شرح دعاء "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "
لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ[([1]).
المفردات:
﴿سُبْحَانَكَ﴾: أصله من التسبيح: وهو تنزيه اللَّه تعالى، أي إبعاد اللَّه تعالى عن كل سوء ونقص، المتضمِّن لكل كمال([2]).
(الظلم: وضع الشيء في غير موضعه المختصّ به، إمّا بنقصان، أو بزيادة، وإمّا بعدول في وقته أو مكانه، وهو ثلاثة أنواع:
الأول: ظلم بين الإنسان وبين اللَّه تعالى، وأعظمه: الكفر، والشرك، والنفاق.
والثاني: ظلم بينه وبين الناس.
والثالث: ظلم بينه وبين نفسه)([3]).
هذه الدعوة من الدعوات العظيمة المباركة في كتاب ربنا جل شأنه دعاء يونس عليه السلام الذي بعثه جلَّ في عُلاه إلى أهل (نينوى) من أرض موصل في العراق، وقد قصّ لنا كتاب اللَّه تعالى في عدّة مواضع عنهم كما في هذه السورة، وفي سورة (الصّافّات)، وفي سورة (ن) دلالة على أهميتها لما فيها من الحكم، والفوائد الجليلة في مصالح الدين والدنيا والآخرة، وقد ذكرت لنا التفاسير:
أن اللَّه تبارك وتعالى أرسله إلى قومه، فدعاهم إلى اللَّه تعالى بالإيمان به، فأبوا عليه، ولم يؤمنوا، وتمادوا في كفرهم فوعدهم بالعذاب بعد ثلاث، ثم خرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم قبل أن يأمره اللَّه تعالى، فظنّ أن اللَّه تعالى لن يقضي عليه عقوبة ولا بلاء، فلمّا تحقّقوا من ذلك، وعلموا أنّ النبيَّ لا يكذب خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم... ثمّ تضرّعوا إلى اللَّه تعالى وجأروا إليه... فرفع اللَّه عنهم العذاب، قال سبحانه: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾([4]).
وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع القوم في السفينة، فلججت بهم، وخافوا أن يغرقوا، فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم...فوقعت القرعة على يونس، فأبوا أن يُلقوه، ثم أعادوها ثلاث مرات فوقعت عليه، قال تعالى: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾([5])، فألقى بنفسه في البحر، فأرسل اللَّه تعالى من البحر حوتاً عظيماً، فالتقم يونس، وأوحى اللَّه جلَّ شأنه ألاَّ يأكله، بل يبتلعه ليكون بطنه له سجناً([6]).
فلما صار عليه السلام في بطن الحوت ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ﴾: (قال ابن مسعود رضى الله عنه: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل)([7])، فاستغاث بربه السميع العليم الذي لا تخفى عليه خافية في السماء والأرض، مهما دقّت وخفت، فأنجاه اللَّه تعالى كما هي سنته مع الموحدين المخلصين الداعين.
ففي القصة من الحِكَمِ والمنافع التي تستدعي ذكرها أن قوله: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾: تضمن هذا الدعاء من كمال التوحيد والعبودية في ثلاثة مطالب عظيمة:
1 – إثبات كمال الألوهية واختصاصها باللَّه عز وجل ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ﴾.
2 – إثبات كمال التنزيه للَّه تعالى عن كل نقصٍ، وعيبٍ، وسوء المتضمن لكماله تعالى من كل الوجوه: ﴿سُبْحَانَكَ﴾.
3 – الاعتراف بالذنب والخطأ المتضمن لطلب المغفرة، المستلزم لكمال العبادة من الخضوع، والذل للَّه تعالى: ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.
فتضمّن هذا الدعاء المبارك أنواع التوحيد الثلاثة:
توحيد الألوهية المتضمِّن لتوحيد الربوبية في قوله تعالى: )لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ(.
- وتوحيد الأسماء والصفات في قوله: (سُبْحَانَكَ) فهذه أنواع التوحيد التي عليها الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.
وكذلك تضمّن هذا الدعاء الجليل صدق العبودية للَّه تعالى ربّ العالمين من كل الوجوه؛ (فإن التوحيد والتنزيه يتضمّنان إثبات كل كمال للَّه تعالى ربّ العالمين، وسلب كلّ نقصٍ، وعيبٍ، وتمثيلٍ عنه، والاعتراف بالظلم يتضمّن إيمان العبد بالشرع، والثواب، والعقاب، ويوجب انكساره، ورجوعه إلى اللَّه تعالى، واستقالته عثرته، والاعتراف بعبوديته، وافتقاره إلى ربّه عز وجل فها هنا أربعة أمور قد وقع التوسل بها: التوحيد، والتنزيه، والعبودية، والاعتراف)([8]).
وكأنّ لسان حاله يقول: أي يا ربّ أنت الواحد المنفرد بالألوهية، المنزّه عن كل نقصٍ وعيبٍ، ومن ذلك أن ما وقع لي ليس بظلم منك، فأنت الكامل في أسمائك، وصفاتك، المنزّه عن كل سوء، فإني ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي بتعريضي للهلاك، فتضمّن هذا الإقرار: طلب الغفران منه جلّ وعلا، والتجاوز عنه، وإنقاذه ممّا هو فيه من الكرب، والشدة، بألطف الكلمات، وفي هذا الدعاء من دقائق الأدب، وحسن الطلب، ما يوجب استجابته منها:
ذكر ظلمه لنفسه، وسلك نفسه مسلك الظالمين لأنفسهم، ولم يطلب من اللَّه بصيغة الطلب الصريح أن يغفر له ذنبه؛ لاستشعاره أنه مسيء ظالم، وهو الذي أدخل الضر على نفسه، وأنه تعالى لم يظلمه، فتضمّن الطلب على ألطف وجه([9]).
فكأنه يقول: إن تعذبني فبعدلك، و إن تغفر لي فبرحمتك.
و قوله: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾: بـ(الفاء): التي تفيد التعقيب دون مهلة، وبالإجابة الواسعة العظيمة التي يشير إليها (الألف، والسين، والتاء) التي تفيد المبالغة.
ثم قال: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾: (يقول جلّ ثناؤه: وكما أنجينا يونس من كرب الحبس في بطن الحوت في البحر إذ دعانا، كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا، ودعونا)([10]).
وهذه البشارة، والوعد العظيم الذي لا يتخلف من اللَّه ربّ العالمين لكل مؤمن ومؤمنة إذا وقع في الشدائد والهموم، فدعا ربه القدير بهذه الدعوة العظيمة بصدقٍ وإخلاصٍ أن ينجيه ويفرج عنه.
وجاءت هذه البشارة كذلك عن سيد الأولين والآخرين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: (دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ) فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ)([11]).
وفي رواية أخرى عنه rصلى الله عليه وسلم (أَلاَ أُخْبِرُكُمْ أَوْ أُحَدِّثُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا نَزَلَ بِرَجُلٍ مِنْكُمْ كَرْبٌ أَوْ بَلاَءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا دَعَا بِهِ فَفَرَّجَ عَنْهُ ؟ فقَالُوا: بَلَى، قَالَ: دُعَاءُ ذِي النُّونِ)؟([12]).
قال ابن القيم رحمه اللَّه: (أمّا دعوة ذي النون فإن فيها من كمال التوحيد والتنزيه للربّ عز وجل، واعتراف العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدوية الكرب والهمّ والغمّ، وأبلغ الوسائل إلى اللَّه سبحانه وتعالى في قضاء الحوائج)([13]).
وفي هذا الدعاء الذي فيه جوامع الأدب،والكلم الطيب الفوائد الكثيرة، منها:
1- أن الدعاء كما يكون طلباً صريحاً يكون كذلك تعريضاً متضمناً للطلب.
2- أن هذه الصيغة جمعت آداب الدعاء، وأسباب الإجابة، فيحسن بالعبد أن يكثر منها حال دعائه، وكربه، وغمومه، وشدائده، كما أخبر بذلك الشارع الحكيم.
3- هذه الدعوة فيها من كمال التوحيد، والإيمان باللَّه تعالى، الذي ينبغي لكل داع أن يضمن هذه المضامين في أدعيته.
4- فيه دلالة على أن التسبيح سبب للإنجاء من الكرب والهمّ، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾([14]).
5- إن التوحيد والإيمان والإقرار بالذنوب من أكبر أسباب النجاة من مهالك الدنيا والآخرة.
6- إن الذنوب من أعظم الأسباب الموجبة لزوال النعم،وحصول النقم.
7- ينبغي أن يدعو العبد بحسن ظنٍّ عظيم في حقّ ربه تعالى حال دعائه؛ فإن اللَّه تعالى يعامله على حسب ظنّه به.
8- إن ما يوقع على العبد من المصائب فإن سببها تقصيره في حق ربه تعالى.
9- صحّة اعتقاد أهل السنة والجماعة أن التنزيه يتضمّن الكمال والتعظيم للَّه ربّ العالمين؛ فإن قوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ أي أنزهك عن كلِّ سوء، ومن ذلك ما وقع مني؛ فإنه ليس بظلم منك؛ فإنّك تنزّه عنه، وإنما بسبب جنايتي على نفسي، فدل أن التنزيه يتضمن الثناء والتعظيم من كل الوجوه.
10- إن كل الخلق مهما كانت رتبهم ومنزلتهم مفتقرون إلى اللَّه تعالى فعليهم أن يفرّوا إليه وحده بالدعاء والرجاء والرغبة والرهبة.
([1]) سورة الأنبياء، الآية: 87.
([2]) انظر معاني التسبيح في الكتاب النفيس: (التسبيح في الكتاب والسنة)، 1/ 35.
([3]) مفردات الراغب، ص 537.
([4]) سورة يونس، الآية: 98.
([5]) سورة الصافات، الآية 141.
([6]) انظر: تفسير ابن كثير، 3/ 264.
([7]) مصنف بن أبي شيبة، 11/ 542، برقم 32527، المستدرك، 2/ 415، برقم 3445، وقال: (صحيح على شرط الشيخين)، ووافقه الذهبي، وانظر: تفسير ابن كثير، 3/ 264.
([8]) زاد المعاد، 4/ 208.
([9]) انظر: مجموع الفتاوى، 10/ 247.
([10]) ابن جرير الطبري، 5/ 276.
([11]) الترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا محمد بن يحيى، برقم 3505، وسنن النسائي الكبرى، كتاب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة، برقم 10417، ومسند أحمد، 3/ 66، برقم 1462، وشعب الإيمان للبيهقي، 2/ 134، والدعوات الكبير له، 1/ 126، والمستدرك، 1/ 505، برقم 1863، ومسند أبي يعلى، 2/ 110، وكشف الأستار عن زوائد البزار، 1/ 25، ومكارم الأخلاق للخرائطي، 1/ 232، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2785 وغيره.
([12]) سنن النسائي الكبرى، كتاب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة، برقم 10416، والحاكم، 1/ 505، وصححه، والدعوات الكبير للبيهقي، 1 / 271، وصححه الألباني في سلسلة الحاديث الصحيحة، برقم 1744.
([13]) زاد المعاد، 4/ 208.
([14]) سورة الحجر، الآيتان: 97- 98.
مختارات