قصة نوح عليه السلام (٢)
وأما مضمونُ ما جرى له مع قومه مأخوذًا من الكتاب والسُّنَّة والآثار، فقد قدَّمنا عن ابن عباس؛ أنه كان بين آدمَ ونوح عشرةُ قرون، كلُّهم على الإسلام.
رواه البخاري.
وذكَرْنا أنَّ المرادَ بالقرن: الجيل، أو المدة على ما سلف.
ثم بعد تلك القرون الصالحة حدثت أمورٌ اقتضت أنْ آلَ الحالُ باهل ذلك الزمان إلى عبادة الأصنام، وكان سببُ ذلك ما رواه البخاري: من حديث ابن جُريج، عن عطاء، عن ابن عباس، عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: ٢٣] قال: هذه أسماءُ رجالٍ صالحينَ من قومِ نوح، فلما هَلكُوا أوحى الشيطانُ إلى قومِهم أن انصبُوا إلى مجالسِهم التي كانوا يجلسونَ فيها أنصابًا، وسَمُّوها بأسمائِهم، ففعلُوا، فلم تُعْبدْ حتَّى إذا هلكَ أولئكَ، وتَنسَّخَ العلمُ عُبِدتْ.
قال ابن عباس: وصارت هذه الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعدُ.
وهكذا قال عكرمة والضَّحَّاك، وقتادة، ومحمد بن إسحاق.
وقال ابن جرير في تفسيره: حدَّثنا ابن حُميد، حدَّثنا مهران، عن سفيان، عن موسى، عن محمد بن قيس، قال: كانوا قومًا صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباعٌ يقتدون بهم، فلما ماتوا، قال أصحابُهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوَّرناهم كان أشوقَ لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوَّروهم، فلما ماتوا وجاءَ آخرون، دبَّ إليهم إبليسُ فقال: إنما كانوا يَعبدونهم وبهم يُسقون المطرَ، فعبدوهم.
وروى ابن أبي حاتم: عن عروة بن الزبير؛ أنَّه قالَ: ود، ويغوث، ويَعُوق، وسُواع، ونَسْر، أولاد آدم، وكان وَدٌّ أكبرَهم وأبرَّهم به.
وقال ابن أبي حاتم: حدَّثنا أحمد بن منصور، حدَّثنا الحسن بن موسى، حدَّثنا يعقوب، عن أبي المُطهَّر، قال: ذكروا عند أبي جعفر -هو الباقر- وهو قائمٌ يُصلِّي يزيدَ بن المُهلَّب، قال: فلما انفتل (١) من صلاته، قال: ذكرتُم يزيدَ بن المُهلَّب، أما إنه قُتِلَ في أوَّل أرضٍ عُبدَ فيها غيرُ اللَّه.
قال: ذكر ودًّا رجلًا صالحًا، وكان محئببًا في قومِه، فلما ماتَ عكفُوا حولَ قبره في أرضِ بابلَ وجَزِعُوا عليه، فلما رأى إبليسُ جزعَهم عليه، تشبَّه في صورة إنسان، ثم قال: إنِّي أرى جزعَكم على هذا الرجل، فهل لكم أن أصوِّر لكم مثلَه، فيكون في ناديكم فتذكرونه؟ قالوا: نعم.
فصوَّرَ لهم مثلَه.
قال: ووضعوه في ناديهم، وجعلوا يذكرونَه.
فلما رأى ما بهم من ذكرِه.
قال: هل لكم أن أجعلَ في منزل كلِّ واحدٍ منكم تمثالًا مثلَه، ليكونَ له في بيتهِ فتذكرونه؟ قالوا: نعم.
قال: فمثَّل لكلِّ أهلِ بيتٍ تمثالًا مثلَه، فأقبلوا فجعلُوا يذكرونَه به.
قال: وأدرك أبناؤُهم، فجعلُوا يرون ما يصنعونَ به، قال: وتناسلوا، ودرسَ (٢) أثرُ ذكرهم إيَّاه حتَّى اتَّخذوه إلهًا يعبدونَه من دون اللَّه أولاد أولادِهم، فكانَ أوَّلَ ما عُبد غير اللَّهِ "ودُّ" الصنمُ، الذي سمَّوه وَدًّا.
ومقتضى هذا السياق: أنَّ كلَّ صنمٍ من هذه عبدَه طائفةٌ من الناس، وقد ذُكرَ أنَّه لما تطاولتِ العهودُ والأزمانُ جعلوا تلك الصُّورَ تماثيلَ مجسَّدةً، ليكونَ أثبتَ لها، ثم عُبِدتْ بعد ذلك من دون اللَّه، ولهم في عبادتِها مسالكُ كثيرةٌ جدًا قد ذكرناها في مواضِعها من كتابنا التفسير، وللَّه الحمد والمنة.
والمقصودُ أن الفسادَ لما انتشرَ في الأرض وعمَّ البلاءُ بعبادة الأصنام فيها، بعثَ اللَّه عبدَه ورسولَه نوحًا ﵇، يدعو إلى عبادةِ اللَّه وحده لا شريكَ له، وينهى عن عبادةِ ما سواه.
فكان أوَّلَ رسول بعثه اللَّه إلى أهل الأرض، كما ثبتَ في الصحيحين: من حديث أبي حيَّان، عن أبي زُرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، عن النبيِّ ﷺ في حديث الشفاعة، قال: "فيأتون آدمَ فيقولون: يا آدمُ أنت أبو البشر، خلقك اللَّه بيده، ونفخَ فيكَ من روحه، وأمرَ الملائكةَ فسجدوا لكَ، وأسكنكَ الجنَّة، ألا تشفعُ لنا إلى ربِّك؟ ألا ترى ما نحنُ فيه وما بَلَغَنا؟ فيقول: ربِّي قد غضبَ غَضَبًا شديدًا لم يغضبْ قبلَه مثلَه، ولا يغضبُ بعدَه مثلَه، ونهاني عن الشجرة، فعصيتُ، نفسي نفسي، اذهبُوا إلى غيري، اذهبُوا إلى نوح.
فيأتونَ نوحًا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسمَّاك اللَّه عبدًا شكورًا، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما بَلَغَنا، ألا تشفعُ لنا إلى ربِّك ﷿؟ فيقولُ: ربِّي قد غضبَ اليومَ غَضَبًا لم يغضبْ قبلَه مثلَه ولا يغضبُ بعدَه مِثْله، نفسي نفسي".
وذكر تمامَ الحديث بطوله، كما أورده البخاريُّ في قصة نوح.
فلما بعثَ اللَّه نوحًا دعاهم إلى إفراد العبادة للَّه وحدَه لا شريكَ له، ألَّا يعبدوا معه صنمًا ولا تمثالًا ولا طاغوتًا، وأن يعترفوا بوحدانيته، وأنَّه لا إلهَ غيره ولا ربَّ سواه، كما أمر اللَّه تعالى من بعده من الرسل الذين هم كلُّهم من ذريَّته، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ [الصافات: ٧٧] وقال فيه وفي إبراهيم: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [الحديد: ٢٦] أي: كل نبيّ من بعد نوح فمن ذريته، وكذلك إبراهيم، قال اللَّه تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦] وقال تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف: ٤٥] وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥].
ولهذا قال نوح لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: ٥٩] وقال: ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ [هود: ٢٦] وقال: ﴿يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: ٦٥] وقال: ﴿قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (٦) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (١٢) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ الآيات الكريمات [نوح: ٢ - ١٤].
فذكرَ أنَّه دعاهم إلى اللَّه بأنواع الدعوة في الليل والنهار والسِّرِّ والإجهار بالترغيب تارةً والترهيب أخرى، وكلُّ هذا، فلم ينجحْ فيهم، بل استمرَّ أكثرُهم على الضلالة والطغيان وعبادة الأصنام والأوثان، ونَصَبُوا له العداوةَ في كلِّ وقتٍ وأوان، وتَنقَّصُوه وتنقَّصُوا منْ آمنَ به، وتوعَّدوهم بالرجم والإخراج، ونالوا منهم وبالغوا في أمرهم: ﴿قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ﴾ أي: السادة الكبراء منهم ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٦٠) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: ٦٠ - ٦١] أي: لست كما تزعمونُ من أني ضالٌّ، بل على الهدي المستقيم رسولٌ من رب العالمين، أي: الذي يقول للشيء كن فيكون ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٦٢].
وقالوا له فيما قالوا: ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ [هود: ٢٧] تعجَّبُوا أن يكونَ بشرًا رسولًا، وتنقَّصُوا بمن اتَّبعه، ورأوْهم أراذلَهم.
وقد قيل: إنهم كانوا من أفناد (٣) النَّاس وهم ضعفاؤهم، كما قال هرقل: وهم أتباعُ الرسل.
وما ذاك إلا لأنه لا مانعَ لهم من اتباع الحقِّ.
وقولهم: ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ [هود: ٢٧] أي: بمجرد ما دعوتُهم استجابوا لكَ من غير نظر ولا رويَّة، وهذا الذي رموهم به هو عين ما يُمدحون بسببه ﵃، فإن الحقَّ الظاهرَ لا يحتاجُ إلى رويَّةٍ ولا فكر ولا نظر، بل يجبُ اتِّباعه والانقياد له متى ظهرَ.
ولهذا قال رسول اللَّه ﷺ مادحًا للصدِّيق: "ما دعوتُ أحدًا إلى الإسلام إلا كانت كبوة (٤)، غير أبي بكر فإنه لم يتلعثمْ"
وقول كَفَرةِ قوم نوحٍ له ولمن آمنَ به: ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ﴾ [هود: ٢٧] أي: لم يظهرْ لكم أمر بعد اتصافكم بالإيمان ولا مزيَّة علينا ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (٢٧) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ [هود: ٢٧ - ٢٨].
وهذا تلطُّفٌ في الخطاب معهم، وترفُّق بهم في الدعوة إلى الحقِّ، كما قال تعالى: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: ٤٤] وقال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥] وهذا منه، يقول لهم: ﴿أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ﴾ [هود: ٢٨] أي: النبوة والرسالة ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ أي: فلم تفهموها ولم تهتدوا إليها ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ أي: أنغصبكِم بها، ونجبركم عليها ﴿وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ أي: ليس لي فيكم حيلة والحالة هذه ﴿وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾ [هود: ٢٩] أي: لستُ أريد منكم أجرةً على إبلاغي إياكم ما ينفعكم في دنياكم وأخراكم، إن أطلبُ ذلك إلا من اللَّه الذي ثوابُه خيرٌ لي وأبقى مما تُعطوني أنتم.
(١) انفتل: انصرف من صلاته.
(٢) درسَ: انمحى.
(٣) أفناد: ضعفاء الرأي من الناس.
(٤) "كبوة": وقفة وتردُّد.
مختارات