ماذا يعني بلوغك شهر رمضان ؟
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وبعد:
فها قد بلغت شهر رمضان، وهاهي أيامه تتصرَّم، فماذا يعني بلوغك هذا الشهر؟.
إن لذلك من المعاني والدلالات الشيء الكثير. إنها حياةٌ جديدة، بكل دلالات ومعاني الحياة الجديدة.
فرمضان فرصة لتزكية النفس والترفع بها عن أوضارها المكبِّلِة لها، لتنطلق إلى آفاقٍ رحبة في عالم السعادة والأُنس والطمأنينة، إنه عالم الصِّلات الكريمة والوَلاية الجليلة من ربِّ العالمين.
لقد كان شهر رمضان خطاً فاصلاً ومنطلقاً عظيماً للتحول في حياة كثير من الناس، بل في حياة الإنسانية جمعاء.
وإنما كان ذلك بما جعل في شهر رمضان من الخصائص والمزايا الكونية والشرعية، والتي جاء بيانها في القرآن والسنة، فالله يجعل بحكمته للأزمنة والأمكنة من المزايا والخصائص ما لا تدركه العقول، (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) [القصص: 68] فاختص الله شهر رمضان بمزايا وخيرات ليست فيما سواه من الشهور.
وجعل الله من مزايا رمضان تلك الخيرات الوفيرة والبركات الجليلة التي شهدتها وتشهدها أيامه ولياليه.
فكما أن في رمضان كان تنَزُّل الفرقان: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185].
وكما أن في رمضان كان يوم الفرقان: (إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) [الأنفال: 41].
فرمضان أيضاً فرصةٌ لأن يكون فرقاناً في حياة كل مسلم ومسلمة، ذلك أن حكمة فرض الصيام تحصيل التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].
والتقوى سبيلٌ لنيل الفرقان، قال الله تعالى: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال: 29].
لقد هيأ الله أسباباً كونيةً حافزةً على بدء حياة جديدة في رمضان، ولذلك فإن المخلوقات الأخرى تشعر بالتصريفات الكونية والتغيرات الملكوتية التي تكون في رمضان، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: " إذا دخل رمضان فُتِّحت أبواب السماء، و غُلِّقت أبواب جهنم، و سُلْسِلَت الشياطين، ولمسلم: " فُتِّحت أبواب الرحمة " وله أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا جاء رمضان فُتِّحَت أبوابُ الجنة، و أُغلقت أبواب النار، و صُفِّدت الشياطين ". و للترمذي و ابن ماجه عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: " إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفِّدت الشياطين و مَرَدَةُ الجن، وغُلِّقَت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، و فُتِّحَت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أَقْبِل، و يا باغي الشَّرِّ أَقْصِرْ، و لله عُتَقَاءُ من النار، و ذلك كُلَّ ليلة ".
فهذه التصريفات الإلهية في بعض أرجاء الكون مثل فتح أبواب الجنة، وغلق أبواب النار، وتصفيد الشياطين، ومنعهم من التسلط على المؤمنين، إنَّ كُلَّ ذلك وما يتبعه من تَنَزُّل الملائكة في ليالي رمضان، وخاصةً ليلة القدر، بأعدادٍ لا يَنْزِلون بمثلها في غيرها، إن ذلك ليدفع المؤمن لأن يكون مهيئاً لنيل بركات ربه جل وعلا، وألا ينقضي رمضان إلا وقد كتب في الفائزين المفلحين.
قال بعض أهل العلم: فائدة فتح أبواب السماء توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين، وأنه من الله بمنزلةٍ عظيمة، ومن فوائد ذلك: أنه إذا علم المكلَّف بهذا التصريف بإخبار الصادق المصدوق زاد في نشاطه وتلقى العبادات بأريحية وقبولٍ ومسابقة.
وقال بعضهم: في تصفيد الشياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذر المكلف، كأنه يقال له: قد كُفَّت الشياطين عنك، فلا تتعلل بهم في ترك الطاعة ولا فعل المعصية.
وهكذا الأسباب الشرعية المقتضية للمنافسة في فعل الخيرات والاستباق بالطاعات، فإن في شهر رمضان من الفرص ما هو عظيم وجليل، حيث تجتمع فيه أصول عبادات الإسلام من التوحيد والصلاة والزكاة والصيام وزيارة البيت العتيق.
فالمسلم الموحد لله السالم من رجز الشرك أنعم الله عليه بمزيد من الصلوات الواصلة له بربِّه جل وعلا، وهي صلاة التراويح وقيام رمضان، ووعد من حافظ عليها بمغفرة ذنوبه كلها، ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه "، حياةٌ جديدة.
وفي هذه الصلاة الوتر الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حُمْرِ النَّعم، وهي الوتر، فجَعَلَها لكم فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر " رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث خارجة بن حذافة العدوي رضي الله عنه.
وفي رمضان من أبواب تزكية النفس بالمال ما هو معلوم ومشهود، والأسوة في ذلك سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فَلَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المرسلة ".
وفي رمضان الصيام، الذي هو من أحب الأعمال وأزكاها عند الله، وفيه تدريب للنفس على ترك محبوباتها ومشتهياتها من أَجْلِ أَحَبِّ محبوب، الله رب العالمين، فبالصيام تظهر أمانة العبد مع ربه وحبه ومراقبته له جل وعلا.
وبالصيام المخلَص لله تتحقق الحياة الجديدة: " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه " متفقٌ عليه.
وفي رمضان من زيارة البيت العتيق، وتجديد الشوق إليه ما يجعل المسلم مُتَلَهِّفاً لهذه الزيارة العظيمة، حتى إنه عليه الصلاة والسلام قال لامرأةٍ سمعها تتحسَّر على عدم حجها معه حجة الوداع، قال مطيباً خاطرها: " إذا جاء رمضان فاعتمري، فإن عمرةً فيه تعدل حجة " أو قال: حجةً معي " رواه البخاري ومسلم.
وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أتى هذا البيت فلم يرفُث ولم يَفْسُق رجع كما ولدته أمه " وهذا عام فيشمل من أتى البيت حاجاً أو معتمراً. إنها حياةٌ جديدة.
وهكذا أنواع العبادات والقُرُبَات التي تهيأت لها النفوس، حتى إن المجتمعات الإسلامية لتظهر في نمط واحد وكأنها باتجاهاتها تلك على قلبٍ واحد، بما يُلْمِحُ إلى لُحْمَتِها ووحدتها إن هي أرادت ذلك.
فإذا استشعرنا كل هذه المحفزات وكل تلك الأساليب من المرغبات التي تتعدى محيط الإنسان وإدراكه إلى عوالم أخرى لا يحيط بها، ثم يوجد من بين المسلمين من لا يرفع بذلك رأساً ولا يقتطف حظَّه من تلك الغنائم، فهو الخاسر الذي وصل إلى حالةٍ من الإعراض والتشبث بالآثام والتباعد عن الفضائل والحسنات بما يجعله شبه ميئوس منه، جراء إعراضه، إلا أن يتداركه الله بفضل منه ورحمة.
ولأهمية هذا التصور فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الصحابةَ يوماً وبين لهم فيه بياناً شافياً، فعن كعب بن عُجرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " احضُروا المنبر " فحَضَرْنا، فلما ارتقى درجةً قال: " آمين " فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: " آمين "، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: " آمين "، فلما نزل قلنا: يارسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه؟! قال: " إنَّ جبريل عليه الصلاة والسلام عَرَضَ لي فقال: بُعْداً لمن أدرك رمضان فلم يُغْفَر له، قلت: آمين، فلما رقيت الثانية قال: بُعْداً لمن ذُكِرْتَ عنده فلم يُصَلِّ عليك، قلت: آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بُعْداً لمن أدرك أبواه الكبرَ عنده أو أحدُهما فلم يُدخلاه الجنة، قلت: " آمين ". رواه الحاكم وصححه ابن حبان.
وبعد: فإن بلوغ شهر رمضان يعتبر في نظر الموفقين حياةً جديدة، جعلني وإياكم من السعداء في الدارين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
مختارات