فقه الرجاء (١)
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (١١٠)} [الكهف: ١١٠].
وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١)} [الأحزاب: ٢١].
الرجاء: هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده.
والرجاء ضد اليأس؛ لأن الرجاء يبعث على العمل، واليأس يمنع من العمل، والرجاء محمود لأنه باعث، واليأس مذموم لأنه صارف عن العمل.
والخوف ليس ضد الرجاء، بل هو رفيق له، بل هو باعث آخر بطريق الرهبة، كما أن الرجاء باعث بطريق الرغبة.
فالرجاء يورث طول المجاهدة بالأعمال، والمواظبة على الطاعات كيفما تقلبت الأحوال.
ومن آثار الرجاء: التلذذ بدوام الإقبال على الله تعالى.
والتنعم بمناجاته، والتلطف في التملق له.
والدواء يحتاج إليه أحد رجلين:
إما رجل غلب عليه الخوف فأسرف في المواظبة على العبادة حتى أضر بنفسه وأهله، وإما رجل غلب عليه اليأس فترك العبادة وانقطع عن العمل.
وهذان رجلان مائلان عن الاعتدال، فيحتاجان إلى علاج يردهما إلى الاعتدال.
فأما العاصي المغرور المتمني على الله مع الإعراض عن العبادة، واقتحام المعاصي فأدوية الرجاء تنقلب سموماً مهلكة في حقه، فمثل هذا المغرور لا يستعمل في حقه إلا أدوية الخوف، والأسباب المهيجة له.
فلهذا يجب أن يكون واعظ الخلق متلطفاً ناضراً إلى مواقع العلل، معالجاً لكل علة بما يضادها ويزيلها.
والمطلوب هو العدل، وخير الأمور أوسطها.
فإذا جاوز الوسط إلى أحد الطرفين عولج بما يرده إلى الوسط، لا بما يزيد في ميله عن الوسط.
وأسباب الرجاء تستعمل في حق الآيس، أو فيمن غلب عليه الخوف، والخوف والرجاء جامعان لأسباب الشفاء في حق أصناف المرضى، وذلك موجود في القرآن والسنة، ليستعمله العلماء الذين هم ورثة الأنبياء حسب الحاجة والحالة استعمال الطبيب الحاذق، لا استعمال الأخرق الذي يظن أن كل شيء من الأدوية صالح لكل مريض.
وحال الرجاء يطلب بالاعتبار وتدبر القرآن، والآثار.
أما الاعتبار:
فيتأمل العبد أصناف النعم التي أنعم الله بها على عباده، ويعرف لطائف نعم الله على عباده، وعجائب حكمه في خلق الإنسان، وما أعد له من الأرزاق في الدنيا والآخرة مما هو ضروري أو جمالي.
فمن أعطى عباده هذا كيف يرضى بسوقهم إلى الهلاك المؤبد؟
ولكن الناس يظلمون أنفسهم تارة باليأس.
وتارة بالتقصير.
وتارة بالاستهانة بأوامر الله.
بل إذا نظر الإنسان نظراً شافياً علم أن أكثر الخلق قد هيء له أسباب السعادة في الدنيا، حتى إنه يكره الانتقال من الدنيا بالموت؛ لأن أسباب النعم أغلب لا محالة، وإنما الذي يتمنى الموت نادر.
فإذا كان أغلب الخلق في الدنيا الغالب عليهم الخير والسلامة، فالغالب أن أمر الآخرة يكون كذلك إلا من مات كافراً أو مشركاً، أو منافقاً.
ومدبر الدنيا والآخرة واحد، وهو غفور رحيم كريم لطيف بعباده، فهذا إذا تدبره الإنسان قوَّى به أسباب الرجاء كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثَالِهَا وَأزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ، فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، أوْ أغْفِرُ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أتَانِي يَمْشِي، أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطِيئَةً لا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَة» أخرجه مسلم (١).
وكذلك النظر في حكمة الشريعة وسنتها في مصالح الدنيا، ووجه الرحمة للعباد بها في الدنيا والآخرة.
وأما الآيات فكقوله سبحانه: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)} [الزمر: ٥٣].
وقوله سبحانه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (٥)} [الضحى: ٥].
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «للهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأرْضِ فَلاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأيِسَ مِنْهَا، فَأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ! أنْتَ عَبْدِي وَأنَا رَبُّكَ أخْطَأ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» أخرجه مسلم (٢).
والرجاء هو النظر إلى سعة رحمة الله، والاستشعار بجوده وفضله، والثقة بجوده وكرمه، وهو حاد يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، وهو الله والدار الآخرة، ويطيب لها السير إلى ربها ومرضاته.
والفرق بين الرجاء والتمني:
أن التمني يكون مع الكسل.
والرجاء يكون مع بذل الجهد، وحسن التوكل.
فعلامة صحة الرجاء حسن الطاعة.
والرجاء ثلاثة أنواع:
رجاء من عمل بطاعة الله على نور من الله فهو راج لثوابه.
ورجل أذنب ذنوباً ثم تاب منها فهو راج لمغفرة الله وعفوه وإحسانه، وهذان محمودان.
والثالث: رجل متماد في التفريط والخطايا، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا الغرور والتمني، والرجاء الكاذب.
(١) أخرجه مسلم برقم (٢٦٨٧).
(٢) أخرجه مسلم برقم (٢٧٤٧).
مختارات