ذِكْر قصة نوح عليه السلام (٤)
قال اللَّه تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ [المؤمنون: ٢٦ - ٢٧] أي: بأمرنا لكَ، وبمرأى منَّا لصَنْعَتكَ لها، ومُشاهدتِنا لذلك، ولنرشدكَ إلى الصَّواب فىِ صنعتِها ﴿فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ [المؤمنون: ٢٧] فتقدَّم إليه بأمره العظيم العالي أنَّه إذا جاء أمرُه وحلَّ بأسُه أن يحملَ في هذه السفينة من كلٍّ زوجين اثنين من الحيوانات، وسائر ما فيه روحٌ، ومن المأكولات وغيرها، لبقاءِ نَسْلِها، وأن يحملَ معه أهلَه، أي: أهل بيته، إلا منْ سبقَ عليه القولُ منهم، أي: إلا من كانَ كافرًا، فإنَه قد نفذتْ فيه الدعوة التي لا تُردُّ، ووجبَ عليه حلولُ البأسِ الذي لا يُردُّ، وأمر أنَّه لا يُراجعه فيهم إذا حلَّ بهم ما يُعاينه من العذاب العظيم، الذي قد حتَّمه عليهم الفعَّالُ لما يُريد، كما قدَّمنا بيانه قبل.
والمرادُ بالتَّنُّور عند الجمهور: وجهُ الأرض، أي: نبعتِ الأرضُ من سائر أرجائِها، حتَّى نبعتِ التنانيرُ التي هي محالُّ النَّار.
وعن ابن عباس: التَّنُّور: عينٌ في الهند.
وعن الشعبي: بالكوفة، وعن قتادة: بالجزيرة.
وقال عليُّ بن أبي طالب: المرادُ بالتَّنُّور: فَلقُ الصُّبْحِ وتنويرُ الفجر، أي: إشراقه وضِيَاؤُه.
أي: عندَ ذلك فاحملْ فيها من كلٍّ زوجين اثنين.
وهذا قولٌ غريب.
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: ٤٠] هذا أمرٌ بأنَّه عندَ حلول النقمة بهم؛ أن يحملَ فيها من كلِّ زوجين اثنين.
وفي كتاب أهل الكتاب: أنه أمر أن يحمل من كل ما يؤكل سبعة أزواج، ومما لا يؤكل زوجين: ذكرًا وأنثى.
وهذا مغايرٌ لمفهوم قوله تعالى في كتابنا الحق: ﴿اثْنَيْنِ﴾ إن جعلنا ذلك مفعولًا به، وأما إنْ جعلناه توكيدًا لزوجين، والمفعول به محذوف، فلا ينافي واللَّه أعلم.
وذكر بعضُهم، ويُروى عن ابن عباس: أنَّ أوَّل ما دخلَ من الطُّيور الدُّرَّة (١)، وآخر ما دخلَ من الحيوانات الحِمار.
ودخلَ إبليسُ متعلِّقًا بذنبِ الحمار.
وقال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا أبي، حدَّثنا عبد اللَّه بن صالح، حدَّثني الليث، حدَّثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أنَّ رسولَ اللَّه ﷺ قالَ: "لما حملَ نوحٌ في السفينة منْ كلٍّ زوجين اثنين، قال أصحابه: وكيف نطمئن -أو كيف تطمئن المواشي- ومعنا الأسد؟ فسلّط اللَّه عليه الحُمّى، فكانت أوَّل حمَّى نزلتْ في الأرض.
ثم شَكوا الفأرةَ، فقالوا: الفُويسقة تُفْسدُ علينا طعامنا ومتاعَنا.
فأوحى اللَّه إلى الأسد فعطسَ، فخرجتِ الهِرَّة منه، فتخبَّات الفأرةُ منها".
هذا مرسل.
وقوله ﴿وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ [هود: ٤٠] أي: من استُجيبت فيهم الدعوة النافذة ممن كفر، فكان منهم ابنه يام الذي غَرِق كما سيأتي بيانه ﴿وَمَنْ آمَنَ﴾ أي: واحمل فيها منْ آمنَ بكَ من أُمَّتكَ، قال اللَّه تعالى: ﴿وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: ٤٠] هذا مع طول المُدَّةِ والمقام بين أظهرهم، ودعوتهم الأكيدة ليلًا نهارًا بضروبِ المَقال وفُنون التلطُّفاتِ، والتهديد والوعيد تارةً، والترغيب والوعد أخرى.
وقد اختلفَ العلماءُ في عِدَّة منْ كان معه في السفينة: فعن ابن عباس كانوا ثمانينَ نَفْسًا، معهم نساؤهم.
وعن كعبِ الأحبار: كانوا اثنين وسبعين نَفْسًا.
وقيل: كانوا عشرة.
وقيل: إنما كانوا نوحًا وبنيه الثلاثة وكنائنه الأربع بامرأة يام، الذي انخزل (٢) وانعزلَ، وسلكَ عن طريق النجاة، فما عدلَ إذ عدل.
وهذا القولُ فيه مخالفةٌ لظاهر الآية، بل هي نصٌّ في أنه قد ركبَ معه غير أهله طائفةٌ ممن آمنَ به، كما قال ﴿وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ١١٨] وقيل: كانوا سبعة.
وأما امرأة نوح، وهي أمُّ أولادِه كلِّهم، وهم: حَام، وسَام، ويافث، ويَام؛ وتُسمِّيه أهلُ الكتاب كنعان (٣)، وهو الذي قد غَرِقَ، وعابر؛ وقد ماتتْ قبلَ الطُّوفان، قيل: إنها غرقتْ مع منْ غَرِقَ، وكانت ممن سَبَقَ عليه القولُ لكفرها، وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة، فيُحتمل أنها كفرتْ بعد ذلك، أو أنَّها أنظرت ليومِ القيامة، والظاهرُ الأوَّلُ، لقوله ﴿لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح: ٢٦].
قال اللَّه تعالى: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾ [المؤمنون: ٢٨ - ٢٩] أمره أن يحمد ربَّه على ما سخر له من هذه السفينة، فنجَّاه بها، وفتحَ بينه وبينَ قومه، وأقرَّ عينَه ممن خالفَه، وكذَّبه، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ﴾ [الزخرف: ١٢ - ١٤].
وهكذا يُؤمر بالدعاء في ابتداء الأمور أن يكون على الخير والبركة، وأن تكونَ عاقبتُها محمودةً، كما قال تعالى لرسوله ﷺ حين هاجر: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٠].
وقد امتثلَ نوحٌ هذه الوصيَّةَ ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [هود: ٤١] أي: على اسم اللَّه ابتداءُ سيرها وانتهاؤه ﴿إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي: وذو عقاب أليم، مع كونه غفورًا رحيمًا، لا يُردُّ بأسه عن القوم المجرمين، كما أحلَّ بأهل الأرض الذين كفروا به وعبدوا غيره.
قال اللَّه تعالى: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾ [هود: ٤٢].
وذلك أنَّ اللَّه تعالى أرسلَ من السماء مطرًا لم تعهدْه الأرض قبلَه ولا تمطره بعده، كان كأفواه القِرَبِ، وأمرَ الأرضَ فنبعتْ من جميع فِجاجها وسائر أرجائِها، كما قال تعالى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ [القمر: ١٠ - ١٣].
والدُّسُر: السابر (٤).
﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ أي: بحفظنا وكلاءَتنا (٥) وحراستنا ومُشاهدتنا لها ﴿جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ﴾ [القمر: ١٤].
وقد ذكر ابن جرير وغيره: أنَّ الطُّوفانَ كان في ثالث عشر شهر آبٍ في حمارَّه (٦) القيظ.
وقال تعالى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ [الحاقة: ١١] أي: السفينة.
﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ [الحاقة: ١٢].
قال جماعة من المفسرين: ارتفعَ الماءُ على أعلى جبل بالأرض خمسةَ عشرَ ذراعًا، وهو الذي عند أهل الكتاب، وقيل: ثمانين ذراعًا.
وعمَّ جميعَ الأرض طولَها والعرضَ، سهلَها وحَزْنَها (٧) وجبالَها وقِفارها ورِمالها.
ولم يبقَ على وجَه الأرض ممن كان بها من الأحياء عينٌ تَطْرُفُ، ولا صغيرٌ ولا كبير.
قال الإمام مالك: عن زيد بن أسلم؛ كان أهلُ ذلك الزمان قد مَلؤوا السَّهلَ والجبلَ.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لم تكنْ بقعةٌ في الأرض إلا ولها مالكٌ وحائز؛ رواهما ابن أبي حاتم.
(١) "الدُّرَّة": نوع من الببغاوات، جميل الشكل حسن الصوت.
(٢) "انخزل": ارتدَّ عن الإيمان والركوب.
(٣) في المطبوع: كعنان؛ وهو تصحيف.
(٤) كذا في الأصول، وفي المطبوع: المسامير.
(٥) "وكَلاءَتنا": حفظنا.
(٦) في المطبوع: في حساب القبط.
وحمَارَّة القيظ: شدَّة حره، وقد تُخفَّف الراء.
(٧) "حَزْنها": ما خشن من الأرض وغلظ.
مختارات