فقه المحاسبة (٢)
والمحاسبة لها ثلاثة أركان:
أحدها: أن تقايس بين نعم الله عليك وبين جنايتك، وما من الله وما منك، فيظهر لك حينئذ التفاوت، وتعلم أن ليس إلا عفوه ورحمته، أو الهلاك والعطب.
وبذلك يعلم العبد أن كل نعمة من الله فضل، وكل نقمة منه عدل، وأن النفس منبع كل شر، وأساس كل نقص، وأنه لولا فضل الله ورحمته بتزكيته لها ما زكت أبداً، ولولا هداه ما اهتدت.
ثم تقايس بين الحسنات والسيئات، فتعلم أيهما أكثر وأرجح قدراً أو صفة بالعلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والخير والشر، ويبصر به مراتب الأعمال أفضلها وأدناها، ومقبولها ومردودها، وبإساءة الظن بالنفس؛ لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال المراقبة والتفتيش، ويُلَبَّس عليه، فيرى المساوئ محاسن، والعيوب كمالاً، ويميز بين النعمة والفتنة:
فيفرق بين النعمة التي يرى بها الإحسان واللطف، ويعان بها على تحصيل سعادته الأبدية، وبين النعمة التي يرى بها الاستدراج، فكم من مستدرج بالنعم وهو لا يشعر، مفتون بثناء الجهال عليه، مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه.
وكذلك على العبد أن يميز بين منَّة الله عليه، وبين حجة من الله عليه.
فكل قول، أو عمل، أو مال، أو علم، أو فراغ، أو جهد، أو ثناء اقترن به رضا الله وطاعته، واشتغال بما يحبه ويرضاه، فهو منَّة من الله، وإلا فهو حجة من الله عليك.
الثاني: أن يميز العبد بين ما للحق عليه من وجوب العبادة، وفعل الطاعات، واجتناب المعاصي، وبين ماله وما عليه، فعليه حق، وله حق، ولا بدَّ من إعطاء كل ذي حقه حقه.
الثالث: أن يعرف الإنسان أن كل طاعة رضيها الله منه فهي عليه.
فجهل الإنسان بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله، وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به يتولد منهما رضاه بطاعته، وإحسان ظنه بها، ويتولد من ذلك العجب والكبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة من الزنى وشرب الخمر ونحوهما.
وأرباب العزائم وأهل البصائر أشد ما يكونون استغفاراً عقيب الطاعات، بشهودهم تقصيرهم فيها، وعدم القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه.
وأنه لولا الله لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية، ولا رضيها لسيده، فالنفس مأوى كل عيب وشر، وعملها عرضة لكل آفة ونقص، ولكن الله يعفو ويضاعف ويرحم، ويجزي على العمل القليل الأجر الكثير، وهو الجواد الكريم.
والتاجر يحسب كل يوم كم كسب؟ وكم خسر؟ وكم استهلك؟
وذلك ليضمن بقاء ماله ونمو تجارته.
وهكذا كل مؤمن ينبغي أن يحاسب نفسه، فإن كانت طاعاته أكثر من معاصيه فعليه أن يحمد الله، ويستمر في الطاعة، ويزيدها وينوعها ويحسنها، لتكون مقبولة موفورة.
وإن كانت معاصيه أكثر من طاعاته فعليه فوراً المبادرة إلى التوبة، فهو عرضة للهلاك والعطب.
وإن كانت معاصيه وطاعاته سواء فهذا جمود، والمؤمن مأمور بالمسارعة والمسابقة إلى الخيرات، والمنافسة فيها، وترغيب الناس فيها.
والمؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عزَّ وجلَّ، يعلم أنه مؤاخذ ومحاسب على سمعه وبصره، وعلى لسانه وجوارحه.
وحياة المسلم كلها علم وعمل، وعبادة ودعوة، وجهاد وإحسان، فيجب عليه أن يحاسب نفسه أول النهار وآخره.
ومعنى المحاسبة أن ينظر في رأس المال، وفي الربح، وفي الخسران، ليتبين له الزيادة من الخسران.
فرأس المال في الدين الفرائض.
وربحه النوافل والفضائل.
وخسرانه المعاصي والسيئات.
وينبغي للعبد أن يحاسب نفسه على المعاصي في كل ساعة، فإن الإنسان لو رمى بكل معصية يفعلها حجراً في داره؛ لأمتلأت داره في مدة يسيرة.
ولو كان للمعاصي رائحة كريهة ما أطاق أحد الجلوس في بيته، ولكن الإنسان يتباهى بذكر الطاعات، ويتساهل في حفظ نفسه من المعاصي.
والكل معدود ومحسوب ومعروض على العبد، أحصاه الله في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)} [الزلزلة: ٧،٨].
وكذلك ينبغي للمؤمن أن يكون فكره الأغلب فيما يتعلق بدينه، فينظر في أربعة أمور:
الطاعات.
والمعاصي.
والصفات المنجيات.
والصفات المهلكات.
فيحرص على الطاعات.
ويجتنب المعاصي.
ويعرض ذلك على نفسه كل يوم.
فمن المهلكات ينظر في عشرة، فإن سلم منها سلم من غيرها وهي:
الكبر.
والعجب.
والبخل.
والرياء.
والحسد.
وشدة الغضب.
وشره الطعام.
وشره الوقاع.
وحب المال.
وحب الجاه.
ومن المنجيات ينظر في عشرة وهي:
الندم على الذنوب.
والشكر على النعماء.
والصبر على البلاء.
والرضا بالقضاء.
والزهد في الدنيا.
واعتدال الخوف والرجاء.
والإخلاص في الأعمال.
وحب الله تعالى.
وحسن الخلق مع الخلق.
والخشوع لله.
فيتخلص من المهلكات واحدة بعد واحدة، ويبادر إلى المنجيات واحدة بعد واحدة، وذلك لا يتم إلا بتوفيق الله وعونه.
وعلى المسلم إن كان عليه مظالم أن يردها قبل أن يموت، فإن غرماءه يحيطون به يوم القيامة، فهذا يقول ظلمني، وهذا يقول استهزأ بي، وهذا يقول أساء جواري، وهذا يقول سرقني.
فيؤخذ من حسناته، وتعطى لكل واحد بقدر مظلمته، فإن فنيت حسناته، أُخذ من سيئاتهم وطرحت عليه، نسأل الله السلامة والعافية.
مختارات