البريق المنكوب
الحمد لله وبعد،،
دب إلى نفسه وهو يسمع أنباء التعيينات أن لو كان رقماً بينهم.. بل وباغته خياله بصورته ذاته متوشحاً مشلحه وأيدي المهنئين تسابق للمصافحة.. ومازال به خيال الجاه حتى رأى عيون الناس يتلامع فيها الإعجاب بتوليه المنصب وهو مازال في مكانه مجرد مواطن أمام الشاشة يسمع أخبار التوليات.. وحجب شيطان الغفلة عنه أن يتخيل نفسه مطرقاً منكسراً يتوارى من الناس اتقاء نظرة شماتة على قرار إعفاء.. وما استفاق ابن آدم ليعتبر بكاتب الديوان الذي كان إلى يوم الخميس الماضي يولّي ويعزل كل من دون الملك ويوم الجمعة أصبح لا يملك قرار توظيف حارس مدرسة ابتدائية في قرية نائية.. بل وصار في معايير السلطة مجرد مواطن يشرئب للشاشة يترقب مفاجآت القرارات الملكية التي كان ختمها يوم أمس في درج مكتبه وربما كان يرسل بعض نصوصها برسالة جوال..! إنها الولايات التي لو دامت عباءتها على من قبلك لما اكتسيت عباءتها اليوم..
ألا هل من معتبر بحال ثلاثي صار بعض الناس يضعون أسماءهم على الكعك احتفالاً بتشردهم؟! وآخر يريق دم جزور شكراً لله على خلع مشلح وزير السوء؟! ألا وزير يعمل لمثل مصرعهم هذا؟!
ألا وزير يرى ما حل بمن قبله ويقرأ قول الله
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا)[فاطر:44]
ألا وزير يتدبر مصارع القوم ويتلو على نفسه قول الله
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ)[غافر:21]
بالله ماذا أغنت عنهم الدسائس والمكر، والفتل في الذروة والغارب، والأحابيل التي كانت تحاك آناء الليل وأطراف النهار.. والله يقول
(فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ)[النمل:51]
وإنها سنةٌ إلهية وقانون تاريخي أن كل بلد يتلبد فيه فريق من الماكرين فلا يلبث الناس أن يفجأهم مكر الماكرين وقد انقلب عليهم.. واقرأ إن شئت قول الله (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)[الأنعام:123]
أرأيت..؟ إنهم أكابر المجرمين في كل قرية! ولكن " وما يمكرون إلا بأنفسهم " !
بالله ماذا أغنى عنهم مضغ عبارات التملق وبروتوكولات المداجاة.. والتذلل لكاتب الديوان.. والتنافس في اختراع ألفاظ الإطراء الممجوجة.. وها قد صاروا في عيون الناس كخيمة لما رُكِل عمودها تهاوت الأروقة ساجدة معه.. كأنما كتبت عليهم الذلّة لصاحبهم نافذاً وطريدا..
ذهب الآن الجاه.. وإطراقات المراجعين.. وتودد الشافعين.. ومقاعد في صدور الولائم والمناسبات.. وبقي كل ما عملوا من الشرور والمظالم في كتاب قال ربنا عنه
(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)[الكهف:49]
وهل تدري أول شيء قرع ذهني ظهيرة جمعة الإعفاء؟ إنها عبارة الوزير أبي علي يحي البرمكي التي قالها لولده، كما يروي ابن كثير في تاريخه قائلاً:
(يحي بن خالد البرمكي: ضم إليه المهدي ولده الرشيد، فرباه، وأرضعته امرأته مع الفضل بن يحيى، فلما ولي الرشيد عرف له حقه، وكان يقول " قال أبي "، وفوض إليه أمور الخلافة وأزمتها، ولم يزل كذلك حتى نكبت البرامكة، فقتل جعفرا، وخلد أباه في الحبس حتى مات..، وقد قال له بعض بنيه وهم في السجن والقيود: " يا أبت، بعد الأمر والنهي والنعمة صرنا إلى هذا الحال. فقال: " يا بني، دعوة مظلوم سرت بليل ونحن عنها غافلون، ولم يغفل الله عنها " ) [البداية والنهاية، ص7/198-199]
يا الله.. كم هي عبارة تصطك لها قلوب المؤمنين بالغيب.. " دعوة مظلوم سرت بليل ونحن عنها غافلون، ولم يغفل الله عنها ".. وكم من مسؤول ووزير وأمير تتضخم وسائده عن دعوة مظلوم تسري في الهزيع الأخير من السحر..
وما من شيء أخبر سيد ولد آدم –صلى الله عليه وسلم- أنه سيقع إلا وقع أو هو وشيك الوقوع على طرف الثمام.. وخبره صلى الله عليه وسلم عن ما في النفوس من تشوف لكراسي الولايات بتنا نراه في الأفواه الفاغرة أمام الشاشات ترتشف أخبار التعيينات.. فقد روى البخاري عن أبى هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
«إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة»[البخاري:7148]
وهذا من بديع البلاغة النبوية.. فقد استعار صلى الله عليه وسلم الرضاعة والفطام لتشبيهها بحال ابتداء الولاية وانتهائها.. فإن للفطام توجّعاً مشهوداً في الطبيعة البشرية.. حتى إن الأكباد تتفطر للطفل في حال الفطام..
وليس هذا كل شيء طبعاً، فإن من نزلت به مصيبة الولاية، وحلت عليه نازلة المنصب، من غير تشوف ولا طلب، فاتقى ربه فيها، وطلب وجه الله والدار الآخرة، كانت له من أجل القربات، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها)[البخاري:6622]
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال)[مسلم:2865].
والإمام العادل من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
مختارات