فقه الشكر (١)
قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (٧)} [إبراهيم: ٧].
وقال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤)} [النحل: ١١٤].
الشكر: هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف، والاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع، والثناء على المحسن بذكر إحسانه، ورؤية النعم والمنعم، واستفراغ الطاقة في الطاعة، وأن لا تعصي الله بنعمه.
والشكر والصبر في محل الاستواء، فالشكر وظيفة السراء، والصبر وظيفة الضراء.
والشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح:
فالقلب للمعرفة والمحبة.
واللسان للثناء والحمد.
والجوارح لاستعمالها في طاعة المشكور.
وكفها عن معاصيه.
والشكر مبني على خمس قواعد وهي:
خضوع الشاكر للمشكور.
وحبه له.
واعترافه بنعمه.
وثناؤه عليه بها.
وأن يستعملها فيما يحب لا فيما يكره.
وأقوى الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعمة.
وأكمل الشكر: رؤية النعمة والمنعم، وكلما كان شهود النعمة أتم كان الشكر أكمل.
وحقيقة الشكر: ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناءً واعترافاً.
وعلى قلبه شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه انقياداً وطاعة.
والإيمان نصفان: نصف شكر، ونصف صبر، وقد أمر الله بالشكر ونهى عن ضده، وأثنى على أهله، وجعله غاية خلقه وأمره، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سبباً للمزيد من فضله.
والشاكرون قسمان:
فشكر العامة: على المطعم، والمشرب، والملبس، والمسكن، والمركب ونحوها.
وشكر الخاصة: على ما سبق، وعلى التوحيد والإيمان والهداية.
وهذا أكمل، وأعلى، وأتم، وأشمل.
والشكر أخص بالأفعال، والحمد أخص بالأقوال، وما يُّحمد الرب تعالى عليه أتم مما يُشكر عليه، فإنه يُّحمد على أسمائه وصفاته، وأفعاله ونعمه، ويُشكر على نعمه.
وما يحمد به أخص مما يشكر به، فإنه يشكر بالقلب واللسان والجوارح، ويحمد بالقلب واللسان.
وكل من الصبر والشكر داخل في حقيقة الآخر، لا يمكن وجوده إلا به، فإن الشكر هو العمل بطاعة الله، وترك معصيته، والصبر أصل ذلك، فالصبر على الطاعة وعن المعصية هو عين الشكر.
وإذا كان الصبر مأموراً به فأداؤه هو الشكر.
وحقيقة الشكر إنما تلتئم من الصبر والإرادة والفعل.
وصبر الطاعة لا يأتي به إلا شاكر، ولكن اندرج شكره في صبره، فكان الحكم للصبر، كما اندرج صبر الشكور في شكره، فكان الحكم للشكر.
ومقامات الإيمان لا تعدم ولا تزول بالتنقل فيها، بل تندرج ويطوى الأدنى في الأعلى كما يندرج الإيمان في الإحسان، وكما يندرج الصبر في الرضا، ويندرج الرضا في التفويض، لا أن ذلك يزول والمقدور الواحد يتعلق به الشكر والصبر، سواء كان محبوباً أو مكروهاً.
فالفقر مثلاً يتعلق به الصبر، وهو أخص به؛ لما فيه من الكراهة.
والغنى يتعلق به الشكر؛ لما فيه من النعمة، فمن غلب شهود نعمته في الفقر وتلذذ به عده نعمة يشكر عليها، ومن غلب شهود ما فيه من الابتلاء والضيق عده بليّة يصبر عليها، وعكسه الغنى.
والله تبارك وتعالى ابتلى العباد بالنعم كما ابتلاهم بالمصائب، وعد كل ذلك ابتلاء فقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (٣٥)} [الأنبياء: ٣٥].
والله سبحانه خلق العالم العلوي والسفلي، وخلق ما على الأرض للابتلاء والاختبار.
وهذا الابتلاء إنما هو ابتلاء صبر العباد وشكرهم في الخير والشر، والسراء والضراء، والعافية والبلاء.
والابتلاء بالنعم من الغنى والعافية والجاه والقدرة أعظم الابتلائين، والنعمة بالفقر والمرض وفيض الدنيا وأسبابها، وأذى الخلق له، قد يكون أعظم النعمتين، وفرض الشكر عليها أوجب من الشكر على أضدادها.
فالرب تعالى يبتلي بنعمه وينعم بابتلائه، غير أن الصبر والشكر حالتان لازمتان للعبد في أمر الرب ونهيه، وقضائه وقدره، لا يستغني عنهما طرفة عين.
مختارات