فقه الرجاء (٢)
والخوف والرجاء بالنسبة للعبد كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (٩)} [الزمر: ٩].
وفي كلا الرجائين كمال:
رجاء المحسن ثواب إحسانه وطاعاته، لقوة أسباب الرجاء معه، ورجاء المذنب المسيء التائب مغفرة ربه وعفوه؛ لأن رجاءه مجرد من علة رؤية العمل، مقرون بذلة رؤية الذنب.
والرجاء من أجلِّ المنازل وأعلاها وأشرفها، وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله عزَّ وجلَّ.
وقوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته، وغلبة رحمته غضبه.
ولولا الرجاء لعطلت عبودية القلب والجوارح، ولولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة، ولولا روح الرجاء وريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر الإرادات، وعلى حسب محبة الله وقوتها يكون الرجاء والخوف، فكل محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء، وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه، لكن خوف المطيع المحب لا يصحبه وحشة، بخلاف خوف المسيء.
ورجاء المطيع المحب لا يصحبه علة، بخلاف رجاء المذنب المسيء.
والرجاء ضروري ولازم لكل عبد، لو فارقه لحظة لتلف أو كاد، فإنه دائر بين ذنب يرجو غفرانه، وعيب يرجو إصلاحه، وعمل صالح يرجو قبوله، واستقامة يرجو حصولها ودوامها، وقرب من الله، ومنزلة عنده يرجو وصوله إليها، ولا ينفك أحد عن هذه الأمور أو بعضها.
والرجاء من الأسباب التي ينال بها العبد ما يرجوه من ربه، بل هو من أقوى الأسباب، فالراجي راغب وراهب، ومؤمل لفضل ربه، وحسن الظن به، متعلق الأمل، ببره وجوده، عابد له بأسمائه الحسنى كالبر والكريم، والجواد والوهاب، والمعطي والرزاق، والحليم والغفور.
والله سبحانه يحب من عبده أن يرجوه، ولذلك كان عند رجاء العبد له وظنه به كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)} [البقرة: ٢١٨].
وليس في الرجاء ولا في الدعاء معارضة لتصرف المالك سبحانه في ملكه، فإن الراجي إنما يرجو تصرفه في ملكه بما هو أولى وأحب الأمرين إليه.
فإن الفضل والإحسان أحب إليه من العدل، والعفو أحب إليه من الانتقام، والمسامحة أحب إليه من الاستقصاء، والترك أحب إليه من الاستيفاء، ورحمته سبقت غضبه.
فالراجي علق رجاءه بتصرفه المحبوب له، المرضي له، وإذا تعلق الراجي بمراده دون مراد سيده فهو إنما علقه بمراده المحبوب له، هارباً من مراده المكروه له، وعلى تقدير أن يكون محبوباً له إذا كان انتقاماً فالعفو والفضل أحب إليه منه، فهو إنما علق رجاءه بأحب المرادين إليه.
وليس الدعاء والرجاء اعتراضاً على ما سبق به القدر، بل تعلقاً بما سبق به الحكم، فإنه إنما يرجو فضلاً وإحساناً ورحمة سبق بها القضاء والقدر، وجعل الرجاء أحد أسباب حصولها للعبد.
أما فوائد الرجاء:
فالرجاء يبرد حرارة الخوف التي قد تصل بصاحبها إلى اليأس.
وفيه إظهار العبودية والفاقة والحاجة إلى ما يرجوه من ربه بسؤاله.
وهو سبحانه يحب من عباده أن يرجوه ويسألوه من فضله؛ لأنه الملك الجواد، أجود من سئل، وأحب ما إلى الجواد أن يرجى ويؤمل ويسأل: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠)} [فاطر: ٢٩،٣٠].
والرجاء يحدو العبد في سيره إلى الله، ويطيب له المسير، فلولا الرجاء لما سار أحد، فإن الخوف وحده لا يحرك العبد، وإنما يحركه الحب، ويزعجه الخوف، ويحدوه الرجاء، وبالرجاء يزداد العبد حباً لله، فإنه كلما اشتد رجاؤه، وحصل له ما يرجوه ازداد حباً لله، وشكراً له، ورضى به وعنه.
وبالرجاء يزداد العبد من معرفة الله وأسمائه وصفاته، ومعانيها، والتعلق بها، والتعبد بها.
وفي الرجاء تكميل مراتب العبودية من الذل والانكسار، والتوكل والاستعانة والخوف والرجاء، والصبر والشكر، والرضا والإنابة.
ولهذا قدر الله على العبد الذنب وابتلاه به لتكميل مراتب العبودية له بالتوبة التي هي أحب شيء إليه، فكذلك تكميلها بالرجاء والخوف.
ودرجات الرجاء ثلاث:
الأولى: رجاء يبعث العامل لبذل جهده لما يرجوه من ثواب ربه، ويولد عنده اللذة حين الطاعة والعبادة.
فإنه كلما طالع قلبه ثمرتها وحسن عاقبتها التذ بها، وهذا كحال من يرجو الأرباح العظيمة في سفره، وكذا المحب الصادق الساعي في مراضي محبوبه الشاقة عليه كلما تأمل رضاه عنه، وقبوله سعيه، وقربه منه، تلذذ بتلك المساعي والأعمال.
وكذلك الطباع لها معلوم ورسوم تتقاضاها من العبد، ولا تسمح له بتركها إلا بعوض هو أحب إليها من رسومها.
فإذا قوي تعلق الرجاء بهذا العوض الأفضل الأشرف سمحت الطباع بترك تلك الرسوم، فإن النفس لا تترك محبوباً إلا لمحبوب هو أحب إليها منه، أو حذراً من مخوف هو أعظم مفسدة لها من حصول مصلحتها بذلك المحبوب.
الثانية: رجاء يبعث النفس لترك مألوفاتها، والاستبدال بها مألوفات أخرى هي خير منها وأكمل.
فرجاء هؤلاء أن يبلغوا مقصودهم بصفاء الوقت، ولزوم الشرع، والوقوف عند حدوده.
الثالثة: رجاء أرباب القلوب، وهو رجاء لقاء الخالق الباعث على الاشتياق، المبغض المنغص للعيش، المزهد في الخلق.
وهذا الرجاء أفضل أنواع على الرجاء وأعلاها، والاشتياق هو سفر القلب في طلب محبوبه، وعيشه منغص حتى يلقى محبوبه.
فهناك تقر عيناه، ويزول عن عيشه تنغيصه، ويزهد في الخلق وما يملكون؛ لأن صاحبه طالب للأنس بالله، والقرب منه، فهو أزهد شيء في الخلق، إلا من أعانه على هذا المطلوب منهم، وأوصله إليه، فهو أحب خلق الله إليه، ولا يأنس من الخلق بغيره، ولا يسكن إلى سواه.
فعليك بطلب هذا الرفيق جهدك، فإن لم تظفر به فاتخذ الله رفيقاً، ودع الناس كلهم جانباً.
وعلامة صحة الرجاء حسن الطاعة، ولزوم العبادة، والخوف والرجاء جناحان يطير بهما المقربون إلى كل مقام عال ومنزل محمود.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة لكل من أراد الله والدار الآخرة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١)} [الأحزاب: ٢١].
والله رؤوف بالعباد، رحيم بهم، ومن رحمته أن خلقهم في أحسن تقويم، وهداهم إلى الإيمان، وأعانهم على الطاعة، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض، وأسكنهم في أرضه، وأطعمهم من رزقه، وسقاهم من مائه، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، ومظاهر رحمته يوم القيامة أعظم وأكبر كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، أنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه (١).
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٦٠٠٠)، ومسلم برقم (٢٧٥٢) واللفظ له.
مختارات