فقه الشكر (٣)
ومن أسماء الله عزَّ وجلَّ الشاكر والشكور كما قال سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (١٤٧)} [النساء: ١٤٧].
وقال سبحانه: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧)} [التغابن: ١٧].
وشكر الرب تعالى ليس كشكر المخلوق، بل له شأن آخر كشأن صبره سبحانه، فهو أولى بصفة الشكر من كل شكور، بل هو الشكور على الحقيقة.
فإنه يعطي العبد، ويوفقه لما يشكره عليه، ويشكر القليل من العمل والعطاء، فلا يستقله أن يشكره.
ويشكر الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.
ويشكر عبده بأن يثني عليه في الملأ الأعلى، وبين ملائكته.
ويلقي له الشكر بين عباده، ويشكره بفعله، فإذا ترك شيئاً لله أعطاه أفضل منه، وإذا بذل له شيئاً، رده عليه أضعافاً مضاعفة، وهو سبحانه الذي وفقه للترك والبذل، وشكره على هذا وعلى هذا.
فسليمان - صلى الله عليه وسلم - لما عقر الخيل التي أشغلته عن ذكر ربه أعاضه عنها متن الريح.
ولما احتمل يوسف - صلى الله عليه وسلم - ضيق السجن شكر الله له ذلك بأن مكن له في الأرض
يتبوأ منها حيث يشاء.
ولما بذل الرسل والمؤمنون أعراضهم في الله لأعدائهم فنالوا منهم وسبوهم أعاضهم من ذلك بأن صلى عليهم هو وملائكته.
ولما ترك الصحابة رضي الله عنهم ديارهم وخرجوا منها في مرضاته أعاضهم عنها أن ملَّكهم الدنيا، وفتحها عليهم.
ومِنْ شكره سبحانه أن يجازي عدوه بما يفعله من الخير والمعروف في الدنيا بأن يخفف به عنه يوم القيامة، فلا يضيع عليه ما يعمله من الإحسان وهو من أبغض خلقه إليه.
ومن شكره سبحانه أنه غفر للمرأة البغي بسقيها كلباً قد جهده العطش حتى أكل الثرى، وغفر لآخر بتنحيته غصن شوك عن طريق الناس.
وهو سبحانه يشكر العبد على إحسانه لنفسه، والمخلوق إنما يشكر من أحسن إليه، وأعظم من ذلك أنه سبحانه هو الذي أعطى العبد ما يحسن به إلى نفسه، وشكره على قليله بالأضعاف المضاعفة.
فهو سبحانه المحسن بإعطاء الإحسان وإعطاء الشكر، فمن أحق باسم الشكور منه سبحانه؟.
وشكره سبحانه يأبى تعذيب عباده بغير جرم، كما يأبى إضاعة سعيهم باطلاً، فالشكور لا يضيع أجر محسن، ولا يعذب غير مسيء كما قال سبحانه: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (١٤٧)} [النساء: ١٤٧].
ومن شكره سبحانه أنه يخرج العبد من النار بأدنى مثقال ذرة من إيمان، ولا يضيع عليه هذا القدر.
ومن شكره سبحانه أن العبد من عباده يقوم له مقاماً يرضيه بين الناس فيشكره وينوه بذكره، كما شكر لصاحب ليس مقامه، ودعوته إليه.
ولما كان سبحانه هو الشكور على الحقيقة كان أحب خلق إليه من اتصف بصفة الشكر، كما أن أبغض خلقه إليه من عطلها، واتصف بضدها، وهذا شأن أسمائه الحسنى كلها.
أحب الخلق إليه من اتصف بموجبها.
وأبغضهم إليه من اتصف بأضدادها.
ولهذا يبغض سبحانه الكفور والظالم، والجاهل والبخيل، والجبان واللئيم.
وهو سبحانه جميل يحب الجمال، رحيم يحب الراحمين، محسن يحب المحسنين، شكور يحب الشاكرين، عفو يحب العافين.
وكل ما عرفه الخلق كلهم من نعم الله تعالى بالإضافة إلى ما لم يعرفوه أقل من قطرة في بحر كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨)} [النحل: ١٨].
والخلق لم يقصروا في شكر النعمة إلا للجهل والغفلة، فإنهم منعوا بذلك عن معرفة النعم، ولا يتصور شكر النعمة إلا بعد معرفتها.
ثم إن عرف العباد نعمة ظنوا أن الشكر عليها أن يقول أحدهم بلسانه: الحمد لله، والشكر لله فقط، ولم يعرفوا أن معنى الشكر أن تستعمل النعمة في إتمام الحكمة التي أريدت بها، وهي طاعة الله وعبادته، ولله تعالى في كل موجود حكمة ونعمة فليشكر العبد ربه عليها.
والشكر على ثلاث درجات:
الأولى: الشكر على المحاب، فكل الخلق في نعم الله، وكل من أقر بالله رباً، وعلم تفرده بالخلق والإحسان فإنه يضيف نعمته إليه، لكن الشأن في تمام حقيقة الشكر، وهو الاستعانة بها على مرضاته.
الثانية: الشكر في المكاره، وهو أشد وأصعب من الشكر على المحاب، ولهذا كان فوقه في الدرجة، فالمسلم لا يحب المكروه، ولا يرضى بنزوله به، فإذا نزل به مكروه شكر الله تعالى عليه، فكان شكره كظماً للغيظ الذي أصابه، وستراً للشكوى.
وهذا الشاكر قابل المكاره الذي يقابلها أكثر الناس بالجزع والسخط وأوسطهم بالصبر، وأقلهم بالرضا، قابلها هو بأعلى من ذلك كله، وهو الشكر والحمد.
الثالثة: أن لا يشهد العبد إلا المنعم، فهو مشغول بمراده منه عن غيره، وواقف مع مراد الملك منه، لا مع مجرد حظه من الملك، وعبادة النفس أن يقف الإنسان مع مراده من الله، لا مع مراد الله منه.
مختارات