فقه التوكل (٢)
وسر التوكل:
هو اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها، كما لا ينفعه قوله توكلت على الله مع اعتماده على غيره وركونه إليه.
فتوكل اللسان شيء، وتوكل القلب شيء آخر، فقول العبد توكلت على الله مع اعتماد قلبه على غيره مثل قوله تبت إلى الله وهو مصر على معصيته مرتكب لها.
والتوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه، فهو كالدعاء الذي جعله الله سبباً في حصول المدعو به.
فإن قيل: المتوكل فيه المدعو بحصوله إن كان قد قدَّر حصل، توكل أو لم يتوكل، دعا أو لم يدعُ؟.
وإن لم يقدَّر لم يحصل، توكل أو لم يتوكل، ولو ترك العبد التوكل والدعاء ما فاته شيء مما قدِّر له؟.
فيقال: بقي قسم ثالث وهو الواقع، وهو أن يكون قد قضى الله بحصول الشيء عند وجود سببه من التوكل والدعاء، فنصب سبحانه التوكل والدعاء سببين لحصول المطلوب، وقضى الله بحصوله إذا فعل العبد سببه، فإذا لم يفعل السبب لم يحصل.
كما قضى سبحانه بحصول الشبع إذا أكل، وحصول الري إذا شرب، فإن لم يفعل لم يشبع ولم يرو، وقضى بحصول الولد إذا جامع الرجل المرأة، فإن لم يجامع لم يخلق الولد، وقضى بطلوع الحبوب التي تزرع بشق الأرض، وإلقاء البذر فيها، فإذا لم يفعل ذلك لم يحصل إلا الخيبة.
وقضى سبحانه بدخول الجنة لمن أسلم وأتى بالأعمال الصالحة، فإذا لم يسلم ولم يعمل صالحاً لم يدخلها أبداً.
فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل.
ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب، وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بها.
فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه، والتوكل متعلق بربوبيته وقضائه وقدره.
فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية.
ومن نفى الأسباب فالبهائم أفقه منه؛ لأنها تسعى في السبب بالهداية العامة.
ولا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده، بل حقيقة التوكل:
توحيد القلب، فما دامت فيه علائق الشرك فتوكله معلول مدخول، وعلى قدر تجريد التوحيد تكون صحة التوكل.
فإن العبد متى التفت قلبه إلى غير الله نقص من توكله بقدر ذلك الالتفات.
ومن هنا ظن بعض الناس أن التوكل لا يصح إلا برفض الأسباب، وهذا حق، لكن رفضها عن القلب لا عن الجوارح.
فالتوكل لا يتم إلا برفض الأسباب عن القلب، وتعلق الجوارح بها، فيكون منقطعاً عنها بقلبه، متصلاً بها ببدنه، وتلك سنته - صلى الله عليه وسلم -، وفعله وأمره.
فخلع الأسباب من القلوب توحيد، وتعطيل الأسباب إلحاد وزندقة، فخلعها عدم اعتماد القلب عليها وركونه إليها مع قيامه بها، وتعطيلها إلغاؤها عن الجوارح.
فالذي أمر بالتوكل بقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣)} [المائدة: ٢٣].
هو الذي أمر بأخذ الحذر بقوله: {خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (٧١)} [النساء: ٧١].
ولم يأمر الله بالتوكل إلا بعد التحرز واستفراغ الوسع كما قال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)} [آل عمران: ١٥٩].
أما أركان التوكل:
فالتوكل حال مركبة من عدة أمور لا تتم حقيقة التوكل إلا بها: وأول ذلك معرفة العبد بالرب وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته، وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته.
وهذه المعرفة أول درجة يضع فيها العبد قدمه في مقام التوكل.
والثاني: إثبات الأسباب على الجوارح، ورفضها عن القلوب، ومن نفاها فتوكله مدخول.
والثالث: اعتماد القلب على الله وسكونه إليه، بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأسباب، ولا سكون إليها.
وعلامة هذا: أن لا يبالي بإقبالها وإدبارها، ولا يضطرب قلبه ويخفق عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما يكره؛ لأن اعتماده على الله وسكونه إليه واستناده إليه قد حصنه من خوفها ورجائها.
الرابع: حسن الظن بالله، فحسن الظن بالله يدعو العبد إلى التوكل عليه، إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به، ولا التوكل على من لا ترجوه.
والخامس: استسلام القلب لله، والانقطاع عما سواه، بأن يكون العبد بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف أراد ولا يمتنع منه، ولا يكون له حركة ولا تدبير، بل يستسلم لتدبير الرب، وهذا في غير باب الأمر والنهي، بل في باب القضاء والقدر، أي فيما يفعله الرب بالعبد، لا فيما أمرك الرب بفعله.
فتنبه.
مختارات