فقه المحاسبة (١)
قال الله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨)} [الحشر: ١٨].
وقال الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٨١)} [البقرة: ٢٨١].
المحاسبة: هي التمييز بين ما للإنسان وما عليه.
فيأخذ ماله.
ويؤدي ما عليه.
لأنه مسافر سفر من لا يعود.
وينظر ما قدم لغد، هل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به أولا يصلح؟
وينظر هل يكفيه ما قدم من عمل فينجيه من عذاب الله، ويبيض وجهه عند الله؟
وينظر كذلك إلى ما قدم من العمل، هل يحبه الله ويرضاه، أم يبغضه ويسخطه؟.
ومن حاسب نفسه في الدنيا خف في القيامة حسابه، ومن أهمل المحاسبة دامت حسراته في الدنيا والآخرة.
والناس متفاوتون في المحاسبة، وفي كيفية الحساب؟
والمحاسبة أن يخلو العبد بنفسه مثلاً ويقول:
اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، وإن كل عبد ينشر له بكل يوم وليلة أربع وعشرون خزانة مصفوفة، فيفتح له خزانة منها فيراها مملوءة نوراً من حسناته التي عملها في تلك الساعة فيسره ذلك، ويفتح له خزانة أخرى مظلمة يفوح ريحها نتناً، ويغشاه ظلامها، وهي الساعة التي عصى الله فيها فيسوؤه ذلك، ويفتح له خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسوؤه ولا ما يسره، وهي الساعة التي نام عنها، أو غفل عنها، ويتحسر على خلوها.
وهكذا تعرض عليه خزائن أوقاته وأعماله وإهماله.
ثم يستأنف لنفسه وصية أخرى في أعضائه السبعة وهي:
العين.
والأذن.
واللسان.
واليد.
والرجل.
والبطن.
والفرج.
فيشغل ويحلي كل عضو بما خلق له من الطاعات، ويحفظه من المعاصي.
ثم يواصل ترغيبها في العبادات التي تتكرر في اليوم والليلة، فرضها ونفلها، بالاستكثار منها، وحسن أدائها، والمواظبة عليها حتى تتعود النفس على ذلك.
وعلى الإنسان أن يراقب نفسه قبل العمل، وأثناء العمل، هل حركه عليه هوى النفس أو الرياء، أو المحرك له هو الله تعالى، فإن كان الله أمضاه وهذا هو الإخلاص، وإن كان لغيره تركه.
وقد خلق الله تبارك وتعالى النفس أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، وقد أمرنا الله بتزكيتها وفطامها لتكون مطمئنة عابدة لربها.
ومن محاسبة النفس وعظها وتذكيرها بما ينفعها، وزجرها عما يضرها كأن يقول لها:
يا نفس.
أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة، ولا يتوقف على سن دون سن، وكل ما هو آت قريب، فمالك لا تستعدين للموت وهو قريب؟
يا نفس.
أما تعلمين أنك صائرة إلى الجنة أو النار، فكيف يلهو من لا يدري إلى أيتهما يصير، وربما اختطف في يومه أو غده؟.
يا نفس.
إن كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراك، فما أعظم كفرك، وإن كنت تعلمين أنه يراك فما أشد جهلك، وما أقل حياءك.
يا نفس.
إن كان المانع لك من لزوم الاستقامة حب الشهوات فاطلبي الشهوات الباقية الصافية من الكدر.
يا نفس.
ألم الصبر عن الشهوات أشد وأطول أم ألم النار في الدركات؟
يا نفس.
جوار رب العالمين لا يعدله جوار، فاعملي في أيام قصار لأيام طوال، واخرجي من الدنيا خروج الأحرار، قبل أن يكون خروج اضطرار.
واعلمي أن من كانت مطيته الليل والنهار سير به وإن لم يسر.
وكل فساد في الدنيا إنما يحصل حينما لا يتوقع الفرد أو المجتمع حساباً، أما إذا توقع المجتمع حساباً فهنا ينتظم الأمر، وتصلح أحوال الأمة.
والمحاسب في المجتمع:
إما الحاكم الذي نصبه الله ليقيم شرعه في الأمة.
أو المجتمع الذي يحاسب صاحب الجريمة بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،
أو النفس التي تحاسب صاحبها وتلومه وتؤنبه، أو الاعتقاد أنه محكوم أمام عيني خبير لا تخفى عليه خافية، لا يستطيع أن يستتر عنه أحد، وأنه يراقبني وسوف يحاسبني على ما عملت.
فمن لا يرجو حساباً.
ولا يتوقع سؤالاً في الدنيا والآخرة، فإنه يفسد ويهمل العمل للآخرة كما قال سبحانه: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (٢٢) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (٢٣) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (٢٤) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (٢٥) جَزَاءً وِفَاقًا (٢٦) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (٢٨)} [النبأ: ٢١ - ٢٨].
مختارات