فقه الاستفادة من الإيمان (٣)
فكل مخلوق لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله، والأشياء ومعية الأشياء لا تنفع، بل الذي ينفع هو الله وحده لا شريك له.
فنجتهد حتى يكون الله معنا، وإذا كان الله معنا فما نحتاج إلى غيره أبداً.
ومعية الله تكون معنا بثلاثة أشياء:
اجتماع القلوب.
العمل لوجه الله.
وأن يكون العمل على طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وبحسب اليقين على الله، وعلى قدرته ونصرته، تكون معيته معنا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: ٤٠].
فحفظه الله سبحانه حتى بلغ الدين للأمة، وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، ثم توفاه بعدما بلغ البلاغ المبين، صلوات الله وسلامه عليه.
وإذا تغير اليقين جاءت المصائب، ونقصت الطاعات، فقد يصلي المرء ويرى أن الصلاة تحجبه عن طلب الرزق.
فلو قيل له تصلي وتدخل الجنة قال نعم.
ولو قيل له تصلي والله يرزقك، قال هذا مشكل، ولذلك يترك الصلاة، ويشتغل بطلب الرزق، وهو يتلو: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥)} [البقرة: ٤٥].
فما أحرى المؤمنين بالاستفادة من قدرة الله، ومن خزائن الله بالإيمان والأعمال الصالحة، في الدنيا والآخرة.
ألا من مشمر إلى الجنة؟.
ألا من منافس في الفضائل والأعمال؟.
ألا منمسارع إلى الخيرات؟.
ألا من مشتاق إلى القصور والحور؟.
يا حسرة على العباد ماذا علموا وماذا جهلوا؟ وماذا ضيعوا؟.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (٦٦) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (٦٧) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٦٨)} [النساء: ٦٦ - ٦٨].
إن كل ذهب في العالم أجمع لو جمعناه لكان أدنى أهل الجنة عنده مثله عشر مرات، وكل شجر وثمر في العالم أجمع لو جمعناه لكان أدنى أهل الجنة عنده مثله عشر مرات.
وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام على الجواد المضمر السريع ولا يقطعها.
فسبحان من بيده ملك الخلائق أولها وآخرها، وملك المسافات بدايتها ونهايتها.
ومن قال (سبحان الله) غرست له نخلة في الجنة، وجميع أشجار الجنة من ذهب، فكم تكون أشجار الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين؟.
وقصور الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وعرضه وطوله مد البصر.
ومن صلى كل يوم اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة، فإذا صلى سنة كاملة كم يكون له قصر من ذهب؟.
فكم تكون قصور الأنبياء؟، وكم تكون قصور المؤمنين في الجنة؟.
ولو جمعنا جميع الذهب في الدنيا، وجميع الذهب الذي في جنات الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وجمعنا ما يعطى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من الذهب، فكل ذلك بالنسبة لما في خزائن الله كالذرة بالنسبة للجبل، لأن ما في الدنيا والآخرة مهما يكن فهو محدود، وما في خزائن الله غير محدود.
ولو أن الإنس والجن جميعاً سألوا الله، فالله يعطيهم كل ما طلبوا، ولا ينقص ذلك مما في خزائنه، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، لأن ما سألوه محدود، وما عند الله غير محدود.
«قال الله عزَّ وجلَّ يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ» أخرجه مسلم (١).
هذا بالنسبة للذهب، فكيف بخزائن النعم الأخرى من المياه والثمار، والحبوب، والفواكه، وخزائن النجوم والكواكب والشهب.
وخزائن الرحمة والقوة والمغفرة.
وخزائن الحكمة والحلم والعلم.
وخزائن الأرواح والأنفس.
وخزائن النبات والحيوان.
وخزائن النعيم والفرح والسرور.
وخزائن العذاب والغضب والبطش.
وخزائن الأمن والخوف.
وخزائن العالم العلوي والعالم السفلي.
فسبحان من هذه خزائنه.
ومن هذا ملكه.
ومن هذا قدرته.
ومن هذه عظمته.
يا حسرة على العباد ماذا فاتهم من الأوقات؟.
وكم حرموا أنفسهم من الخيرات والبركات؟.
ماذا زرعوا وماذا حصدوا؟.
وماذا قدموا؟.
وماذا أخروا؟.
إن علينا أن نحاسب أنفسنا كم مشينا في مراد الله؟، وكم مشينا في مراد النفس؟.
وقيمة الإنسان بصفاته لا بذاته، ففي المخلوقات من هو أكبر منه، وأقوى منه.
وأصل العبادة المحبة، وبرهانها ذكر المحبوب، وتنفيذ أوامره في كل وقت، فمتى يذكر العبد ربه؟، ومتى يستحي من معصيته؟.
وإذا عرفنا قيمة العمل وثمراته زاد تقديرنا للعمل، والإكثار منه، والتلذذ بأدائه، والمسارعة إليه، والمنافسة فيه، وأحسن الأعمال طاعة الله ورسوله في كل حال.
وأرزاق الدنيا والآخرة بيد الله، لكن أرزاق الدنيا تكفل الله بها، كما قال الله سبحانه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)} [الزخرف: ٣٢].
وأرزاق الآخرة لا بد لها من العمل، كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (١٩)} [الإسراء: ١٩].
وإذا عرفت القلوب عظمة الله، وسعة ملكه، وبره وإحسانه، وعظمة خزائنه فكيف لا تتوجه إليه، وتقف بباب أفقر خلقه إليه؟: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤)} [المائدة: ٧٤].
وهل في الكون من يستحق أن يعبد، ويستحق أن يحمد، ويستحق أن يسأل إلا الله وحده لا شريك له: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٧١)} [الأنعام: ٧١].
فبالإيمان والأعمال الصالحة يحصل للمؤمنين في الدنيا:
الفلاح.
والهداية.
والنصر.
والعزة.
والتمكين في الأرض.
وحفظهم من
الأعداء.
والأمن.
والنجاة من الهلاك.
والحياة الطيبة.
ونزول البركات.
ومعية الله.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٥٥)} [النور: ٥٥].
ويحصل لهم في الآخرة:
دخول الجنة.
والخلود فيها.
والتمتع بألوان النعيم.
والرضوان من الله.
ورؤيتهم له.
وسماع كلامه:
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)} [التوبة: ٧٢].
وحقيقة الدين ولبه اليقين.
وهو تغيير العواطف من المخلوق إلى الخالق، ومن الدنيا إلى الآخرة.
ومن ذات الله تنزل الأوامر الشرعية، ومن ذات النفس تخرج أوامر الشهوات، وللحصول على السعادة لا بدَّ من تقديم أوامر الله على أوامر النفس.
وجميع الأوامر التي أمر الله بها لها مقابل من الحسنات قولاً وفعلاً واعتقاداً، وجميع النواهي التي نهى الله عنها لها مقابل من العقوبات في الدنيا والآخرة.
وللاستفادة من قدرة الله لا بد من امتثال أوامر الله على طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وإذا عمل الإنسان الأعمال الصالحة والقلب متوجه إلى غير الله كانت هذه الأعمال سبباً للحرمان ودخول النار: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (١١٠)} [الكهف: ١١٠].
فبكمال الإيمان والتقوى يستفيد المؤمن من خزائن الله، والتقوى هي طاعة الله في كل حال.
وحفظ التقوى يقوم على أصلين:
البيئة.
والمذكر.
فآدم في الجنة وقع في المعصية لعدم البيئة والمذكر كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (١١٥)} [طه: ١١٥].
فعلاج النسيان بالتذكير.
وعلاج ضعف العزيمة بتكوين البيئة الصالحة التي تنشط الإنسان للطاعة، وتزجره عن المعصية.
وقد خلق الله الإنسان وجعل مقصد حياته عبادة الله وحده لا شريك له، وأذن له بالاستفادة من هذا الكون كما قال سبحانه: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)} [الأعراف: ٣١].
ولكن الإنسان خالف الأمر فجعل الضرورة مقصداً، وأسرف على نفسه، فنزلت به المصائب والعقوبات: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦)} [الأعراف: ٩٦].
والإيمان يزيد وينقص، وبقدر الجهد للدين يزيد الإيمان، ثم تزيد الأعمال، وعلى قدر الإيمان تكون الاستفادة فذرة من ذهب وجبل من ذهب كلاهما يسمى ذهباً، ولكن على قدر كمية الذهب تكون الاستفادة.
فذرة من ذهب، وجبل من ذهب، كلاهما يسمى ذهباً، ولكن على قدر كمية الذهب تكون الاستفادة.
وهكذا الإيمان، بذر الإيمان مثل الذرة فأجره على قدر إيمانه، ولكن من اجتهد على إيمانه حتى صار قوياً فأجره على قدر إيمانه، واستفادته من الإيمان بحسب قوته، ومن عنده شجرة ولم يجتهد عليها تسمى شجرة، لكن من اجتهد عليها كبرت وأخذ منها الثمار الطيبة الكثيرة.
وهكذا الإيمان، له شعب كثيرة، يجني المسلم من خلالها أنواع الثمرات، وجزيل الحسنات.
اللهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢٠١)} [البقرة: ٢٠١].
(١) أخرجه مسلم برقم (٢٥٧٧).
مختارات

