فقه الرضا (٢)
وما يقضيه الله ويقدره نوعان:
قضاء ديني.
وقضاء كوني.
فالديني: مأمورات، ومنهيات، ومباحات.
والكوني: إما نعماً ملذة، أو بلاياً مؤلمة.
والرضا يخلص العبد من مخاصمة الرب تعالى في أحكامه وأقضيته، وأصل مخاصمة إبليس لربه من عدم رضاه بأقضيته وأحكامه الدينية والكونية، فلو رضي لم يطرد ويلعن ويبعد.
وجميع ما في الكون أوجبته مشيئة الله، فهو موجب أسماء الله وصفاته، فمن لم يرضى بما رضي به ربه لم يرض بأسمائه وصفاته.
وكل قدر يكرهه العبد ولا يلائمه فلا يخلو من أمرين:
إما أن يكون عقوبة على الذنب، فهو دواء لمرض لولا تدارك الحكيم إياه بالدواء لترامى به المرض إلى الهلاك.
أو يكون سبباً لنعمة لا تنال إلا بذلك المكروه، فالمكروه ينقطع، وما ترتب عليه من النعمة دائم لا ينقطع.
فإذا شهد العبد هذين الأمرين انفتح له باب الرضا عن ربه في كل ما يقضيه ويقدره له.
وحكم الرب عزَّ وجلَّ ماضٍ في عباده، وقضاؤه عدل فيهم، قضى بالذنب وقضى بعقوبته، فالأمران من قضائه عزَّ وجلَّ، وهو أعدل العادلين في قضائه بالذنب، وفي قضائه بعقوبته.
أما عدله في العقوبة فظاهر، وأما عدله في قضائه بالذنب فإن الذنب عقوبة على غفلته عن ربه وإعراض قلبه عنه.
فإنه إذا غفل قلبه عن ربه ووليه استحق أن يضرب بهذه العقوبة.
ولا يقضي الله لعبده قضاءً إلا كان خيراً له، فقضاؤه لعبده المؤمن المنع عطاءً وإن كان في صورة المنع، ونعمة وإن كان في صورة محنة، وبلاؤه عافية وإن كان في صورة بلية.
ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل، وكان ملائماً لطبعه، ولو عرف ربه لعد المنع نعمة، والبلاء رحمة.
فالراضي: هو الذي يعد نعم الله عليه فيما يكرهه أكثر وأعظم من نعمه عليه فيما يحبه.
وإذا علم العبد أن ربه عزَّ وجلَّ تفرد بالخلق، وتفرد بالاختيار والتدبير، وليس للعبد شيء من ذلك، فإن الأمر كله لله، فإذا عرف ذلك لم يكن له غير الرضا بمواقع الأقدار من ربه.
ورضا الله سبحانه عن العبد أكبر من الجنة وما فيها؛ لأن الرضا صفة الله، والجنة خلقه.
وهذا الرضا جزاء على رضا المؤمنين عنه في الدنيا.
ولما كان هذا الجزاء أفضل الجزاء كان سببه أفضل الأعمال كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)} [التوبة: ٧٢].
والمحبة لله، والإخلاص له، والإنابة إليه، لا تقوم إلا على ساق الرضا، فالمحب راضي عن حبيبه في كل حالة.
والرب عزَّ وجلَّ شكور، إذا وصل إليه عمل عبده جمل به ظاهره وباطنه، وأثابه عليه من حقائق المعرفة والإيمان بحسب عمله.
وأعمال الجوارح تضاعف إلى حد معلوم محسوب، وأما أعمال القلوب فلا ينتهي تضعيفها، فهي دائمة متصلة، وإن توارى شهود العبد لها.
فالمحبة والرضا حال المحب الراضي لا تفارقه أصلاً، وصاحبها في مزيد متصل ولو فترت جوارحه.
والله عزَّ وجلَّ ينظر إلى القلوب والهمم والعزائم لا إلى صور الأعمال.
والرضا ثلاث درجات:
الأولى: الرضا بالله رباً.
الثانية: الرضا عن الله، وهو الرضا عنه في كل ما قضى وقدر.
فالرضا به متعلق بأسمائه وصفاته، والرضا عنه متعلق بثوابه وجزائه.
الثالثة: الرضا برضا الله، فيغيب برضى ربه عن رضاه هو.
{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)} [الفجر: ٢٧ - ٣٠].
والمؤمن الموفق من باع نفسه وأرخصها وبذلها طلباً لمرضاة الله، ورجاءً لثوابه، فمن بذلها للعلي والوفي الرؤوف بالعباد، استحق رضاه، وفاز بجنته: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٢٠٧)} [البقرة: ٢٠٧].
والرضا نوعان:
رضاً مشروع.
ورضاً غير مشروع.
والرضا المشروع نوعان:
أحدهما: الرضا بفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، ويتناول ما أباحه الله من غير تعد إلى المحظور كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢)} [التوبة: ٦٢].
الثاني: الرضا بالمصائب كالفقر والرضى والذل، فهذا الرضا مستحب، فإن لم يكن فلا أقل من الصبر.
أما الرضا غير المشروع فهو الرضا بالكفر والفسوق والعصيان.
فلا يرضى العبد بذلك؛ لأن الله لا يرضاه، ولا يحبه كما قال سبحانه: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: ٧].
فهذا مع أن الله أراده وقدره فهو لا يحبه ولا يرضاه.
والمؤمن مأمور باتباع ما يحبه الله ويرضاه دون ما يقضيه ويقدره من الكفر والفسوق والعصيان، وأن يرضى بما أصابه من المصائب لا بما فعله من المعائب.
فهو من الذنوب يستغفر.
وعلى النعم يشكر.
وعلى المصائب يصبر كما قال سبحانه: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧)} [لقمان: ١٧].
مختارات