فقه التوكل (١)
قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣)} [المائدة: ٢٣].
وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (٣)} [الطلاق: ٣].
التوكل من أعظم مقامات الدين وأجلها وأفضلها.
وقد أمر الله أنبياءه ورسله وعباده بالتوكل عليه، وحثهم عليه في جميع أحوالهم، وفيما أمرهم به، وفيما تعبدهم به.
وأخبر سبحانه أنه يحب المتوكلين عليه، كما يحب الشاكرين والمحسنين وأخبر سبحانه أن كفايته للناس مقرونة بتوكلهم عليه، وأنه كاف من توكل عليه.
وجعل سبحانه لكل عمل من أعمال البر جزاء معلوماً، وجعل نفسه جزاء المتوكل عليه وكفايته كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: ٢، ٣].
ثم قال في التوكل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (٣)} [الطلاق: ٣].
فالتوكل أقوى السبل عنده وأحبها إليه، والتوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة.
والإنابة هي العبادة.
وقد خاطب الله بالتوكل أحب الخلق إليه، وأقربهم إليه، وأكرمهم عليه وهم المؤمنون، وأمرهم به، وجعله شرطاً في صحة إيمانهم، فمن لا توكل له لا إيمان له فقال سبحانه: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣)} [المائدة: ٢٣].
وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)} [الأنفال: ٢].
وأخبر سبحانه عن رسله أن التوكل على الله ملجؤهم ومعاذهم في جميع أحوالهم فقال عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥)} [يونس: ٨٤، ٨٥].
فالتوكل أصل لجميع مقامات الدين من الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، ومنزلته منها منزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل.
وينشأ التوكل من علم العبد أن الأمور كلها بيد الله، والخلائق كلها في قبضة الله، وهي موكولة إليه سبحانه.
وأن العبد لا يملك شيئاً منها، فهو لا يجد بداً من اعتماده عليه، وتفويض أمره إليه، وثقته به من الوجهين:
من جهة فقر العبد إلى ربه وعدم ملكه شيئاً البتة.
ومن جهة كون الأمر كله بيد الله، والتوكل ينشأ من هذين العلمين.
ومقصود التوكل على الله تسليم الأمر إلى من هو له، وعزل نفسه عن منازعة مالكه واعتماده عليه فيه، وخروجه عن تصرفه بنفسه وحوله وقوته وكونه به إلى تصرفه بربه وكونه به سبحانه دون نفسه كما قال سبحانه عن رسله: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)} [إبراهيم: ١٢].
فالأنبياء وأتباعهم يتوكلون على ربهم في جلب مصالحهم، ودفع مضارهم؛ لعلمهم بتمام كفايته، وكمال قدرته، وعموم إحسانه، وسعة رحمته.
وتوكل الأنبياء في أعلى المطالب وأشرف المراتب، وهي التوكل على الله في إقامة دينه ونصره.
وهداية عبيده.
وإزالة الضلال عنهم، وهذا أكمل ما يكون من التوكل.
ومجموع الدين أمران:
أن يكون العبد على الحق.
وأن يكون متوكلاً على الله.
{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩)} [النمل: ٧٩].
والإنسان آفته: إما من عدم الهداية.
وإما من عدم التوكل.
فإذا جمع مع الهداية التوكل فقد جمع الإيمان كله.
والناس في التوكل متفاوتون:
فمن متوكل على الله في حصول الملك.
ومن متوكل على الله في حصول رغيف.
ومن متوكل عليه في جلب مصلحة دينية أو دنيوية.
أو دفع مفسدة دينية أو دنيوية.
ومن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله.
فإن كان محبوباً لله مرضياً له كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطاً مبغوضاً كان ما حصل له بتوكله مضرة عليه.
وإن كان مباحاً حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحة ما توكل فيه، إلا إذا استعان به على طاعته.
والتوكل عمل القلب، وعلم القلب بكفاية الرب للعبد، وانطراح القلب بين يدي الرب يقلبه كيف يشاء.
والمتوكل من رضي بالله وكيلاً، ورضي بكل ما يفعل الله، وتعلق بالله في كل حال.
والتوكل: أن لا يظهر في العبد انزعاج إلى الأسباب مع شدة فاقته إليها، ولا يزول عن حقيقة السكون إلى الحق مع وقوفه عليها.
والتوكل على الله لا ينافي القيام بالأسباب، فلا يصح التوكل إلا مع القيام بها، وإلا فهو بطالة وتوكل فاسد.
والتوكل حال النبي - صلى الله عليه وسلم -، والكسب سنته، فمن عمل على حاله فلا يتركن سنته، فمن طعن في الحركة فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان.
والتوكل درجته أن يكون بعد التقوى التي هي القيام بالأسباب المأمور بها، فحينئذ إن توكل على الله فهو حسبه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: ٢، ٣].
فالتوكل هو التسليم لأمر الرب وقضائه مع فعل ما أمر به، والتفويض إليه في كل حال، وقطع علائق القلب بغير الله.
مختارات