفة والرحمة.
فتراه رحيماً رقيق القلب بكل ذي قربى، وبكل مسلم، وبكل مخلوق، يرحم الطير في وكره، والنملة في جحرها، فضلاً عن بني جنسه، فهذا أقرب القلوب من الله.
والله عزَّ وجلَّ إذا أراد أن يرحم عبداً أسكن في قلبه الرأفة والرحمة، وإذا أراد أن يعذبه نزع من قلبه الرحمة والرأفة، فَتَخَلَّق بالغلظة والقسوة، ولا تنزع الرحمة إلا من شقي.
فالدين كله رحمة للعالمين، والرسل إنما بعثوا بالرحمة، وأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - إنما فضل الأمة بما كان في قلبه من الرحمة العامة زيادة على الصديقية.
ولهذا أظهر أثرها في جميع مقاماته حتى في فداء الأسرى يوم بدر، واستقر الأمر على ما أشار به، وفي بذل ماله كله في سبيل الله، وفي هجرته مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي جهاده معه، ويوم وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأثناء خلافته، والله يجازي من هذه صفاته، وهذه رحمته، بالرضوان التام المؤكد يوم القيامة كما قال سبحانه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (١٩) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (٢١)} [الليل: ١٧ - ٢١].
والله عزَّ وجلَّ هو الرب الرؤوف الرحيم، وأقرب الخلق إليه أعظمهم رأفة ورحمة، وأبعدهم منه من اتصف بضد ذلك.
ومن رحمته سبحانه أنه يفرح بتوبة العبد إذا تاب أعظم فرح وأكمله.
ومن كمال رحمته أنه يدعو من كفر به، وفتن أولياءه، وأحرقهم بالنار إلى التوبة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (١٠)} [البروج: ١٠].
فلا ييأس العبد من عفوه ومغفرته ورحمته، ولو كان فيه ما كان، فلا أكفر بمن حرق بالنار من آمن بالله وحده، ومع هذا لو تابوا لم يعذبهم، وألحقهم بأوليائه.
والرحمة صفة وجدانية تعرض غالباً لمن به رقة القلب، وتكون مبدأً للانعطاف معه، والإحسان إليه، وهي محبة للمرحوم مع جزع من الحال التي من أجلها رحم.
ورحمة البشر لا تخلو عن رقة مؤلمة تعتري الرحيم فتحركه إلى قضاء حاجة المرحوم.
والرحمة التامة: إفاضة الخير على المحتاجين وإرادته لهم عناية بهم.
والرحمة العامة: هي التي تتناول المستحق وغير المستحق.
ورحمة الله عزَّ وجلَّ تامة وعامة.
أما تمامها، فمن حيث أنه أراد قضاء حاجات المحتاجين وقضاها.
وأما عمومها فمن حيث شمولها المستحق وغير المستحق، والدنيا والآخرة.
فهو سبحانه الرحيم مطلقاً، ورحمته وسعت كل شيء كما قال سبحانه:
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (١٥٦)} [الأعراف: ١٥٦].
والرحمة سبب واصل بين الله وبين عباده، بها أرسل إليهم رسله.. وأنزل عليهم كتبه.. وبها هداهم.. وبها يسكنهم دار ثوابه.. وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم.
والله تبارك وتعالى هو الرحمن وحده، العطوف على العباد بالإيجاد أولاً، وبالإمداد ثانياً، وبالهداية إلى الإيمان ثالثاً، وبالإسعاد في الآخرة رابعاً، وبالإنعام بالنظر إلى وجهه خامساً، وبسماع كلامه سادساً، وبرضوانه سابعاً.
والرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه وشقت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية.
فأرحم الناس من شق عليك في إيصال المصالح إليك، ودفع المضار عنك، فمن رحمة الأب بولده أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، وحسن الخلق، ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، ومتى أهمل الأب ذلك كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه، فهذه رحمة مقرونة بجهل.
ولهذا كان من تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على الإنسان خاصة المؤمن، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فابتلاء الله له، وامتحانه، ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته من كمال رحمته به.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (٣).
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٦٠١١)، واللفظ له، ومسلم برقم (٢٥٨٦).
(٢) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٤٨١)، ومسلم برقم (٢٥٨٥) واللفظ له.
(٣) حسن: أخرجه الترمذي برقم (٢٣٩٨)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (١٩٥٦).
وأخرجه ابن ماجه برقم (٤٠٢٣)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (٣٢٤٩)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (١٤٣).
مختارات