فقه الرضا (١)
قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)} [التوبة: ١٠٠].
وقال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١١٤)} [النساء: ١١٤].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبّاً وَبِالإِسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا» أخرجه مسلم (١).
الرضا: سكون القلب إلى فاطره ومعبوده ومحبوبه، ورضاه مما اختار الله له.
فهو راضٍ بمحبوبه.
راضٍ بما يناله من محبوبه.
ومن أعظم أسباب حصول الرضا:
أن يلزم العبد ما جعل الله رضاه فيه، فإنه يوصله إلى مقام ولا بدَّ.
والرضا يتحقق بثلاثة أمور:
باستواء الحالات عند العبد، وسقوط الخصومة مع الخلق، والخلاص من المسألة والإلحاح.
فالراضي الموافق تستوي عنده الحالات من النعمة والبلية في رضاه بحسن اختيار الله له؛ لأنه مفوض، والمفوض راضٍ بكل ما اختاره الله له.
ولأنه جازم بأن لا تبديل لكلمات الله ولا راد لحكمه، فالنعمة والبلية بقضاء سابق، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
وهو عبد محض لا يسخط جريان أحكام سيده المشفق البار المحسن الناصح، بل يتلقاها بالرضا به وعنه.
ولأنه محب راضٍ بما يعامله به حبيبه، وهو جاهل بعواقب الأمور، وسيده أعلم بمصلحته وبما ينفعه، ولأنه لا يريد مصلحة نفسه من كل وجه، وربه سبحانه يريد مصلحته، ويسوق إليه أسبابها.
ومن أعظم أسبابها ما يكرهه العبد، فإن مصلحته فيما يكره أضعاف أضعاف مصلحته فيما يحب.
ولأنه مسلم، والمسلم من قد سلم نفسه لله، ولم يعترض عليه في جريان أحكامه عليه، ولم يسخط ذلك.
ولأنه يعلم أن حظه من المقدور ما يتلقاه به من رضاً وسخط، وعلمه بأن قضاء الرب تعالى خير له، وعلمه أن تمام عبوديته في جريان ما يكرهه من الأحكام عليه.
فلا تتم عبوديته لربه إلا بالصبر والشكر، والتوكل والرضا، فليس الشأن في الرضا بالقضاء الملائم للطبيعة، إنما الشأن في الرضا المؤلم المنافر للطبع.
ولأنه يعلم أن رضاه عن ربه سبحانه في جميع الأحوال يثمر رضى ربه عنه.
فإذا رضي العبد عن ربه بالقليل من الرزق رضي ربه عنه بالقليل من العمل، ووجده أسرع شيء إلى رضاه إذا ترضاه وتملقه.
ولأنه عارف بربه حسن الظن به، وذلك يوجب له استواء الحالات عنده، ورضاه بما يختاره له سيده سبحانه.
ولأنه يعلم أن الرضا يوجب له الطمأنينة، وينزل عليه السكينة التي لا أنفع له منها، ومتى نزلت عليه السكينة استقام وصلحت حاله.
ومقامات الدين تدور على أربعة أمور:
الرضا بربوبية الله.
والرضا بألوهيته.
والرضا برسوله - صلى الله عليه وسلم - والانقياد له.
والرضا بدينه والتسليم له.
ومن اجتمعت فيه هذه الأربعة فهو الصديق حقاً.
فالرضا بربوبية الله يتضمن الرضا بتدبيره لعبده، ويتضمن إفراده بالتوكل عليه، والاستعانة به، والثقة به، والاعتماد عليه، والرضا بكل ما يفعله به.
والرضا بإلهيته يتضمن الرضا بمحبته وحده، وخوفه ورجائه، والإنابة إليه، والتبتل إليه، وذلك يتضمن عبادته، والإخلاص له.
فالأول يتضمن رضا العبد بما يقدر عليه، والثاني يتضمن رضاه بما يؤمر به.
وأما الرضا بنبيه رسولاً فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه.
فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره البتة.
وأما الرضا بدينه، فإذا قال سبحانه أو حكم، أو أمر أو نهى، رضي كل الرضا، ولم يبق بقلبه حرج من حكمه، وسلم له تسليماً ولو كان مخالفاً لمراد نفسه أو هواها كما قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)} [النساء: ٦٥].
والرضا آخر التوكل، فمن رسخ قدمه في التوكل والتسليم والتفويض، حصل له الرضا ولا بدّ.
ورضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عنه، فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده، رضاً قبله أوجب له أن يرضى عنه، ورضاً بعده هو ثمرة رضاه عنه.
والرضا يفتح للعبد باب السلامة، فيجعل قلبه سليماً نقياً من الغش والدغل والغل، ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم.
والرضا عن الرب عزَّ وجلَّ في جميع الحالات يثبت الأقدام في مقام العبودية، والسخط يوجب التلون، ويفتح عليه باب الشك في الله وفي قضائه وقدره وحكمته وعلمه.
والرضا بالقضاء يوجب له السعادة، والتسخط على القضاء من أسباب الشقاوة.
والرضا يوجب للعبد أن لا ييأس على ما فاته، ولا يفرح بما أتاه، وذلك أفضل الإيمان.
والرضا بالقدر يفرغ القلب لله، والسخط يفرغ القلب من الله، ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر ملأ صدره غنىً وأمناً وقناعة، وفرغ قلبه لمحبته.
والرضا يثمر الشكر الذي هو أعلى مقامات الإيمان، وينفي عنه آفات الحرص على الدنيا.
والرضا يخرج الهوى من قلب المؤمن، فالراضي هواه تبع لمراد ربه منه مما يحبه الله ويرضاه.
والرضا عن الله يثمر للعبد رضا الله عنه، والراضي متلق أوامر ربه الدينية والقدرية بالانشراح والتسليم.
والطاعات كلها أصلها من الرضا، والمعاصي كلها أصلها من عدم الرضا، وعدم الرضا يفتح باب البدعة، والرضا يغلق ذلك الباب عنه.
ولو تأمل العبد جميع البدع لرآها ناشئة من عدم الرضا بالحكم الكوني، أو الديني، أو كليهما.
(١) أخرجه مسلم برقم (٣٤).
مختارات